عبـد اللـه العـروي «المنفعة تحرك المجتمع أكثر من الحق»
يونس وانعيمي
نظرا للأهمية البالغة لتخصيص حيز يقربنا من رجال ونساء ساهموا في «صناعة» الوعي بتاريخنا ونسج ما يميزنا حضارة وثقافة ومجتمعا عن الآخرين. لكن الشيء المبدع والصعب في نفس الآن، يتمثل في كيفية اختيار وتحديد أسماء بعينها، نظن أنه بالتطرق «لمساهماتها» سنقرب القارئ من «الذات المغربية» ونقربهم من سماتها وملامحها الفسيفسائية التي ساهم في تشكيلها والوعي بها (ربما) فلاسفة ومؤرخون وفنانون مغاربة.
الصعوبة الثانية تكمن في «بلاغة وبيان» أسماء هذه اللائحة وما لها من اتصال مع ما نصبو إليه..، لأن الحضارة ما هي سوى وعي مسترسل للذات الفردية بالحاضر المندمج في وعيها بالماضي من أجل حرية المستقبل. وهو وعي مركب يساهم فيه «وسطاء» هم مثقفون يدورون (على اختلاف مشاربهم) في فلك التفكير بالذات (من نحن؟) للخلاص من قيودها (كيف نبلغ الحرية؟). سنتطرق لأسماء نؤمن بأنها طبعت تاريخنا الثقافي وطبعت وعينا بذواتنا كمغاربة، ولكن ليست لنا من هذا غايات سردية بيوغرافية حصرية؛ لأننا نظن أن ما يهمنا أكثر ليس كيف عاشوا كأفراد، بل تهمنا فاعلياتهم كمفكرين وماذا أنتجوا، وما يمكن لنا أن نستشف من مغامراتهم في الإجابة عن سؤال (من نحن بالذات في التاريخ والفلسفة والأدب والفن والسياسة؟ وكيف لنا الخلاص نحو الحرية بمعانيها الكاملة؟).
أصبح المفكر والمؤرخ المغربي، عبد الله العروي، مادة دسمة للكتابة الصحفية والفكرية والتحقيق التاريخي والروبورتاج الإعلامي الغزير، بالرغم من توجسه الدائم بل والمنهجي، من المجازفة في إعطاء التصريحات وإجراء الحوارات والحضور في المنتديات الخاصة والعامة، والتي يعتبرها العروي، نفسه، مناسبات تغلب عليها البهرجة وتغيب عنها النفاذية الإبستيمية (المعرفية). وهو شرط منهجي لا يتوفر عادة في التواصل الجماهيري.
محراب العزلة
«اختفاؤه» الدائم عن أنظار المجالس الفكرية وأنظار معجبيه كما منتقديه، وتخلفه المستمر عن حضور اللقاءات التي تحتفي بفكره وبإنتاجاته، جعل الكثيرين يرشقونه بمؤاخذات التكبر والتزهد في محراب العزلة الصوفية الفلسفية لمؤرخ، يقرع بين الحين والآخر، كما شخصية أحدب نوتردام، أجراسا تؤذن بمراجعات فكرية مستعجلة وحاسمة تهم قضايانا الوطنية:
أجراس يدقها بين الحين والآخر، سواء بكتابات مستجدة تحدث وتخرج ولا أحد يتوقع سلفا زمن وشكل خروجها، أو بحوارات صحفية مضبوطة الزمن والتوقيت وغزيرة المتون، أو كما حصل له مع القناة الثانية عندما خرج في زمن سياسي حساس ارتبط بنقاش سياسي حول التناوب التوافقي (بداية تسعينيات القرن 20)، ونزوله من محرابه ليوضح وينبه للنقاش العقيم حول اللغة العربية (برنامج أجلسوا أمامه نور الدين عيوش، داعية التدريج والفرنسة)، ويساهم فيه وهو يذكر بالثوابت التاريخية للمقوم اللسني العروبي، وأيضا بمداخل تحديث وتطوير هذا المقوم من منظور تاريخي وحضاري.
هكذا هو عبد الله العروي، شأنه شأن المؤرخين الملتزمين بقضايا الذات العربية والوطنية، والحداثة والحرية، لا يسعه زمننا اليومي ليتواصل معنا عبره، كما لا تسعه الإطارات الفكرية القائمة ولا الباراديغم الجاهز ليحاورنا من خلاله، ولا لغتنا المتداولة ليخاطبنا بها، لأنه، وباعتراف منه، لا يسرد لنا الوقائع التاريخية بل يحلل وظائف وإطارات المعرفة التاريخية نفسها المنتجة للفكر التاريخي، كما لا يسعنا أن ننتظر منه توفير إجابات خطية أوتوماتيكية عن تاريخنا، لأنه يحمل معه «معوله» ولا يتردد في هدم «الوثوقيات التاريخية حول المغرب»؛ وحذر جدا من الخلاصات والأكسيومات (أفكار مقفلة منطقيا تتحول لبديهيات) حول الهوية والمجتمع والتاريخ. وبالتالي، يصعب وضع إطارات جامدة نصنف من خلالها فكر العروي.
إجمالا، يصعب الفهم المتسرع والسهل لمنهج تاريخي إبستمولوجي يستعمل القطائع الإبستمية ليعيد بناء منهج معرفي أكثر توازنا وأقل وثوقية (غاستون باشلار). النتيجة الصارمة والمؤسفة بالنسبة للقراء المتسرعين والتعميميين هي صعوبة النفاذ للمنهج الفكري لعبد الله العروي.
يدفعنا الحديث عن المفكر عبد الله العروي، إلى الانجراف اللاإرادي نحو محاكاة تجريديته المفرطة ونسقط في النهاية ضحايا كتابات غير مفهومة. ولأن الأستاذ العروي، عكس ما يبدو، إنسان بيداغوجي متفاعل، يحرص على تدقيق ملامح منهجه ويضجر كثيرا من سوء الفهم المتربص بأفكاره، خصوصا وأفكاره محايثة لأشياء «نقدسها» كالهوية والوطن والتاريخ، فيخاف كثيرا على الخلط بين المفاهيم التي يعتبرها موادا أساسية لفكره. لم يكن بالسهل عليه، معرفيا، أن يعود بعد أكثر من ثلاثين سنة من التحليل الإبستمولوجي لتاريخ المغرب، ليكتب كتبا بيداغوجية حول المفاهيم المؤسسة لفكره (مفهوم العقل والدولة والديمقراطية…). ويكتب، أيضا، «مونولوغ» فلسفيا يحاور من خلاله نفسه ويشرح فيه رؤيته «البسيطة المركبة» للتاريخ. وقليلا ما نرى مثقفا يسبر التاريخ ويعيد صياغة المفاهيم ويكتب المحادثات والروايات بنفس الالتزام الذي يحركه هاجس الشرح. هو، إذن، مجهود يرسخ هواجس العروي كمثقف شديد الالتزام بما يصبو إليه.
سوء الفهم دفع كثيرا بالعروي لينوع أجناس كتاباته ويحدد بدقة أساليب لغات كتابتها ومواعد وأزمنة نشرها. وتجاوزا للتنميط الذي عانى منه العروي كمفكر عصي عن الفهم، التجأ لتقنية المحـــــاورات الذاتية (شبيهة بأفلاطونيات على الشاكلة العربية)، محاورات قامت عليها كتاباته الأخيرة (مؤلف استبانة 2016- مؤلف من ديوان السياسة 2009) وهو يهدف أولا إلى إخبارنا بأن هناك أسئلة معينة ومحددة يمكن له أن يجيب عنها (وليس كل الأسئلة)، ويهدف ثانيا ليعلمنا أنه، وتجنبا لمضيعة الوقت في «التبريرية» المصاحبة للحوارات الفكرية والإعلامية، يفضل أن يكون هو من يحاور نفسه.
من نحن
من نحن؟ بمنهجه التاريخاني (وهو منهج توليدي نقدي للتاريخ) لا يطنب العروي كثيرا في كتاباته حتى يسقط في فخ الإجابة الحتمية عن سؤال غير نهائي. «النحن» هو وعي مشترك بالواقع وبالتطلع (الحرية)، يتغير تحت وطأة تاريخ متحرك، لا قداسة فيه سوى العلية (موارد ومقومات تفضي لملامح ونتائج). هذا التاريخ الذي منه نجيب عن سؤال «من نحن» لا يعتبره العروي خطيا داروينيا يطمئننا بأننا نتطور حتما، كما لا يعتبره لولوبيا سيزيفيا مثلما صوره ابن خلدون، حينما صبغ التاريخ بشيء من الحتمية اللاهوتية من خلال وصفته المحددة لمصائر الأمصار بالنهضة ثم الاندحــــار. ثم سؤال «من نحن؟» عند العروي لا يعني دوما ما نظن أنفسنا به: ما نريده أن نكون ليس طوعا ما نحن عليه حقا. ولكي يحل هذه «المعضلة التاريخية» ينصحنا العروي بإعادة بناء الفكر بالذات في الجغرافيا ومادية التاريخ:
أرض عاش فيها سكان «أصليون» (يشك العروي في حسم أصولهم وكيف جاؤوا)، بغير مقومات «دولة»، فر إليها من بعد أندلسيون ويهود ومسيحيون ومشارقة. ساهمت عقيدة الإسلام (بالمحاكاة مع المشرق) في تشكيل نواة حكم مركزي ووعي مشترك بالهوية، بدأ أولا صوفيا دينيا دعويا (الأدارسة) وانتهى سياسيا إلى مركزة/مخزنة الاقتصاد والموارد والسلطة (العلويون). وهي دولة/مركز فضلت الامتداد جنوبا على أن تمتد شمالا وشرقا، وهو ما يفسر قديما عصيان أرض المغرب عن الإيالة العثمانية والهسبانية (وملامح هذا العصيان ما تزال قائمة لليوم). والعروي من المتشبعين بأن «فكرة الدولة» بأرض المغرب تشكلت سلطانيا وتوطدت مخزنيا ومركزيا ثم تطورت سياسيا فزادها نضال التحرر من المستعمر منسوبا من المشروعية. وهو نفس المركز/المخزن الذي رسخ المؤسسات والتقاطبات والثورات (السيبة لم تكن إلا تقاطب)، وهي كلها مقومات لدولة مدنية.
اعتراف العروي بالمساهمة التاريخية للمخزن (القوة المركزية السلطانية الدينية والاقتصادية) في بناء الدولة المغربية ودوره المركزي القديم والمعاصر والمستقبلي في تطوير بنيتها (لا مشروع حداثي بدون حداثة يقودها المخزن)، جر عليه انتقادات كثيرة، خصوصا من رفاقه وأصدقائه من اليسار الراديكالي (عدو مركزية المخزن). اتهم العروي «بالتمخزن»، وخصوصا عند قبوله عضوية أكاديمية المملكة (بعد حلق شاربه كما يقال)، وقبوله تمثيل الملك الحسن الثاني للتفاوض مع مثقفين فرنسيين ومؤرخين ورجال سياسة لتحسين صورة المغرب بفرنسا. يبرر العروي ذلك بأنه لم يذهب لتحسين صورة نظام وإنما لقول حقيقة حول دولة بما لها من مقومات، منبها إلى عدم المزج بين انتقاد مؤسسة وإهانة شعب وحضارة.
عن الشعب المغربي، لا يميل العروي إلى تنميطه كما تفعله السياسة والديماغوجيا. وكما يقر بحتمية محاكاة المغاربة لكل ما هو خارج عنه (خارجانية تطبع سلوك كل الحضارات)، يذهب العروي لخلاصات قد تكون قائمة لوصف هذا الشعب: «نفسية جماعية مقرونة باستمرار سلطة المخزن… قلت هذا في أحد كتبي فظن البعض أن في هذا الكلام تمجيدا للمخزن في حين أنها ملاحظة أنثروبولوجية… نعم للنفسية المغربية سلبيات وأكبرها ضررا للمجتمع هو التهرب من تحمل المسؤولية وتحاشي الحسم في أية مسألة».
هل فكر العروي اليوم متجــــاوز تاريخيا؟ كل فكر، وبمنطق نسق العروي نفسه، هو فكر يحكمه التاريخ بسياقه ومعطياته ومواده. واعترف العروي نفسه، في آخر حوار أجراه بقناة Sky News، بأنه مفكر لا يتوانى عن القيام بمراجعات كما التمعن في النقد الموجه لفكره وأطروحاته. يعترف بأنه أطر لمنظور الدولة في حقبة كان فيها الفكر القومي والوطني والقطري قويا بعيد الاستعمار، وهو زمن أطر منظوره للسلطة والمثقف والسياسي. اليوم، مفهوم الدولة، وفق معطيات العولمة والرقمنة والاقتصاد المفتوح والإنترنيت، لم تعد بذلك المنظور القومي، كما لم يعد المثقف ذلك المنخرط في قضايا التحرر والتقاطب. وحتى آليات التقاطب ما بين السلطة والمثقف تغيرت وعلى إثرها غير العروي مواقفه السلبية من المثقف العربي بالنظر للمعطيات التاريخية والأدوار المستجدة للثقافة.
أسس التحليل التاريخي
وبرغم ما يمكن أن يعتلي منهج العروي من محدودية (مراهنته على حداثة نموذجية واحدة عوض نماذج تاريخية ممكنة، ومراهنته على النقلة الحضارية الشاملة من الغرب للشرق…) إلا أنه يبقى مفكرا مغربيا فذا ومتميزا وضع أسسا صلبة وعقلانية للتحليل التاريخي وساهم في تعرف الذات المغربية على ذاتها من تاريخها المبني على جدلية تقاطب سلطة مركزية محافظة ودينامية تحديثية مستمرة النشوء والتطور.
إن عبد الله العروي، من خلال كل أعماله التي صدرت بالتتابع على مدى ثلاثة عقود تقريبا، أبدى تصميما كبيرا على تحليلاته الهيكلية بكتابه «الإيديولوجيا العربية المعاصرة»، ولم تزحزح الأحداث الراديكالية التي شهدها العالم، وبشكل خاص العالم العربي، قناعاته الفكرية والإصلاحية، فلا زال إلى يومنا هذا مؤمنا وفيا لتعاليم «كتابه»، ولا يفوت أي فرصة لتذكيرنا بأن روح الإيديولوجية العربية لا زالت حية، وقادرة في الآن نفسه على الإحياء.
فكل مرة يردد بصيغ وعبارات مختلفة «لا لحاق إلا بالإلحاق»، أي لا لحاق لأمة العرب بسطح العالم، وغرفة القيادة إلا بسياسة إلحاقية، قائمة على القطيعة، تدمج العرب في العصر ثقافيا وسياسيا، وأقصى ما نلاحظه في هذا السياق من تطور على فكر العروي، وقناعاته الإصلاحية، هو تطور في القاموس ولغة التعبير، أكثر مما هو تطور في المبادئ والمنهج والغايات؛ فبدل الماركسية الموضوعية، أخذ العروي، في السنوات الأخيرة، يتحدث عن الحداثة وشروط الالتحاق بها، وهي نفس شروط «الإيديولوجيا العربية».
كثيرة هي الانتقادات التي تم توجيهها للعروي، خصوصا في تمسكه بموقف وسطي حيال حكم الحسن الثاني وسلطته باعتبارها سلطة سيادية شديدة التمركز وشديدة التنافر ما بين الطقوسي والحداثي.
لكن العروي كان ينظر للأمور كمؤرخ ويؤمن بأن للحسن الثاني مكانته بين كبار شخصيات المغرب، مؤكدا أنه «يحاول أن يكون عادلا إزاء ملك يميل البعض إلى المبالغة في الإشادة به والبعض الآخر لإدانته».
في سطور
عبد الله العروي : من مواليد أزمور سنة 1933، مؤرخ وروائي مغربي.
تلقى تعليمه في العاصمة المغربية الرباط وتابع تعليمه العالي في فرنسا بجامعة السوربون وفي معهد الدراسات السياسية بالعاصمة الفرنسية باريس. حصل سنة 1956 على شهادة العلوم السياسية وعلى شهادة الدراسات العليا في التاريخ سنة 1958 ثم على شهادة التبريز في الإسلاميات عام 1963. وفي سنة 1976 قدم أطروحة بعنوان «الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية.. 1830-1912»، وذلك لنيل دكتوراه الدولة من السوربون.
سنة 1991 كلفه الملك الحسن الثاني بالتوجه إلى أوروبا لإقناع قادة اليسار الأوروبي بالكف عن حملتهم الإعلامية والسياسية ضد المغرب، فوافق العروي على هذه المهمة بدافع الوطنية، على حد قوله. فالتقى في ستراسبورغ جيل بيرو، مؤلف كتاب «صديقنا الملك»، الذي انتقد فيه بشدة الحسن الثاني، وقال له: «نعم للتنديد بالظلم والأخطاء والجرائم لكن لا للشتائم الموجهة إلى الملك التي تجرح دون فائدة شعور أغلبية المغاربة».
بدأ عبد الله العروي النشر سنة 1964 تحت اسم مستعار (عبد الله الرافضي). احتوى نتاجه الإبداعي على دراسات في النقد الإيديولوجي وفي تاريخ الأفكار والأنظمة، وأيضا العديد من النصوص الروائية. نشر أعماله في مجموعة من المجلات: أقلام (الرباط)، مواقف (بيروت)، دراسات عربية (بيروت)، (بالفرنسية: Les temps modernes)، ديوجين (باريس).
حاز على جائزة «شخصية العام الثقافية» في الدورة الحادية عشرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2017.