عصر السحر العربي
بقلم: خالص جلبي
70 في المائة من المعتقلين السياسيين في العالم مكانهم في السجون العربية، و80 من الإعدامات السياسية والمشنوقين والمقطوعة رقابهم تتم في أرض العروبة، مع أن عدد العرب 5 في المائة من الأنام. ولكن هذا اعتبر في نظر (رفيق) ثوري، أنه الدليل على حيوية الشارع العربي. وهو يعني بالتالي أن الدليل على خمول شعب ما قلة المعتقلين فيه. فالاعتقال دليل المقاومة، وتحت هذا التعريف (الثوري) يصبح الشعبان الألماني والكندي سيدي الأمم في الكسل، لعدم وجود معتقلين. وهو يذكر بالقصة التي تروي عن المجنون حينما سئل: لماذا عمل الجسر؟ أجاب: كي يمر النهر من تحته!
ومشكلة المسيح عليه السلام كانت مع طائفتين من الناس، (الكتبة) و(الفريسيين). فأما (الكتبة) فهم المتشددون الذين يقرؤون النصوص بعيون الموتى، وأما الفريسيون فهم (مثقفو السلطة) الخبثاء الذين لا ينقصهم ذكاء، ويجيدون تزوير الحقائق باللعب بالكلمات. ولكن اللعب بالنار لا يجعل النار لعبة، ولكن بقدر ذكاء الشيطان، بقدر اللعنة التي تلبسته. وتاب الله على آدم لاعترافه بالخطأ، فهذا الفرق بين آدم والشيطان وساء قرينا.
وبين الحين والآخر هناك من يتقدم للانتخابات للمرة (x) في العالم العربي، تحت هتاف الحزبيين: «بالدم بالروح نفديك يا أبو الجماجم». والنتيجة معروفة، والكل يكذب، والكل يرقص في الاحتفالات، والكل يمارس كوميديا يقودها ساحر كبير في المسرح.
وأتذكر تعويضات ليبيا عن طائرة لوكربي بـ 2,7 مليار دولار والاعتراف بالمسؤولية الجنائية عن الحادث، وهو تأكيد جديد على أيام السحر التي يعيشها العرب، حتى قذف القذافي بشواظ من نار ودفن في قبر مجهول. والطبيب يعرف حرارة المريض بميزان الحرارة، فيفهم لماذا يهذي من وطأة الحمى. وإذا كان المتربعون على عرش التوجيه الرقاصات والطبالون، فتودع من الأمة.
وصدام صدم بالدهشة حتى شنق، ودخلت العراق بعد الديكتاتورية في التفسخ والفوضى والطائفية، في الوقت الذي تتطوع فيه مواقع بنشر خطاباته الميتة، ومن رماد صدام خرج ألف مصدوم. والقرآن علمنا قاعدة أن لا نفرق بين أحد منهم فهناك (صداديم) كثر، ولكن لا أحد يتكلم عنهم ولا يتجرأ، وإن فقد أحدنا عقله وكتب عنهم لم ينشر. والمشكلة أن صدام موجود في قلب كل واحد منا ينتظر فرصته للانقضاض. وأول سورة نزلت من القرآن عالجت مشكلة الطغيان، وتكررت كلمة (الطاغوت) في المصحف ست مرات، و(الطاغية) مرة واحدة، ومشتقات (الطغيان) ثلاثين مرة. وفي مكان مزج الجبت مع الطاغوت، أي السياسي مع الديني. وفي مكان اعتبر عبيد السياسة نظراء القردة والخنازير. واعتبرالقرآن أن المشكلة ليست في صدام والأسد ونيرون وهتلر وأشباههم، بل هي مشكلة (إنسانية) مختبئة في تضاعيف نفس كل إنسان، لا يختلف فيها العربي عن الأمريكي. وكلمة الإنسان في سورة «العلق» معرفة (الإنسان) وليست نكرة فتشمل كل إنسان. والطغيان بذلك موجود (كمونيا) في قلب كل واحد، ويجب أن لا نثق بأي إنسان مهما بلغ من الطيبة، إذا وضع يده على (القوة) ما لم يفرمل فيكبح. ولا يمكن لأي سيارة أن تصنع في أي مكان في العالم بدون فرامل، إلا في العالم العربي. فكل السيارات السياسية في العالم العربي تمشي بدون فرامل، فنحن في سلسلة من الكوارث من بغداد إلى القاهرة والبليدة. ولو أن أي (معارضة) وضعت يدها على (القوة)، ما كان في يد صدام لفعلت ما فعل صدام؛ فهذا قانون وجودي مثل تمدد المعادن بالحرارة. ولو حمل صدام إلى فرنسا وحمل (رئيس فرنسي) إلى العراق، وراقبنا ما يحدث في هذه التجربة المثيرة، فسوف نفاجأ بعد زمن ليس بالطويل بصدام مهذب بدون شوارب. ورئيس فرنساوي اعتمر اللباس العراقي، وأطلق شاربه الستاليني، ووضع على جنبه غدارة محشوة بطلقات قاتلة.
وهذا يكشف الغطاء عن المعادلة الاجتماعية والثقافية للإنسان، وأن المجتمع يشكل الإنسان فيمنحه الجينات والدين واللغة والثقافة، ولكن الأخطر هو الثقافة. والثقافة يمكن أن تشكل الإنسان بأشد من مصانع الفولاذ لخام الحديد؛ فتخرج سيارة «مرسيدس» أو حاوية قمامات، ومن يخرج عن الثقافة يطحن بأشد من البسكويت. وفي عالم الأرانب والدجاج يعالج المجروح من رفاقه ليس بالضماد والمطهرات، بل بالنقر والعض في مكان الدم حتى الموت.
ويبدو أن العالم الذي نعيش فيه أصبح شماليا غربيا يضم الأعضاء النبيلة ومراكز الفهم، وجنوبيا سفليا ومنه عالم العرب يضم الأمعاء والأقدام. وتريد المخابرات مكافحة انتشار المعلومات، مثل ساحرات العصور الوسطى بمكانس لإسقاط أطباق طائرة تمر فوق رؤوسهم بسرعة الضوء.
والقرآن استخدم كلمة (الرب) على لسان يوسف مع السجناء، فقال لمن سأله عن تفسير المنام ارجع إلى (ربك)، ويوسف هنا لم يقصد بهذه الكلمة رب السماوات والأرض وما بينهما، بل الرب الفعلي في حياة الناس، فرعون. وتشبه الجيوش العربية مدارسها مثل الضابط بالنسبة إلى الجنود والجنرال للضباط والطاغية مقابل الجنرالات، فتختزل إرادة الجماعة بإرادة فرد، ويتم سحب الأبعاد الثلاثية للإنسان (التفكير والإرادة والاستقلالية)، لينقلب إلى مسدس أو بوق للقتل أو الهتاف. وهل يمكن لجندي أن يفكر أو يستقل أو يعصي الأوامر أو يراجع رئيسه أو يناقشه. ومنه عقم مناهج التدريس في العالم العربي، فهي الرحم الذي أوجد الجيش. والمشكلة ليست في تغيير فقرات في المناهج، بل في تغيير جو التعليم القاتل برمته. وكما قمع الشاه الثورة الإيرانية، فإن الجمهورية (الإسلامية) قمعت الطلبة في صيف سنة 2003م، كما كان يفعل الشاه من قبل، وتحالفت على نحو استراتيجي مع أنظمة علمانية تكافح حركات إسلامية محلية بأشد من فيروس سارس وكورونا. وفي المثل العربي «يا حبذا الإمارة ولو كانت على الحجارة»، إننا نعيش عصر السحر العربي.