عصر الانحطاط العربي (2- 2)
بقلم: خالص جلبي
مع هذا الاضطراب الكوني على ما يبدو سوف تنمو الأصولية في كل مكان من الدينية والعرقية والوطنية، وتدخل فيها الأصولية الإسلامية والمسيحية، التي أسميها أنا أعداء المسيح من الصليبية الجديدة التي تغذي بعضها بسموم الحميم. ولسوف تتعاظم الجريمة المنظمة، واليوم ينفق على الجريمة 1.5 مليون مليون دولار، وهو ما يعادل التجارة الأوروبية في عام. وفي أمريكا يفتتح كل أسبوع سجن جديد يتسع لألف سجين، وينفق في كاليفورنيا على السجون ما ينفق على التعليم. وهكذا ففي الوقت الذي دخل العالم القرن العشرين بقدر كبير من التفاؤل، بقدر ما يدخله اليوم بكثير من عدم الثقة.
وفي الأول من يناير عام 1901م جاء في افتتاحية جريدة «شيكاغو تريبيونChicago Ttibune »، «أن القرن العشرين سيكون قرن الإنسانية والأخوة لكل البشر، وسيفوق في عظمته كل اكتشافات العلم وانتصارات الفن التي سبقته»، والذي ظهر أن القرن العشرين كان قرن الحروب العالمية والأوبئة مثل أنفلونزا 1918م، التي قضت في أربعة أشهر على البشر، أكثر مما قضت الحرب العالمية على الجنود في أربع سنوات. وفرخت العنصرية والنازية والفاشية والديكتاتوريات العسكرية بالانقلابات. وفيه ولد حق «الفيتو» مثل أي كائن مشوه لا يصلح لحل مشاكل العالم سوى خدمة نادي الأقوياء.
والآن يتفق العديد من المفكرين مثل المؤرخ (إيريك هوبسباوم Eric Hobsbawm 82y) من جامعة لندن، والفيلسوف (نوربرت بولتس Norbert Bolz) من جامعة إيسن من ألمانيا، وعالم التاريخ (رولف بيتر زيفرليه Rolf Peter Sieferle) من جامعة برلين، أن أفضل ما يوصف فيه القرن العشرين أنه كان «قرنا تزداد فيه الفوضى ويتناقص فيه النظام»، وعلى حد قول (هوبسباوم) كما في كتابه الشهير «عصر التطرف»: «إنه لا توجد أي قوة عظمى بما فيها الولايات المتحدة تسيطر وتنظم العالم، وإن الكون في فوضى عارمة». وهو بذلك يولد ولادة جديدة لا يتجرأ أحد على التنبؤ بها، فقد علمنا التاريخ مصير مسيلمة الكذاب.
لقد كتب الأمريكي (إدوارد بيلامي Edward Bellamy ) عام 1888م قصته المثالية بعنوان «العالم عام 2000م»، وتوقع أن يكون العالم «خاليا من الطبقات تعمه الأخوة، بدون سيارات وطائرات وقنابل نووية، يساق للناس رزقهم عبر شبكة هائلة من الأنابيب بالعشي والإبكار». واليوم بعد مرور أكثر من قرن على أحلام الكاتب بيلامي، نعرف أنها لا تزيد على هلوسة.
ونشر قسيس مجهول اسمه (توماس مالتوس) عام 1798م بحثا قصيرا بعنوان «تزايد السكان وأثره في مستقبل نمو المجتمع»، تنبأ بكارثة اجتماعية أمام تكاثر السكان وفق سلسلة هندسية أمام زيادة الغذاء، وفق سلسلة حسابية، ورأى أن الحل سيكون أحد أمرين: المجاعة أو الحرب أو كلاهما معا. وهو كان يتكلم عن عدد للسكان في الأرض لا يزيد على مليار، واليوم وصل الرقم إلى حافة ثمانية مليارات بدون مجاعة، وليست الحروب من أجل الغذاء أكثر من سياسة رجال قساة. وكرس البنتاغون معاهد خاصة لدراسة المستقبل اسمها (مستودعات التفكير Think – Tanks) ظهر أن أخطاء التنبؤ فيها تزيد على 80 في المائة. أما (هيرمان كان)، رئيس معهد (راند) للدراسات المستقبلية، فقد توقع لعام 2000 م أن لا يجد سوى 70 في المائة من الأمريكيين عملا. وتوقع (رافي بترا) كسادا مزلزلا للاقتصاد العالمي عام 1989م، على أساس الأزمة الدورية التي تحيق بالنظام الرأسمالي كل ستين سنة، وقدم نصائحه للناس أن يستعدوا لدخول سبع سنوات عجاف أشد من سني يوسف. أما (هاري فيجي) و(جيرالد سوانسون) فقد ذهبا إلى أفظع من هذا في كتابهما «الإفلاس الأمريكي عام 1995م» بقولهما: «لن يبقى للولايات المتحدة التي نعرفها اليوم أي وجود بحلول عام 1995م!». وانطلقا في هذه النبوءة التي رجت مفاصل الناس من فكرة مفادها أن الديون الأمريكية ستصل على صورة عصا الهوكي إلى مقدار 13 تريليون دولار، بحيث يدخل الاقتصاد الأمريكي حالة اللاعودة، كما في الصدمة اللامرتجعة عند الإنسان. وفي الطب توقعت وزيرة الصحة الأمريكية عام 1982م الوصول إلى حل لمرض الإيدز في أربع سنوات، واليوم وبعد مرور حوالي أربعين سنة على هذا التصريح لا يوجد لقاح ضده. ويحمل هذا المرض اليوم أكثر من 33.4 مليون إنسان، مات منهم 14 مليونا، وفي أمريكا وأوروبا 1.4 مليون مصاب بالمرض.
إذن إلى أين يمشي التاريخ؟ ومن يستطيع أن يتجرأ فيقول إلى أين يمشي؟ الشيء الأكيد أن التاريخ يمشي بخطى تقدمية على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع. والشيء الأكيد أن العالم العربي يعيش عصر الانحطاط، ولم يتغير كثيرا عن عصر كافور الإخشيدي. وأن الشمس طلعت من مغربها. وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. والسؤال ما هو هذا الذي بأنفسنا ويحتاج إلى التغيير؟
تقول الرواية إن طفلا نزقا أراد أن يعلمه والده ضبط النفس؛ فقال له: «كلما غضبت اثقب في الجدار ثقبا بطرق مسمار فيه»؛ ففعل؛ وكانت كثيرة ومريعة. قال له أبوه: «عندما تكف عن الثقب، ارفع مسمارا عن كل يوم لا تغضب فيه»؛ ففعل. وبقي فترة طويلة حتى رفع كل المسامير. نظر الطفل فرأى أن الجدار زالت منه المسامير، وبرزت محلها فوهات لانهاية لها من آثار الثقوب. استحى الطفل في نفسه فقال له أبوه: «قد نكف عن الغضب، ولكن الإهانات التي نفعلها مع الناس تبقى ندبات لا تزول مع زوال نزواتنا». وهذه هي قصة العالم العربي اليوم، فلو بكى أحدنا بقدر نهر دجلة فلن يعيد قتيلا إلى الحياة.