شوف تشوف

الرأيالرئيسية

عصر ما قبل الثورة الفرنسية

 

بقلم: خالص جلبي

من يراقب الأحداث في السودان وصراع الديكة العسكرية بين برهان بدون برهان وحميدتي بدون حمد يضحك، ومن عاصر هرب نصف الشعب السوري إلى القارات السبع، بعد ضربه بسبعين ألف برميل، ثم احتفاء الجامعة العربية بالمجرم يصعق، ومن يتأمل الجملوكيات (كائنات الهيبريد) الجديدة في الشرق الأوسط، يتذكر تجارب المصانع على مزج جينات الفئران مع جينات القطط. وحين يسمع عن تفجير العشرات في العراق، من شيعة وسنة وعجم وكرد، يتذكر عصر ما قبل الثورة الفرنسية فلنفتح الملفات.

في عام 1761 م كان الفيلسوف الفرنسي «فولتير» ملتجئا إلى مدينة «فيرني» السويسرية، بعد أن نجا بجلده من الملك فريدريك الألماني، ومنعه الملك الفرنسي من دخول الأراضي الفرنسية. وحتى يكون بمنأى من بطش الاثنين، فقد استراح هناك؛ فإن طاردته الاستخبارات البروسية هرب إلى فرنسا، وإن طاله الجواسيس الفرنسيون هرب إلى ألمانيا.

وكان في مدينة «تولوز» الفرنسية القريبة رجل يدعى «جان كالاس»، بروتستانتي المذهب، وله بنت اعتنقت الكثلكة. وفي يوم شنق ابنه نفسه، بسبب الإحباط في سوق العمل. وكان رجال الدين الكاثوليك يتمتعون بسلطة مطلقة في المدينة، ولا يسمح لأي بروتستانتي في تولوز أن يكون محاميا أو طبيبا صيدليا أو بقالا أو بائع كتب أو طباعا. ومُنِع الكاثوليك من استخدام أي خادم أو كاتب بروتستانتي. وفي يوم حُكِم على امرأة بغرامة قدرها ثلاثة آلاف فرنك، لأنها استعانت بقابلة بروتستانتية. ما يعادل الشيعة للسنة عندنا، أو بالعكس.

ويقول «ويل ديورانت»، صاحب كتاب «قصة الفلسفة»، إن القوانين كانت تقضي في تلك الأيام «بأن يوضع جثمان المنتحر منكسا عاريا على حاجز من العيدان المشبكة ووجهه إلى الأسفل، ويسحب بهذه الطريقة عبر الشوارع وبعدئذ يعلق على المشنقة».

ولكي يتجنب المدعو «كالاس» هذه الفضيحة، فقد حاول بكل سبيل ممكن أن يخرج بوثيقة تقول إن ابنه مات ميتة طبيعية. ولكن إشاعة رهيبة انتشرت في البلد، تقول إن الولد لم يشنق نفسه، بل إن جان كالاس قتل ابنه حتى يحول بينه وبين اعتناقه الكاثوليكية، كما فعلت أخته من قبل. فألقي القبض على الرجل، وبدؤوا في تعذيبه حتى مات. وهربت عائلته إلى فيرني لتقص الفاجعة على فولتير، ومن منفاه أطلق الرجل صيحته المعروفة: «اسحقوا العار».

لعل فولتير من القلائل الذين قضوا حياتهم في المنفى من أجل أفكارهم، وكتب 99 كتابا وعاش حتى سن 83، وسجن في الباستيل مرتين، وضربه الأوغاد بتوصية جيدة من النبيل «دي روهان»، أن يشبعوه ضربا دون رأسه، فقد يخرج منه يوما شيء عظيم. بعدها هرب إلى بريطانيا خائفا يترقب، قال رب نجني من القوم الظالمين. ويعتبر فولتير أول من اعتبر أن التاريخ ليس سير الحروب والملوك، بل مغامرات العقل، وأن تاريخا تسحب منه الفلسفة والفن لا يبقى من شيء يسمى تاريخا. وأن التاريخ لن يقف على قدميه، ما لم نبعد عنه اللاهوت. وهو المسار نفسه الذي سلكه ابن خلدون من قبل. ولم يرجع صاحبنا فولتير إلى باريس التي ولد فيها، إلا قبل موته بقليل، وعندما جاءه القس ليسمع اعترافه، سأله فولتير عمن أرسله؟ فقال: الله. فسأله فولتير أن يقدم أوراق اعتماده من الله، فولى ولم يعقب. 

وعند لحظة الموت جاءه قس ثان، رفض تقديم الغفران له، ما لم يوقع على اعترافه وإيمانه الكاثوليكي إيمانا راسخا، فطرده وسجل الكلمات التالية: «أموت على عبادة الله ومحبة أصدقائي وكراهية أعدائي ومقتي للخرافات والأساطير الدخيلة على الدين»، ووقع هذا البيان في 28 فبراير من عام 1778م، أي قبل انفجار الثورة الفرنسية عام 1789م بـ11 عاما.

إن العصر الذي عاش فيه «فولتير» كان يسجل تباينا في الحريات على طرفي بحر المانش، وفي فترة السنوات الثلاث التي قضاها هناك في بريطانيا لاجئا، لاحظ الفرق فوصف بريطانيا: «بأن فيها شعب له آراؤه الخاصة وحريته المميزة. شعب أصلح دينه، وشنق مليكه، وأنشأ برلمانا أقوى من أي حاكم في أوروبا، ولا وجود فيه للباستيل، وفيه ثلاثون مذهبا دينيا بدون قس واحد». وأعجب جدا بالحركة الدينية السلامية الكويكرز. وفي رسالة نشرها فولتير عن (أسئلة زاباتا)، وكان المدعو راهبا سمح لعقله بمناقشة المسلمات، فقال: «عندما يختلف مجلسان فيلعن أحدهما الآخر، فمن نصدق؟»، وعندما فشل في الحصول على جواب بسيط، بدأ الرجل يدعو إلى الله على نحو بسيط، فكان جزاؤه أن أحرق حيا عام 1631م.

ومنه اعتبر فولتير أن «أن أول كاهن كان أول محتال قابل أول أحمق»، وعندما وقع زلزال لشبونة فانهدمت الكنائس على رؤوس الناس فمات في ساعتين 30 ألفا من الناس، سخر من التفسيرات التي قدمت بأنها انتقاما من الله ضد الكاثوليك. وظهر صدق كلامه حينما ضرب الزلزال الجامع المنصور في طنجة بالمغرب، وأكمل طريقه إلى حافة الأطلنطي الأخرى فهدم مدينة بوسطن بزلزال أشد على رؤوس البوريتانيين. في الوقت الذي كان الناس في المراقص في باريس يلعبون.

 

نافذة:

فولتير أول من اعتبر أن التاريخ ليس سير الحروب والملوك بل مغامرات العقل وأن تاريخا تسحب منه الفلسفة والفن لا يبقى من شيء يسمى تاريخا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى