شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

عصر المسيح الدجال

 

 

بقلم: خالص جلبي

نعيش الآن عصر طوفان المعلومات وليس شحها، كما حصل مع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر من عام 2023م. وكمية الفيديوهات التي تقتحم التلفونات الذكية أكثر مما يتحمل من تخمة المعلومات، فيصيح امتلأ المخزون. وهكذا فنحن اليوم نعيش عصر المسيح الدجال في عالم النت، بين فضيحة مدوية ودجل صناعي يزعم الحديث مع الموتى، وخبر كاذب، وصورة وهمية، ورقيق أبيض. إنه بحر يغرق فيه أكبر سباح بدون بوصلة وشراع ونجم قطبي وشمال مغناطيسي، وهناك تسارع بالمعلومات تترتب عليه خسارة أو كسب ملايين، كما جاء في الكتاب الذي أصدرته سلسلة «عالم المعرفة» بعنوان «عصر مظلم جديد ـ رقم 497 غشت 2022». أما نحن من يكتب فأمامنا مشكلة مع دور النشر وأذرعها الطويلة، أننا نريد نشر الفكرة بأعظم عدد ممكن من المنابر، لأعظم قطاع واسع من شرائح القراء، في أكثر من لغة، وهم يريدون احتكار الكلمة، في عمل نصف مبرر؛ فلا تنطق الموسيقى، حسب رأيهم، إلا من ربابة بعينها. نحن نريد للنوت الموسيقية أن تدخل بطن أي آلة؛ فتصوت على نحو فريد، وهم يريدون تكرار الصوت بآلة مفردة، فما العمل؟ والموسيقى بآلة واحدة كالعود جميلة، ولكن تكرارها ممل، ولو كانت أشجى الأنغام، وحين سمع الضابط الفرنسي السيمفونية الخامسة لبيتهوفن، لم يكن أمامه إلا أن ينتصب مذهولا من سحر انسياب الأنغام؛ فيصرخ في قاعة علاها خشوع الصمت: جاء الإمبراطور! يقصد الكمال الذي ما بعده كمال. وعندما سمع مشركو قريش سورة «النجم»، سجدوا لهذا المزيج المذهل المتدفق، من عمق المعنى، وبديع الفقرات، وتماسك الأفكار، وجرس الصوت، وموسيقى الألفاظ. فأما الطبيعة فقد نوعت الأنغام بين عويل الريح، وحفيف الشجر، بين هزيم الرعد، وخوار البقر. بين خرير المياه، وطنين النحل. بين هديل الحمام، وشدو البلابل، في سيمفونية كونية رائعة. أما نحن فنريد ثقافة رأسمالية تعتمد احتكار كل شيء بما فيها احتكار الفكر،

ولكن لا بد للفكرة أن تتنفس وإلا اختنقت. والدماغ الذي لا يدخله أكسجين تموت فيه النورونات احتراقا، والماء الذي لا يتدفق يتحول إلى مستنقع يصدِّر البعوض ويفرخ الحشرات ومعها الأمراض. والدم الذي لا يتدفق في شرايين الجسم، يعطب الأعضاء النبيلة بالتخثر القاتل وانفجار الأنورزما.

والمال الذي لا ينساب في مؤسسات المجتمع، تحل عليه اللعنة الفرعونية، بتشقق المجتمع إلى طبقات وشيع، تستضعف شريحة الأقلية سواد الأكثرية. كما كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين. 

كان الفيلسوف محمد إقبال في دعائه يقول: يا رب إما أن ترسل لي من يفهم علي، أو تنزع هذه الأفكار من رأسي!

إن انحباس الأفكار في دماغ المفكر يدفعه إلى الجنون أو الانتحار أو الانسحاب، ولم يكن من فراغ أن انتحر أعظم روائي وزوجته في ظروف صعود النازية «ستيفان زيفايغ» الذي قرأت له أمتع القصص؛ ماجلان، وساعات القدر في تاريخ الإنسانية، ورجال عظماء من القرن.

إن ركود الماء يدفعه إلى العفن الخبيث، وتراكم الدم في مساحات وبؤر يقوده إلى التقيح، أو انفجار أمهات الدم، وتراكم الثروة في يد الأقلية يقلب التوازن الاجتماعي؛ فينشط الشغب وتنفجر الثورات، فلا توزع الثروة، بل تنهب، وتطيح الأكثرية المستضعفة بالأقلية المستكبرة، لتستبدل بها أقلية جديدة فاسدة أكثر من الأول، ويستمر التاريخ في الضحك إلى حافة القهقهة.  

إن كلا من (الفكر) و(الماء) و(الدم) و(المال) تمثل طاقات نوعية. الفكر للعقل، والماء للطبيعة، والدم للبيولوجيا، والمال للمجتمع. وكما كان الدم أحمر في الأوعية، كذلك كان الدم الأصفر (الذهب) في شرايين المجتمع. وكل جهاز له طاقة تحريك، فالفكر يشغل جهاز العقل، والأرض تحيا بعد موتها بالماء؛ فإذا أنُزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. والدم ينقل الأكسجين والغذاء، وكل فرق جهاز المناعة؛ لترميم وتجديد البدن. والمال دم المجتمع، والويل لذلك المجتمع، الذي لا يحسن تفتيت الثروة، وتوزيعها العادل، أو عدم الاستفادة من إصلاحات صولون في الاقتصاد الاجتماعي كما فعل يوما بأثينا، فنجت من الثورة المدمرة للثروة! وإصلاحات صولون صارت مثلا لمن يريد إلهام المجتمع الحلول. إن أكسجين الفكرة سريانها بدون حدود، من خنادق نحبسها في منابر بعينها؛ فنشاط المجتمع هو من نشاط حيوية نظامه المعرفي. نحن نعاني من اختناق فكري، نحن نئن من عفن الماء الاجتماعي؛ بركود الحياة السياسية، التي خنقت العربان في أوكار الوطاويط، ورزحت الجملوكيات على ظهور الكوابيس، لنائم يشخر بدون عودة إلى الوعي.

نحن نشكو بدون أمل في الخروج من النفق المسدود، من توزيع فوضوي للثروة ضمن الدولة الواحدة، وبين الدول العربية، فمن يملك الثروة في عالم العروبة عائلات مسلحة ومافيات وعصابات شرهة بأكثر من شراهة الجرذ لجبن معفن. أما بين الدول العربية فواحد في جنات ونهر، وآخر في سقيم وسقر.

مع هذا فالكلمة الطيبة تستعصي على الاحتكار، والطيور النشيطة تحب الهجرة، كما أكتب الآن من كندا. والدماغ يحتاج إلى الأكسجين، والعقل إلى تجديد الفكر، والجنين إلى مغادرة دفء الرحم، ودودة القز من مغادرة الشرنقة، وامتن الله على نبيه بتزويجه من نساء سائحات ……

إن مفهوم نساء سائحات يجعل مفسري القرآن في حالة دوار دائم، فكيف تسيح امرأة ونحن نعلم أنه في كل دولة وزراة سياحة واصطياف؟ فوجدوا أفضل حال بقلب العصا ثعبانا والذهب حجرا، فقالوا هن الصائمات. وكان بإمكان القرآن أن لا يقول سائحات، بل صائمات، فهل من حل لهذا اللغز؟

 

نافذة:   

كل جهاز له طاقة تحريك فالفكر يشغل جهاز العقل والأرض تحيا بعد موتها بالماء فإذا أنُزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى