شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرحوار

عبد الله ساعف مبادرات الدولة هائلة ولها طابع استباقي

قال لي الأخبار إن تدبير مرحلة كورونا زادها قوة وعزز مشروعيتها

مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية في حوار مع «الأخبار»

 

عبد الله ساعف يعرض خلاصات التقرير الاستراتيجي للمغرب 2020/2024

 

الدولة قوت مكانتها المركزية والأحزاب وهيئات الوساطة زادت ضعفا

 

المغرب كان مضطرا لمواجهة جيل جديد من التحديات وقوته التفاوضية تحسنت

 

حاوره: النعمان اليعلاوي

 

سيرا على تقليد بدأ أول مرة سنة 1995، كشف مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية عن معالم التقرير الاستراتيجي المغربي 2020/2024، الذي يعدُّ التقرير الثالث عشر ضمن التقارير الصادرة في هذا الباب، المشخّصة للواقع المغربي والمستشرِفة للمستقبل والتحديات التي يطرحها وسبل مواجهتها.

ويقع التقرير الجديد للمركز، المعروف اختصارا بـ ” CERSS”، في أزيد من 600 صفحة موزعة على حوالي 100 ورقة بحثية تقع في جزأين: الأول خصص للعلاقات الخارجية المغربية والثاني يناقش الحياة السياسية الداخلية باستفاضة.

في هذا الحوار مع جريدة «الأخبار»، يعرض عبد الله ساعف، مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، أهم الخلاصات التي جاء بها التقرير، مبرزا الجواب عن سؤاله المركزي في «حالة القوة التفاوضية للمغرب داخليا وخارجيا».

 

ما الخلفيات التي كانت وراء صدور التقرير الاستراتيجي المغربي 2020/2024؟

تجب الإشارة إلى أننا بدأنا الاشتغال على فكرة التقرير الاستراتيجي للمغرب منذ عقود، واتضح لنا أنه من الضرورة أن نشرك المتخصصين من ذوي الاطلاع والتكوين في مراقبة الحياة السياسية واستخلاص العبر ومحاولة قراءة التطورات الممكنة، ومن هذا المنطلق عملنا على التقرير الأول سنة 1994، ومنذ ذلك الحين بدأ الاشتغال على تقرير دوري منتظم، خصوصا مع انخراط عدد من الباحثين في هذا التمرين المهم وكان طموحنا أن يتم إخراج هذا التقرير كل عام، غير أنه، بعد الوقوف على عدد من الشروط، منها أن مدة سنة أو سنتين غير كافية من أجل تجميع المعطيات والحديث عن التوجهات الاستراتيجية والتغيرات ورصد جميع العناصر، لذلك استقر الرّأي في ما بعد على أن يكون التقرير كل ثلاث سنوات وهي المدة التي يشملها التقرير اليوم.

وبشأن التقرير الاستراتيجي للمغرب (2020-2024) فقد شارك فيه أزيد من 60 باحثا، وتضمن حوالي 100 ورقة خلفية، حيث أن عددا من الباحثين يشتغلون على أزيد من ورقة، وهو الأمر الذي يمنح العمل على هذا التقرير صيغة العمل الجماعي المشترك، مع الصعوبات التي تطبع العمل الجماعي، على اعتبار أن التقرير يتطلب تجميع المعطيات لدى جميع الباحثين زيادة على مقارنتها وتدقيقها تجنبا لمغبة الوقوع في تناقضات أو تضارب للأرقام والمعطيات وكل ما هو كمي، زيادة على أن ثقافتنا تغلب المجهود الفردي لدى المثقفين والأكاديميين. لهذا، فخلال هذه السنوات ونحن اليوم إزاء التقرير 13، اكتسبنا تجربة مكنتنا من المرور من الحالة الوصفية التي قوامها الوصف وجمع المعطيات إلى التركيب والتركيز على ما هو أساسي وبشكل مقنع، ثم الاستشراف، علما أن الاستشراف هو مستويات، منها القريبة والمتوسطة والبعيدة، والتي تمتد لعقود.

 

ما المدى الاستشرافي للتقرير؟

كما أشرت سالفا، فالبعد الاستشرافي ينبني على ثلاثة مستويات، وخلال الفترة التي يتناولها التقرير الحالي هناك أحداث كان لها تأثير وانعكاسات كبرى، وأحداث مفصلية غالبا ما تكون مدفوعة بسيرورات ما زالت لم تكتمل إلى اليوم، ولا تسمح لنا فعلا باستشراف المستقبل القريب بشكل موضوعي، وفي الوقت نفسه، فإن هذا التقرير يندرج ضمن فئة النصوص التي تقتصر على استشراف ما يمكن أن يحدث خلال السنتين أو الثلاث سنوات المقبلة، وليس خلال 30 أو 50 سنة.

لقد كان التقرير الاستراتيجي المغربي الأخير (2019-2021) يتناول مرحلة تميزت، بشكل عام، بنوع من الاستقرار رغم التطورات التي عرفتها البلاد، كما كان تقريرا يندرج في سياق استمرارية الوقائع والمواقف والأفعال التي عرفها العقد الماضي، وتوالت تلك الأحداث دون أن تحمل معها تحولات فاصلة، أو قطائع كبرى أو تقلبات بارزة. منذ بداية العقد الثاني من القرن 21 كانت توقعات الأحداث والمبادرات المستقبلية، بناء على فحص للحقائق ومقاربة للبنى والحدس المنطقي، تشير إلى إمكانية حدوث ثلاثة سيناريوهات.

 

ماذا عن السيناريوهات أو الفرضيات التي وضعها التقرير؟

هذه السيناريوهات تتراوح بين استمرارية الوضع الراهن وإمكانية حدوث تراجع، وهما سيناريوهان غير محتملين على ما يبدو في السياق المغربي الحالي، أو حصول انتقال إلى مرحلة أفضل مثلا، من خلال وقوع انتقال ديمقراطي مكتمل يبدو أن شروطه ما زالت كلها غير متوفرة حاليا، وعلى هذا الأساس فجميع هذه الاحتمالات الثلاثة كانت تبدو مستبعدة، إذ أن الوضع في المغرب بدا أقرب إلى سيناريو يتميز بوضعية معقدة يصعب تدبيرها، ومليئة بالعراقيل والرهانات والتحديات التي يبدو على العموم أن البلاد بشكل أو بآخر نجحت في مواجهتها وتجاوزها.

رغم ذلك، وكما هو الحال في مجمل التقارير السابقة، فإن السؤال الذي يحاول التقرير الحالي الإجابة عنه هو كيف هي حالة القدرة التفاوضية للبلاد، داخليا وخارجيا؟ هل هناك تقدم على هذا المستوى؟ أو تراجع؟ أو إضعاف؟ أو تقلص؟ أو على العكس تقوية؟ أو اتساع؟ أم أنه ليس هناك أي تغيير؟ وما خصوصيات الفترة التي يغطيها هذا النص الذي نتجرأ على تسميته بالنص الاستراتيجي.

 

إذن ما أهم الملاحظات التي خلص إليها التقرير الاستراتيجي للمغرب خلال هذه الفترة المشمولة بالدراسة والتحليل؟

تجدر الإشارة إلى أنه يصعب على هذا التقرير الاستراتيجي، مثل التقارير السابقة، أن يقوم برصد جميع الوقائع والأفعال، وجميع الإشكاليات التي عرفتها الفترة التي يتناولها، وبالتالي، قد تكون هناك بعض العناصر الهامة التي أفلتت من تتبع ودراسة المحللين، ما تنبغي ملاحظته أيضا هو أنه تم بشكل شبه متعمد، حسب الأوراق البحثية المقدمة، عدم الاحترام الصارم للخطوط الزمنية الفاصلة خلال الفترة التي يغطيها هذا التقرير.

أما بخصوص الملاحظات فيمكن إجمالها في سبع، أولاها أن الدولة اتخذت، باعتبارها راعية وربة أسرة صالحة، التدابير اللازمة لحماية البلاد من المخاطر والتهديدات القادمة من الخارج والداخل، وكان سلوكها، على سبيل المثال، خلال وباء كوفيد 19 متميزا على المستويين الأمني والإداري.. إغلاق الحدود، تزويد السكان بالأقنعة الواقية، مختلف التجهيزات الطبية، إقامة مستشفيات للطوارئ، حملات التلقيح، تدابير أمنية مختلفة، قوانين صارمة في ما يخص السفر والتنقل داخل البلاد والعديد من التدابير على مستوى المساعدة الاجتماعية، ومن بين المميزات الرئيسية لهذه الفترة، أيضا، ينبغي تسجيل بروز السلطة الواسعة للدولة، وهي دولة يبدو أنها، إلى جانب قوتها الأصلية، استمدت القوة من تدبيرها المقنع نسبيا لمرحلة كوفيد 19، ومن صرامة تلك التدابير، حيث اكتسبت الدولة المزيد من القدرات، ومن الهيبة، وعززت من نفوذها، ورغم أن اللمسة السلطوية لم تكن ضرورية ورغم الاختلالات التي كشفتها أزمة كوفيد، فإن مشروعيتها كسلطة دولة تعززت بشكل محسوس، بل يمكننا القول إنه وقع تجديد لاحتكار العنف الشرعي الذي تجسده الدولة وعودة قوية إلى مفهوم السيادة، بحيث أن موارد الدولة وأدوات عملها، وركائزها وأجواء عودة الثقة فيها صارت تظهر ذات أهمية أكثر من أي وقت مضى.

أما الملاحظة الثانية، فمقارنة مع المكانة المركزية الجديدة للدولة ولقوتها، ظهر أن مكانة ودور مختلف الفاعلين والطبقة السياسية ومجموع الفاعلين الاجتماعيين أصبحت تحتل مواقع تكميلية أو ثانوية، بل مواقع هامشية، بالنسبة للبعض استطاعت العروض التي تقدمها الأحزاب، بالخصوص أن تتميز باستمرارية حضورها وحيويتها، حتى وإن كان أصابها الضعف مثلما أصاب عروض النقابات، والتنسيقيات والمجتمع المدني والحركات الاجتماعية، مختلف هؤلاء الفاعلين تجاوزتهم سلطة الدولة إلى حد كبير، وصاروا يتراجعون إلى هوامش المجال السياسي بشكل مشتت ومجزأ، وفي ظل مؤسسات مركزية ومحلية ذات أثر محدود، وأغلبيات وأقليات متواضعة التأثير، ونخب حكومية، ونخب معارضة هي موضوع احتجاج قوي.

ويبدو أن التمايز والتنوع بين الأيديولوجيات والمشاريع صار نسبيا بشكل متزايد وأصبحت الخطوط الأيديولوجية أو البرنامجية الفاصلة قليلة الوضوح، كل شيء أصبح متشابها: الانفصالات والانقسامات والتجمعات والتحالفات تبدو ذات طابع تقني، وبدون شعلة دافعة لها، ولا يحركها مبدأ الأمل إلا بصورة محدودة. هذا دون أن ننسى وجود مخاطر تحملها هذه الأوضاع تؤدي إلى تعطيل النسيج الحي للمنظومة المغربية ككل.

أما الملاحظة الثالثة فهي أن المشاريع الكبرى والمثيرة للدولة في قطاعات البنية التحتية، والفلاحة والتكوين المهني، والحماية الاجتماعية والمياه والطاقات المتجددة، والصناعات والتكنولوجيا الرقمية، وغيرها، تتجاوز المشاريع التي يمكن إطلاقها من قبل الفاعلين السياسيين الآخرين الذين يبدو أن قدراتهم على ابتكار وتصور وإنتاج مشاريع – برامج مجتمعية وتنفيذها يتم تقليص أهميتها بالمقارنة مع المبادرات الهائلة للدولة، وهي مبادرات صار لها طابع استباقي وتجديدي أكثر من أي وقت مضى، وقد أصبحت توجهات واستراتيجيات وبرامج الدولة تجعل مشاريع ومرجعيات وبرامج ورؤى الأحزاب السياسية وباقي الفاعلين ثانوية، بل أقل قيمة، حيث أن المستويات التي بلغها عمل وحركية الدولة تتجاوز الآن مستويات نظيراتها السابقة، ويبدو أن عصر البرامج الأيديولوجية والمذكرات المطلبية والبرامج الانتخابية التشريعية والمحلية، التي اعتادتها الأجيال السابقة، انتهى وأدوات العمل القديمة التي كان معمولا بها فقدت من جاذبيتها.

 

ماذا عن باقي الملاحظات والخلاصات؟

رابع الملاحظات، التي خرج بها التقرير، أنه رغم الوضع الاجتماعي الذي تطبعه حركات احتجاجية لها دوافع متعددة، تعكس عدم الرضا والسخط عن الأداء الحكومي مثل غلاء المعيشة ومطالب قانونية وأجرية، واحتجاجات فئوية متعددة وغيرها، فإن مؤشرات فيض ما يظهر هنا وهناك، وذلك في ظل رواج موارد كبيرة داخل المجال الوطني، الضرائب، تحويلات المغاربة المقيمين في الخارج، الثروات الموجودة فوق الأرض وفي باطنها، عائدات الفوسفاط، المنتوجات الصناعية، منجزات بعض المقاولات الكبرى العمومية والخاصة… بحيث يظهر أن الظرفية الحالية لا تطبعها الندرة، في ظل الحديث عن التمويلات الكبرى التي تتضاعف باستمرار من خلال العديد من الأوراش الواعدة، ومع ذلك لا نستطيع، حتى الآن، الحديث عن ظرفية تتميز بالوفرة، وبين وضع اجتماعي يتسم باتساع الاحتجاجات، والقدرة على تعبئة التمويل، تبدو الدولة بصدد البحث عن توجهات جديدة للسياسات العمومية التنموية، بعد أن بلغت السياسات القديمة مداها، وتمكننا الإشارة في هذا الصدد إلى عدد من الاستراتيجيات الجديدة، خصوصاً في مجال الطاقة والطاقات المتجددة، ولا يبدو أن هناك ضعفا في القدرة على تعبئة الموارد والوسائل على هذا المستوى.

أما خامس الملاحظات فتتعلق بعودة الدولة عبر تعزيز عمل الأجهزة الأمنية، إلى جانب تأطير ديني يقظ ومتزايد، واهتمامات أقوى بالجوانب الاجتماعية، ومراعاة أكبر للأبعاد الثقافية ولعل الحامل الرئيسي لهذه العودة، التركيز المتواصل على العمل الاجتماعي، والذي يؤثر على الحالة الذهنية الجديدة للمسؤولين عن الحكامة الشاملة في البلاد، ويعتبر إعادة تفعيل الدولة الاجتماعية من أهم مميزات المرحلة الحالية، وإذا كان التأكيد على الإشكاليات الاجتماعية وإبرازها أمرا لافتا للنظر، بحيث تبلورت العديد من المبادرات والديناميكيات، فقد تزامن ذلك مع بروز موجات جديدة من الاحتجاجات التي تم رصدها بإسهاب في الأوراق البحثية لهذا التقرير وهي انشغالات اجتماعية أو سياسية.

 

ماذا بخصوص الجانب القيمي والسياسي الداخلي؟

في هذا الجانب، سجل التقرير، كملاحظة سادسة، أن هناك العديد من التحولات والانتقالات الجارية حاليا في المجال المغربي (في السياسة والاقتصاد والمجتمع، والثقافة والمرأة والشباب… إلخ). فانهيار البنيات الكلاسيكية أدى إلى تحطم العديد من مكونات المنظومة الشمولية الاجتماعية القديمة، كما يطبع «النخب» تشتت كبير، وهناك انقسامية متزايدة تتجلى في تنوع الإشكاليات التي يعرفها النقاش العمومي، وفي انعكاساتها على المبادرات العمومية، أي في ترجمتها إلى سياسات عمومية وبرامج ملموسة.

انبعثت، كذلك، نزعة فردانية جامحة من رماد الانهيار التدريجي للبنيات والهياكل السابقة. بحيث وقع نوع من إعادة تشكيل الأسرة المغربية على مستوى أبعاد ووزن الفئات المختلفة للطبقات الوسطى. وتراجعت كثير من أشكال الجماعات الأولية، نتيجة التطورات الديموغرافية والاجتماعية. كما فتحت التطورات الحاصلة على مستوى منظومة القيم السائدة المجال أمام حدوث تمفصلات جديدة.

هذه الهزات الصامتة التي يعرفها الكيان المغربي ترتب عليها بروز وانتشار نزوع نحو الواقعية، ولغة المصالح والبراغماتية، بعض المحللين يستعملون لغة أقل هدوءا ويتحدثون، في هذا الصدد، عن بروز فردانية متوحشة وعدوانية، وانتهازية وزائلة أخلاقياً، عن سلوكيات متقلبة، بل عن وجود فوضى في مواجهة الرموز الحضارية، أي بالمعنى الذي يفيد بالانحلال.

 

ماذا عن الملفات الخارجية؟

في ظل سياق إقليمي ودولي يزداد تعقيدا، مع تكاثر النزاعات بل وتفاقمها، وإعادة تشكل جيو – استراتيجي عالمي، يبدو أن المغرب مضطر إلى مواجهة جيل جديد من التحديات، وهو ما كان له، بالضرورة، انعكاس على توجهاته الاستراتيجية وأدائه الخارجي، ومنذ حادثة الكركرات في 13 نونبر 2020، وإعلان القطيعة الدبلوماسية من لدن الجزائر مع المغرب في غشت 2021، أصبحت تسود أجواء غريبة تشبه حالة حرب، لكن لا تريد أن تسمي نفسها كذلك، عبر حملات مكثفة للتزود بالعتاد العسكري، وإدخال أسلحة جديدة إلى المنطقة، خصوصا الطائرات بدون طيار، والمشاركة في مناورات عسكرية تحمل معها تموقعات استراتيجية عالمية، وتطوير مراقبة الشريط الترابي الذي يفصل بين القوات المغربية على الحدود مع الجزائر ومئات البلاغات الحربية الصادرة عن خصوم الوحدة الترابية للبلاد، ومحاولات تهديد المدن المغربية في الجنوب. ومن المؤكد أن هذا التهديد المتكرر بالعودة إلى المواجهة المسلحة لم يكن له تأثير بارز، أو انعكاسات ملحوظة على موقف القوات المسلحة المغربية، أو على الحياة الداخلية للبلاد، أو على مواقف وتقارير الأمين العام للأمم المتحدة، أو على الاقتصاد، والسياحة، والتدفق المستمر للاستثمارات الأجنبية، إلا أننا يمكن أن نعتبر أن هناك وضعية «مواجهة تحت المراقبة» تسود إلى اليوم في العلاقة مع دولة الجوار، ومع جميع حلفائها المعادين للوحدة الترابية المغربية.

لقد أصبحت الوحدة الترابية للمملكة هي البوصلة الجديدة للسياسة الخارجية المغربية، وتم الإعلان بوضوح عن أن مبدأ تدبير هذه المرحلة يقوم على هذا الأسلوب في تدبير السياسة الخارجية، يتعلق الأمر، إذن، بمعايير جديدة لتدبير المغرب لعلاقاته الدولية، وكان الحدث الفاصل في هذا السياق هو إبرام اتفاقيات أبراهام في عهد الرئيس ترامب التي ربطت اعتراف أمريكا بمغربية المناطق الجنوبية بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهي تسوية وقتية سارت عليها أيضا بتحفظ إدارة الرئيس بايدن، وبالتالي فإن التطورات والمنعطفات التي تعرفها القضية الفلسطينية تثير تساؤلات جديدة حول المرحلة المقبلة، وكما يحصل بالنسبة لكافة دول المنطقة، ليس من الممكن ألا يخلف ذلك تأثيرا على المملكة.

 

ماذا بخصوص العلاقة مع دول الجوار الأوروبي؟

من بين الوقائع الأخرى التي ينبغي الوقوف عندها توتر العلاقات مع إسبانيا وألمانيا وفرنسا، وهو توتر كان يرتبط دائما بقضية الوحدة الترابية، وشكل خلال هذه الفترة مصدر قلق قوي للنخب وللمواطنين. وقد سجل المغرب بعض النجاحات، كما يتضح بالخصوص في عدد القنصليات التي تم افتتاحها بالأقاليم الجنوبية، واكتساب المغرب المواقع جديدة داخل المنظمات الدولية، وحصول تطور في التصورات الدولية عن المغرب، وفي تدبير العلاقات الدولية.

واكب هذه المعارك تدشين سياسة تعاون ذات أهمية متزايدة مع أجزاء كثيرة من العالم، وخاصة مع إفريقيا المشاركة في مشاريع كبرى مثل أنبوب الغاز النيجيري، ومضاعفة الصادرات إلى البلدان الإفريقية، وتنوع كبير للمشاريع الثنائية. وبعيدا عن إفريقيا، جرى، خلال السنوات الأخيرة، تفعيل المشاركة في المبادرة الصينية للحزام وطريق الحرير، والانخراط بثبات في تنويع وتعديد العلاقات الاستراتيجية للمغرب مع مختلف القوى الكبرى والصاعدة في العالم (روسيا الهند البرازيل)، ما يؤثر على انحيازه لمسار إعادة تشكيل النظام الدولي متعدد الأقطاب رغم اختيارات سابقة تنحو للاعتماد على الغرب للغرب.

بشكل عام، لا يمكن إنكار أن الموقف المغربي عرف، خلال هذه السنوات المعنية بهذا التقرير، تعزيزا وترسيخا لقدراته بفضل ديناميكية أكيدة ومستمرة، ويتضح من كل ما سبق، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، أن هناك تعزيزا وتحسينا مستمرا لمكانة المغرب، كبلد يحسب له حسابه في المنطقة، من خلال تبني منهج من يسعى إلى الصعود والبروز الشمولي، لكن دون أن تبني علنا مشروعا للتحول إلى قوة إقليمية.

 

بالعودة إلى الشأن الداخلي، ماذا رصد التقرير بخصوص التوجهات الكبرى للدولة؟

لعل أهم ما يمكن الحديث عنه في هذا الجانب، هو الحضور القوي لمبدأ الدولة الاجتماعية، وهذا الأمر كان حاضرا في خطابات جلالة الملك منذ سنين، حتى قبل أزمة كورونا، كما كان حاضرا في برامج الدولة منذ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتلاها بعد ذلك العديد من البرامج والمخططات، وبالتالي فقد تم تسجيل هيمنة هذا التوجه وغلبته على باقي التوجهات الأخرى، بل إن الدولة سارت فيه بقوة وقامت بتطويره، وهذا الأمر أصبح حلقة أساسية بالنسبة للدولة، وهذا الأمر الذي يمكن أن نلاحظه مثلا حتى في مدينة الرباط التي بدأت تأخذ ملامح مدينة صحية من خلال تزايد عدد المنشآت الصحية التي تضمها مع إنشاء المركز الاستشفائي الجامعي السويسي الجديد، بالإضافة إلى مؤسسة محمد السادس لعلوم الصحة ومستشفيات ومصحات أخرى، بالإضافة إلى كليات الطب العمومية والخاصة، وهذا يدخل ضمن توجه نحو إصلاح النظام الصحي بشكل عام.

 

عموما ما السمة التي تطبع الخريطة الاجتماعية في المغرب؟

من النقاط الأساسية التي تم الوقوف عليها في التقرير أن الخريطة الاجتماعية زادت تعقيدا، كما أنها أصبحت مجزأة وفيها تشتت فئوي ومهني وترابي كبير، مما أعطى خريطة اجتماعية جديدة حيث استفادت بعض الوحدات من الوضعية السابقة، والأمر هنا يهم الفئات العليا والوسطى من الطبقات الوسطى، مقابل ظهور فئات جديدة، والأمر هنا متعلق بـ«وليدات الثقافة الرقمية»، والاحتجاجات، مقابل تغيير في مستويات النقاش العمومي، وهذا الأمر لا ينحصر على المجتمع بالأساس بل يتعداه إلى بعض التيارات داخل المجتمع من يساريين وإسلاميين، ففي الاسلاميين، مثلا، يمكن الحديث عن أجيال متتالية تغيرت معها الخريطة المجتمعية، ولم تعد موحدة كما كانت عليه، وهذا بالإضافة إلى المناخ العام الذي تشجعه البنيات العالمية للعولمة والشتات المغربي بثقله، والاستثمارات الخارجية، والتيارات والإمكانيات الواردة من الخارج.

ومما لا يجب إغفاله أيضا، في هذا الجانب، وهو معطى أساسي، التطور في وسائل النقل وما يتيحه هذا التحول من إمكانيات خلق ممارسات جديدة، زيادة على الانتقال القيمي الحاصل جراء كل هذه المعطيات بما فيها تنامي الثقافة الرقمية والانفتاح زيادة على العولمة، وكلها كانت وراء تنامي المبادرة الفردية، والخروج نسبيا من منطق الجماعة القبيلة والفرد، كما ان هذه التغيرات ولدت نوعا من الحربائية داخل المجتمع بالإضافة إلى الانتهازية والبرغماتية ولغة المصالح المادية، وبالتالي هناك ما يمكن أن نصطلح عليه بالفوضى القيمية.

 

ما الرهانات والتحديات التي ستواجه الدولة مستقبلا؟

يمكن إجمال هذا الأمر في عنصرين، على المستوى الداخلي، وعودة إلى الخلاصات التي ذكرت، تحديدا المتعلقة بتقوية الدولة مقابل ضعف الفاعلين المؤسساتيين وغير المؤسساتيين بمن فيهم من هم خارج النظام، يظهر أن المشكل الأساس في هذا الإطار العام هو غياب حلقات وسطية، وهذا الأمر يشكل تهديدا كبيرا، ومن الأولوية دعم والاعتناء بهذه الوساطات، على اعتبار أن ضعفها الحالي لا يخدم الدولة.

أما على المستوى الدولي، فيمكن الحديث عن العديد من الرهانات، لكن يمكن التركيز على نقطة مهمة تتمثل في أن الدولة غلبت خلال فترة طويلة الاختيار الغربي، وهناك أطروحات حول هذا التوجه، غير أنه، في الممارسة الحالية، يتضح أن المغرب بدأ يتبنى اختيارا أطروحة عالم متعدد الأقطاب، مع التركيز على بعض المناطق، في مقابل الاشتغال مع مجموع القوى العالمية، والمغرب لم يحسم توجهه، ويتم استعمال ورقة تعدد الأقطاب حال حدوث أزمة مع أي من الشركاء التقليديين، وأعتبر أن هذه الممارسة متجذرة في التاريخ، حيث أنه منذ اتفاق الخزيرات والمغرب يستعمل هذا التوجه في اللعب على التناقضات والخلافات بين الأقطاب الكبرى، وهنا يمكن القول بأن هذه التعددية في الأقطاب اليوم ليست تحت الإكراه أو بمنطق مناوراتي أو أنها من أجل تجاوز وضعية معينة، بل هي اختيارية ولغاية خدمة البروز والخروج من حلقات التخلف، مستعملا حلقات التعاون مع الصين وروسيا والهند وآخرين إلى جانب الغرب.

 

هل يرجع ضعف الفاعلين الداخليين لأسباب ذاتية أم موضوعية؟

بالنسبة لي العامل الذاتي حاضر بقوة في ضعف هذه القوى السياسية الداخلية، حيث أن بعضها وصل مرحلة من التطور التي تتطلب منه العمل على تجديد الآليات والأطر والنخب، والتكيف مع التغييرات الحاصلة في المجتمع، على اعتبار أنها في المرتبة الأولى هي تعبير عن المجتمع بالأساس، وبالتالي فهي لم تقم بعمليات التجديد لمواكبة المجتمع، ورغم أنه تم تسجيل محاولات غير أن تراكماتها كانت نسبية، وكانت بعيدة عن المجتمع العميق، وربما خلقت وضعية من العزوف، دون أن ننسى النقد اللاعقلاني الذي واجهته الأحزاب، بكونها لا تؤدي وظيفتها التأطيرية، بل إن عدد الأشخاص يتغنون بشكل تلقائي بهذا الأمر، في حين أن الأحزاب ضرورية وهي تعبيرات عن حقيقة المجتمع، زيادة على هذا فالدولة كان لها عدد من السلوكات التي لم تخدم لصالح الأحزاب، حيث أعتبر أن قانون الأحزاب لم يكن أمرا ضروريا، وبعض الشروط التي تضمنها أثقلت الأحزاب وساهمت أيضا في الوضعية الحالية، زيادة على سلوكات أخرى أثرت على الأحزاب، منها هيمنة الشعبوية الفردية من بعض «الزعماء» الذين أصبحوا هم الأحزاب، بمستوى «كلمنجي» كبير ومبتذل في سوق سياسي عرف الكثير من الانحرافات.

 

في الجانب القيمي، هل ينحو المجتمع المغربي نحو الحداثة؟

لا يمكن الجزم في هذا السياق بين عنصرين أو الحسم في خيارين كما لا يمكن الحديث في حالة المجتمع المغربي عن استمرار التقليدي أو التوجه نحو الحداثي، حيث أننا إزاء واقع مغاير وخليط آخر، والتمييز في الوصف بين الأصلي والحداثي هو تبسيط للأمور، بل إننا إزاء واقع متشابك ولا يمكن فيه الميز في هذا الجانب، بخلاف فترة الستينات والسبعينات حيث كان يسهل علينا الميز، فكنا نعتبر التلفاز مظهرا من مظاهر الحداثة و«الرابوز» مظهرا للتقليد، أما اليوم فقد تشابك الوضع ولا يمكن وصفه بالحداثة أو التقليد، والأهم من هذا هو أنه خليط من البعدين أنتج واقعا آخر مختلفا لا يمكن وصفه لا بالحداثي ولا بالتقليدي، لكنه واقع مختلف.

 

هل ينطبق هذا الأمر حتى على بعض القيم الراسخة سابقا والمفاهيم كالأسرة وغيرها؟

بالفعل، وأعتقد أن المفاهيم التي كانت تحملها العديد من الصور تغيرت، وفي تقديري حتى مفهوم الأسرة في حد ذاته، فأنا أرى أنه، على العكس، فسر علاقات العديد من المغاربة مع أمهاتهم، كلاعبي المنتخب الوطني خلال كأس العالم الأخير، يمكن قراءتها كذلك بـ «نهاية الأسرة»، بالغياب التام للأب، بغلبة مكون الهجرة، ولعل هذا الأمر يتطلب، أكثر من أي وقت مضى، جواب العلوم الاجتماعية، وخصوصا إذا وقفنا على عدة مؤشرات تؤكد نهاية الأسرة، من قبيل «ارتفاع نسبة الطلاق وارتفاع أعداد الأطفال المتخلى عنهم، زيادة على نسبة الأبناء الذين يغادرون كنف الأسرة في سن مبكرة، وأشياء أخرى»..

مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية في حوار مع «الأخبار»

 

عبد الله ساعف يعرض خلاصات التقرير الاستراتيجي للمغرب 2020/2024

 

الدولة قوت مكانتها المركزية والأحزاب وهيئات الوساطة زادت ضعفا

 

المغرب كان مضطرا لمواجهة جيل جديد من التحديات وقوته التفاوضية تحسنت

 

حاوره: النعمان اليعلاوي

 

سيرا على تقليد بدأ أول مرة سنة 1995، كشف مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية عن معالم التقرير الاستراتيجي المغربي 2020/2024، الذي يعدُّ التقرير الثالث عشر ضمن التقارير الصادرة في هذا الباب، المشخّصة للواقع المغربي والمستشرِفة للمستقبل والتحديات التي يطرحها وسبل مواجهتها.

ويقع التقرير الجديد للمركز، المعروف اختصارا بـ ” CERSS”، في أزيد من 600 صفحة موزعة على حوالي 100 ورقة بحثية تقع في جزأين: الأول خصص للعلاقات الخارجية المغربية والثاني يناقش الحياة السياسية الداخلية باستفاضة.

في هذا الحوار مع جريدة «الأخبار»، يعرض عبد الله ساعف، مدير مركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية، أهم الخلاصات التي جاء بها التقرير، مبرزا الجواب عن سؤاله المركزي في «حالة القوة التفاوضية للمغرب داخليا وخارجيا».

 

ما الخلفيات التي كانت وراء صدور التقرير الاستراتيجي المغربي 2020/2024؟

تجب الإشارة إلى أننا بدأنا الاشتغال على فكرة التقرير الاستراتيجي للمغرب منذ عقود، واتضح لنا أنه من الضرورة أن نشرك المتخصصين من ذوي الاطلاع والتكوين في مراقبة الحياة السياسية واستخلاص العبر ومحاولة قراءة التطورات الممكنة، ومن هذا المنطلق عملنا على التقرير الأول سنة 1994، ومنذ ذلك الحين بدأ الاشتغال على تقرير دوري منتظم، خصوصا مع انخراط عدد من الباحثين في هذا التمرين المهم وكان طموحنا أن يتم إخراج هذا التقرير كل عام، غير أنه، بعد الوقوف على عدد من الشروط، منها أن مدة سنة أو سنتين غير كافية من أجل تجميع المعطيات والحديث عن التوجهات الاستراتيجية والتغيرات ورصد جميع العناصر، لذلك استقر الرّأي في ما بعد على أن يكون التقرير كل ثلاث سنوات وهي المدة التي يشملها التقرير اليوم.

وبشأن التقرير الاستراتيجي للمغرب (2020-2024) فقد شارك فيه أزيد من 60 باحثا، وتضمن حوالي 100 ورقة خلفية، حيث أن عددا من الباحثين يشتغلون على أزيد من ورقة، وهو الأمر الذي يمنح العمل على هذا التقرير صيغة العمل الجماعي المشترك، مع الصعوبات التي تطبع العمل الجماعي، على اعتبار أن التقرير يتطلب تجميع المعطيات لدى جميع الباحثين زيادة على مقارنتها وتدقيقها تجنبا لمغبة الوقوع في تناقضات أو تضارب للأرقام والمعطيات وكل ما هو كمي، زيادة على أن ثقافتنا تغلب المجهود الفردي لدى المثقفين والأكاديميين. لهذا، فخلال هذه السنوات ونحن اليوم إزاء التقرير 13، اكتسبنا تجربة مكنتنا من المرور من الحالة الوصفية التي قوامها الوصف وجمع المعطيات إلى التركيب والتركيز على ما هو أساسي وبشكل مقنع، ثم الاستشراف، علما أن الاستشراف هو مستويات، منها القريبة والمتوسطة والبعيدة، والتي تمتد لعقود.

 

ما المدى الاستشرافي للتقرير؟

كما أشرت سالفا، فالبعد الاستشرافي ينبني على ثلاثة مستويات، وخلال الفترة التي يتناولها التقرير الحالي هناك أحداث كان لها تأثير وانعكاسات كبرى، وأحداث مفصلية غالبا ما تكون مدفوعة بسيرورات ما زالت لم تكتمل إلى اليوم، ولا تسمح لنا فعلا باستشراف المستقبل القريب بشكل موضوعي، وفي الوقت نفسه، فإن هذا التقرير يندرج ضمن فئة النصوص التي تقتصر على استشراف ما يمكن أن يحدث خلال السنتين أو الثلاث سنوات المقبلة، وليس خلال 30 أو 50 سنة.

لقد كان التقرير الاستراتيجي المغربي الأخير (2019-2021) يتناول مرحلة تميزت، بشكل عام، بنوع من الاستقرار رغم التطورات التي عرفتها البلاد، كما كان تقريرا يندرج في سياق استمرارية الوقائع والمواقف والأفعال التي عرفها العقد الماضي، وتوالت تلك الأحداث دون أن تحمل معها تحولات فاصلة، أو قطائع كبرى أو تقلبات بارزة. منذ بداية العقد الثاني من القرن 21 كانت توقعات الأحداث والمبادرات المستقبلية، بناء على فحص للحقائق ومقاربة للبنى والحدس المنطقي، تشير إلى إمكانية حدوث ثلاثة سيناريوهات.

 

ماذا عن السيناريوهات أو الفرضيات التي وضعها التقرير؟

هذه السيناريوهات تتراوح بين استمرارية الوضع الراهن وإمكانية حدوث تراجع، وهما سيناريوهان غير محتملين على ما يبدو في السياق المغربي الحالي، أو حصول انتقال إلى مرحلة أفضل مثلا، من خلال وقوع انتقال ديمقراطي مكتمل يبدو أن شروطه ما زالت كلها غير متوفرة حاليا، وعلى هذا الأساس فجميع هذه الاحتمالات الثلاثة كانت تبدو مستبعدة، إذ أن الوضع في المغرب بدا أقرب إلى سيناريو يتميز بوضعية معقدة يصعب تدبيرها، ومليئة بالعراقيل والرهانات والتحديات التي يبدو على العموم أن البلاد بشكل أو بآخر نجحت في مواجهتها وتجاوزها.

رغم ذلك، وكما هو الحال في مجمل التقارير السابقة، فإن السؤال الذي يحاول التقرير الحالي الإجابة عنه هو كيف هي حالة القدرة التفاوضية للبلاد، داخليا وخارجيا؟ هل هناك تقدم على هذا المستوى؟ أو تراجع؟ أو إضعاف؟ أو تقلص؟ أو على العكس تقوية؟ أو اتساع؟ أم أنه ليس هناك أي تغيير؟ وما خصوصيات الفترة التي يغطيها هذا النص الذي نتجرأ على تسميته بالنص الاستراتيجي.

 

إذن ما أهم الملاحظات التي خلص إليها التقرير الاستراتيجي للمغرب خلال هذه الفترة المشمولة بالدراسة والتحليل؟

تجدر الإشارة إلى أنه يصعب على هذا التقرير الاستراتيجي، مثل التقارير السابقة، أن يقوم برصد جميع الوقائع والأفعال، وجميع الإشكاليات التي عرفتها الفترة التي يتناولها، وبالتالي، قد تكون هناك بعض العناصر الهامة التي أفلتت من تتبع ودراسة المحللين، ما تنبغي ملاحظته أيضا هو أنه تم بشكل شبه متعمد، حسب الأوراق البحثية المقدمة، عدم الاحترام الصارم للخطوط الزمنية الفاصلة خلال الفترة التي يغطيها هذا التقرير.

أما بخصوص الملاحظات فيمكن إجمالها في سبع، أولاها أن الدولة اتخذت، باعتبارها راعية وربة أسرة صالحة، التدابير اللازمة لحماية البلاد من المخاطر والتهديدات القادمة من الخارج والداخل، وكان سلوكها، على سبيل المثال، خلال وباء كوفيد 19 متميزا على المستويين الأمني والإداري.. إغلاق الحدود، تزويد السكان بالأقنعة الواقية، مختلف التجهيزات الطبية، إقامة مستشفيات للطوارئ، حملات التلقيح، تدابير أمنية مختلفة، قوانين صارمة في ما يخص السفر والتنقل داخل البلاد والعديد من التدابير على مستوى المساعدة الاجتماعية، ومن بين المميزات الرئيسية لهذه الفترة، أيضا، ينبغي تسجيل بروز السلطة الواسعة للدولة، وهي دولة يبدو أنها، إلى جانب قوتها الأصلية، استمدت القوة من تدبيرها المقنع نسبيا لمرحلة كوفيد 19، ومن صرامة تلك التدابير، حيث اكتسبت الدولة المزيد من القدرات، ومن الهيبة، وعززت من نفوذها، ورغم أن اللمسة السلطوية لم تكن ضرورية ورغم الاختلالات التي كشفتها أزمة كوفيد، فإن مشروعيتها كسلطة دولة تعززت بشكل محسوس، بل يمكننا القول إنه وقع تجديد لاحتكار العنف الشرعي الذي تجسده الدولة وعودة قوية إلى مفهوم السيادة، بحيث أن موارد الدولة وأدوات عملها، وركائزها وأجواء عودة الثقة فيها صارت تظهر ذات أهمية أكثر من أي وقت مضى.

أما الملاحظة الثانية، فمقارنة مع المكانة المركزية الجديدة للدولة ولقوتها، ظهر أن مكانة ودور مختلف الفاعلين والطبقة السياسية ومجموع الفاعلين الاجتماعيين أصبحت تحتل مواقع تكميلية أو ثانوية، بل مواقع هامشية، بالنسبة للبعض استطاعت العروض التي تقدمها الأحزاب، بالخصوص أن تتميز باستمرارية حضورها وحيويتها، حتى وإن كان أصابها الضعف مثلما أصاب عروض النقابات، والتنسيقيات والمجتمع المدني والحركات الاجتماعية، مختلف هؤلاء الفاعلين تجاوزتهم سلطة الدولة إلى حد كبير، وصاروا يتراجعون إلى هوامش المجال السياسي بشكل مشتت ومجزأ، وفي ظل مؤسسات مركزية ومحلية ذات أثر محدود، وأغلبيات وأقليات متواضعة التأثير، ونخب حكومية، ونخب معارضة هي موضوع احتجاج قوي.

ويبدو أن التمايز والتنوع بين الأيديولوجيات والمشاريع صار نسبيا بشكل متزايد وأصبحت الخطوط الأيديولوجية أو البرنامجية الفاصلة قليلة الوضوح، كل شيء أصبح متشابها: الانفصالات والانقسامات والتجمعات والتحالفات تبدو ذات طابع تقني، وبدون شعلة دافعة لها، ولا يحركها مبدأ الأمل إلا بصورة محدودة. هذا دون أن ننسى وجود مخاطر تحملها هذه الأوضاع تؤدي إلى تعطيل النسيج الحي للمنظومة المغربية ككل.

أما الملاحظة الثالثة فهي أن المشاريع الكبرى والمثيرة للدولة في قطاعات البنية التحتية، والفلاحة والتكوين المهني، والحماية الاجتماعية والمياه والطاقات المتجددة، والصناعات والتكنولوجيا الرقمية، وغيرها، تتجاوز المشاريع التي يمكن إطلاقها من قبل الفاعلين السياسيين الآخرين الذين يبدو أن قدراتهم على ابتكار وتصور وإنتاج مشاريع – برامج مجتمعية وتنفيذها يتم تقليص أهميتها بالمقارنة مع المبادرات الهائلة للدولة، وهي مبادرات صار لها طابع استباقي وتجديدي أكثر من أي وقت مضى، وقد أصبحت توجهات واستراتيجيات وبرامج الدولة تجعل مشاريع ومرجعيات وبرامج ورؤى الأحزاب السياسية وباقي الفاعلين ثانوية، بل أقل قيمة، حيث أن المستويات التي بلغها عمل وحركية الدولة تتجاوز الآن مستويات نظيراتها السابقة، ويبدو أن عصر البرامج الأيديولوجية والمذكرات المطلبية والبرامج الانتخابية التشريعية والمحلية، التي اعتادتها الأجيال السابقة، انتهى وأدوات العمل القديمة التي كان معمولا بها فقدت من جاذبيتها.

 

ماذا عن باقي الملاحظات والخلاصات؟

رابع الملاحظات، التي خرج بها التقرير، أنه رغم الوضع الاجتماعي الذي تطبعه حركات احتجاجية لها دوافع متعددة، تعكس عدم الرضا والسخط عن الأداء الحكومي مثل غلاء المعيشة ومطالب قانونية وأجرية، واحتجاجات فئوية متعددة وغيرها، فإن مؤشرات فيض ما يظهر هنا وهناك، وذلك في ظل رواج موارد كبيرة داخل المجال الوطني، الضرائب، تحويلات المغاربة المقيمين في الخارج، الثروات الموجودة فوق الأرض وفي باطنها، عائدات الفوسفاط، المنتوجات الصناعية، منجزات بعض المقاولات الكبرى العمومية والخاصة… بحيث يظهر أن الظرفية الحالية لا تطبعها الندرة، في ظل الحديث عن التمويلات الكبرى التي تتضاعف باستمرار من خلال العديد من الأوراش الواعدة، ومع ذلك لا نستطيع، حتى الآن، الحديث عن ظرفية تتميز بالوفرة، وبين وضع اجتماعي يتسم باتساع الاحتجاجات، والقدرة على تعبئة التمويل، تبدو الدولة بصدد البحث عن توجهات جديدة للسياسات العمومية التنموية، بعد أن بلغت السياسات القديمة مداها، وتمكننا الإشارة في هذا الصدد إلى عدد من الاستراتيجيات الجديدة، خصوصاً في مجال الطاقة والطاقات المتجددة، ولا يبدو أن هناك ضعفا في القدرة على تعبئة الموارد والوسائل على هذا المستوى.

أما خامس الملاحظات فتتعلق بعودة الدولة عبر تعزيز عمل الأجهزة الأمنية، إلى جانب تأطير ديني يقظ ومتزايد، واهتمامات أقوى بالجوانب الاجتماعية، ومراعاة أكبر للأبعاد الثقافية ولعل الحامل الرئيسي لهذه العودة، التركيز المتواصل على العمل الاجتماعي، والذي يؤثر على الحالة الذهنية الجديدة للمسؤولين عن الحكامة الشاملة في البلاد، ويعتبر إعادة تفعيل الدولة الاجتماعية من أهم مميزات المرحلة الحالية، وإذا كان التأكيد على الإشكاليات الاجتماعية وإبرازها أمرا لافتا للنظر، بحيث تبلورت العديد من المبادرات والديناميكيات، فقد تزامن ذلك مع بروز موجات جديدة من الاحتجاجات التي تم رصدها بإسهاب في الأوراق البحثية لهذا التقرير وهي انشغالات اجتماعية أو سياسية.

 

ماذا بخصوص الجانب القيمي والسياسي الداخلي؟

في هذا الجانب، سجل التقرير، كملاحظة سادسة، أن هناك العديد من التحولات والانتقالات الجارية حاليا في المجال المغربي (في السياسة والاقتصاد والمجتمع، والثقافة والمرأة والشباب… إلخ). فانهيار البنيات الكلاسيكية أدى إلى تحطم العديد من مكونات المنظومة الشمولية الاجتماعية القديمة، كما يطبع «النخب» تشتت كبير، وهناك انقسامية متزايدة تتجلى في تنوع الإشكاليات التي يعرفها النقاش العمومي، وفي انعكاساتها على المبادرات العمومية، أي في ترجمتها إلى سياسات عمومية وبرامج ملموسة.

انبعثت، كذلك، نزعة فردانية جامحة من رماد الانهيار التدريجي للبنيات والهياكل السابقة. بحيث وقع نوع من إعادة تشكيل الأسرة المغربية على مستوى أبعاد ووزن الفئات المختلفة للطبقات الوسطى. وتراجعت كثير من أشكال الجماعات الأولية، نتيجة التطورات الديموغرافية والاجتماعية. كما فتحت التطورات الحاصلة على مستوى منظومة القيم السائدة المجال أمام حدوث تمفصلات جديدة.

هذه الهزات الصامتة التي يعرفها الكيان المغربي ترتب عليها بروز وانتشار نزوع نحو الواقعية، ولغة المصالح والبراغماتية، بعض المحللين يستعملون لغة أقل هدوءا ويتحدثون، في هذا الصدد، عن بروز فردانية متوحشة وعدوانية، وانتهازية وزائلة أخلاقياً، عن سلوكيات متقلبة، بل عن وجود فوضى في مواجهة الرموز الحضارية، أي بالمعنى الذي يفيد بالانحلال.

 

ماذا عن الملفات الخارجية؟

في ظل سياق إقليمي ودولي يزداد تعقيدا، مع تكاثر النزاعات بل وتفاقمها، وإعادة تشكل جيو – استراتيجي عالمي، يبدو أن المغرب مضطر إلى مواجهة جيل جديد من التحديات، وهو ما كان له، بالضرورة، انعكاس على توجهاته الاستراتيجية وأدائه الخارجي، ومنذ حادثة الكركرات في 13 نونبر 2020، وإعلان القطيعة الدبلوماسية من لدن الجزائر مع المغرب في غشت 2021، أصبحت تسود أجواء غريبة تشبه حالة حرب، لكن لا تريد أن تسمي نفسها كذلك، عبر حملات مكثفة للتزود بالعتاد العسكري، وإدخال أسلحة جديدة إلى المنطقة، خصوصا الطائرات بدون طيار، والمشاركة في مناورات عسكرية تحمل معها تموقعات استراتيجية عالمية، وتطوير مراقبة الشريط الترابي الذي يفصل بين القوات المغربية على الحدود مع الجزائر ومئات البلاغات الحربية الصادرة عن خصوم الوحدة الترابية للبلاد، ومحاولات تهديد المدن المغربية في الجنوب. ومن المؤكد أن هذا التهديد المتكرر بالعودة إلى المواجهة المسلحة لم يكن له تأثير بارز، أو انعكاسات ملحوظة على موقف القوات المسلحة المغربية، أو على الحياة الداخلية للبلاد، أو على مواقف وتقارير الأمين العام للأمم المتحدة، أو على الاقتصاد، والسياحة، والتدفق المستمر للاستثمارات الأجنبية، إلا أننا يمكن أن نعتبر أن هناك وضعية «مواجهة تحت المراقبة» تسود إلى اليوم في العلاقة مع دولة الجوار، ومع جميع حلفائها المعادين للوحدة الترابية المغربية.

لقد أصبحت الوحدة الترابية للمملكة هي البوصلة الجديدة للسياسة الخارجية المغربية، وتم الإعلان بوضوح عن أن مبدأ تدبير هذه المرحلة يقوم على هذا الأسلوب في تدبير السياسة الخارجية، يتعلق الأمر، إذن، بمعايير جديدة لتدبير المغرب لعلاقاته الدولية، وكان الحدث الفاصل في هذا السياق هو إبرام اتفاقيات أبراهام في عهد الرئيس ترامب التي ربطت اعتراف أمريكا بمغربية المناطق الجنوبية بإقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، وهي تسوية وقتية سارت عليها أيضا بتحفظ إدارة الرئيس بايدن، وبالتالي فإن التطورات والمنعطفات التي تعرفها القضية الفلسطينية تثير تساؤلات جديدة حول المرحلة المقبلة، وكما يحصل بالنسبة لكافة دول المنطقة، ليس من الممكن ألا يخلف ذلك تأثيرا على المملكة.

 

ماذا بخصوص العلاقة مع دول الجوار الأوروبي؟

من بين الوقائع الأخرى التي ينبغي الوقوف عندها توتر العلاقات مع إسبانيا وألمانيا وفرنسا، وهو توتر كان يرتبط دائما بقضية الوحدة الترابية، وشكل خلال هذه الفترة مصدر قلق قوي للنخب وللمواطنين. وقد سجل المغرب بعض النجاحات، كما يتضح بالخصوص في عدد القنصليات التي تم افتتاحها بالأقاليم الجنوبية، واكتساب المغرب المواقع جديدة داخل المنظمات الدولية، وحصول تطور في التصورات الدولية عن المغرب، وفي تدبير العلاقات الدولية.

واكب هذه المعارك تدشين سياسة تعاون ذات أهمية متزايدة مع أجزاء كثيرة من العالم، وخاصة مع إفريقيا المشاركة في مشاريع كبرى مثل أنبوب الغاز النيجيري، ومضاعفة الصادرات إلى البلدان الإفريقية، وتنوع كبير للمشاريع الثنائية. وبعيدا عن إفريقيا، جرى، خلال السنوات الأخيرة، تفعيل المشاركة في المبادرة الصينية للحزام وطريق الحرير، والانخراط بثبات في تنويع وتعديد العلاقات الاستراتيجية للمغرب مع مختلف القوى الكبرى والصاعدة في العالم (روسيا الهند البرازيل)، ما يؤثر على انحيازه لمسار إعادة تشكيل النظام الدولي متعدد الأقطاب رغم اختيارات سابقة تنحو للاعتماد على الغرب للغرب.

بشكل عام، لا يمكن إنكار أن الموقف المغربي عرف، خلال هذه السنوات المعنية بهذا التقرير، تعزيزا وترسيخا لقدراته بفضل ديناميكية أكيدة ومستمرة، ويتضح من كل ما سبق، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، أن هناك تعزيزا وتحسينا مستمرا لمكانة المغرب، كبلد يحسب له حسابه في المنطقة، من خلال تبني منهج من يسعى إلى الصعود والبروز الشمولي، لكن دون أن تبني علنا مشروعا للتحول إلى قوة إقليمية.

 

بالعودة إلى الشأن الداخلي، ماذا رصد التقرير بخصوص التوجهات الكبرى للدولة؟

لعل أهم ما يمكن الحديث عنه في هذا الجانب، هو الحضور القوي لمبدأ الدولة الاجتماعية، وهذا الأمر كان حاضرا في خطابات جلالة الملك منذ سنين، حتى قبل أزمة كورونا، كما كان حاضرا في برامج الدولة منذ المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وتلاها بعد ذلك العديد من البرامج والمخططات، وبالتالي فقد تم تسجيل هيمنة هذا التوجه وغلبته على باقي التوجهات الأخرى، بل إن الدولة سارت فيه بقوة وقامت بتطويره، وهذا الأمر أصبح حلقة أساسية بالنسبة للدولة، وهذا الأمر الذي يمكن أن نلاحظه مثلا حتى في مدينة الرباط التي بدأت تأخذ ملامح مدينة صحية من خلال تزايد عدد المنشآت الصحية التي تضمها مع إنشاء المركز الاستشفائي الجامعي السويسي الجديد، بالإضافة إلى مؤسسة محمد السادس لعلوم الصحة ومستشفيات ومصحات أخرى، بالإضافة إلى كليات الطب العمومية والخاصة، وهذا يدخل ضمن توجه نحو إصلاح النظام الصحي بشكل عام.

 

عموما ما السمة التي تطبع الخريطة الاجتماعية في المغرب؟

من النقاط الأساسية التي تم الوقوف عليها في التقرير أن الخريطة الاجتماعية زادت تعقيدا، كما أنها أصبحت مجزأة وفيها تشتت فئوي ومهني وترابي كبير، مما أعطى خريطة اجتماعية جديدة حيث استفادت بعض الوحدات من الوضعية السابقة، والأمر هنا يهم الفئات العليا والوسطى من الطبقات الوسطى، مقابل ظهور فئات جديدة، والأمر هنا متعلق بـ«وليدات الثقافة الرقمية»، والاحتجاجات، مقابل تغيير في مستويات النقاش العمومي، وهذا الأمر لا ينحصر على المجتمع بالأساس بل يتعداه إلى بعض التيارات داخل المجتمع من يساريين وإسلاميين، ففي الاسلاميين، مثلا، يمكن الحديث عن أجيال متتالية تغيرت معها الخريطة المجتمعية، ولم تعد موحدة كما كانت عليه، وهذا بالإضافة إلى المناخ العام الذي تشجعه البنيات العالمية للعولمة والشتات المغربي بثقله، والاستثمارات الخارجية، والتيارات والإمكانيات الواردة من الخارج.

ومما لا يجب إغفاله أيضا، في هذا الجانب، وهو معطى أساسي، التطور في وسائل النقل وما يتيحه هذا التحول من إمكانيات خلق ممارسات جديدة، زيادة على الانتقال القيمي الحاصل جراء كل هذه المعطيات بما فيها تنامي الثقافة الرقمية والانفتاح زيادة على العولمة، وكلها كانت وراء تنامي المبادرة الفردية، والخروج نسبيا من منطق الجماعة القبيلة والفرد، كما ان هذه التغيرات ولدت نوعا من الحربائية داخل المجتمع بالإضافة إلى الانتهازية والبرغماتية ولغة المصالح المادية، وبالتالي هناك ما يمكن أن نصطلح عليه بالفوضى القيمية.

 

ما الرهانات والتحديات التي ستواجه الدولة مستقبلا؟

يمكن إجمال هذا الأمر في عنصرين، على المستوى الداخلي، وعودة إلى الخلاصات التي ذكرت، تحديدا المتعلقة بتقوية الدولة مقابل ضعف الفاعلين المؤسساتيين وغير المؤسساتيين بمن فيهم من هم خارج النظام، يظهر أن المشكل الأساس في هذا الإطار العام هو غياب حلقات وسطية، وهذا الأمر يشكل تهديدا كبيرا، ومن الأولوية دعم والاعتناء بهذه الوساطات، على اعتبار أن ضعفها الحالي لا يخدم الدولة.

أما على المستوى الدولي، فيمكن الحديث عن العديد من الرهانات، لكن يمكن التركيز على نقطة مهمة تتمثل في أن الدولة غلبت خلال فترة طويلة الاختيار الغربي، وهناك أطروحات حول هذا التوجه، غير أنه، في الممارسة الحالية، يتضح أن المغرب بدأ يتبنى اختيارا أطروحة عالم متعدد الأقطاب، مع التركيز على بعض المناطق، في مقابل الاشتغال مع مجموع القوى العالمية، والمغرب لم يحسم توجهه، ويتم استعمال ورقة تعدد الأقطاب حال حدوث أزمة مع أي من الشركاء التقليديين، وأعتبر أن هذه الممارسة متجذرة في التاريخ، حيث أنه منذ اتفاق الخزيرات والمغرب يستعمل هذا التوجه في اللعب على التناقضات والخلافات بين الأقطاب الكبرى، وهنا يمكن القول بأن هذه التعددية في الأقطاب اليوم ليست تحت الإكراه أو بمنطق مناوراتي أو أنها من أجل تجاوز وضعية معينة، بل هي اختيارية ولغاية خدمة البروز والخروج من حلقات التخلف، مستعملا حلقات التعاون مع الصين وروسيا والهند وآخرين إلى جانب الغرب.

 

هل يرجع ضعف الفاعلين الداخليين لأسباب ذاتية أم موضوعية؟

بالنسبة لي العامل الذاتي حاضر بقوة في ضعف هذه القوى السياسية الداخلية، حيث أن بعضها وصل مرحلة من التطور التي تتطلب منه العمل على تجديد الآليات والأطر والنخب، والتكيف مع التغييرات الحاصلة في المجتمع، على اعتبار أنها في المرتبة الأولى هي تعبير عن المجتمع بالأساس، وبالتالي فهي لم تقم بعمليات التجديد لمواكبة المجتمع، ورغم أنه تم تسجيل محاولات غير أن تراكماتها كانت نسبية، وكانت بعيدة عن المجتمع العميق، وربما خلقت وضعية من العزوف، دون أن ننسى النقد اللاعقلاني الذي واجهته الأحزاب، بكونها لا تؤدي وظيفتها التأطيرية، بل إن عدد الأشخاص يتغنون بشكل تلقائي بهذا الأمر، في حين أن الأحزاب ضرورية وهي تعبيرات عن حقيقة المجتمع، زيادة على هذا فالدولة كان لها عدد من السلوكات التي لم تخدم لصالح الأحزاب، حيث أعتبر أن قانون الأحزاب لم يكن أمرا ضروريا، وبعض الشروط التي تضمنها أثقلت الأحزاب وساهمت أيضا في الوضعية الحالية، زيادة على سلوكات أخرى أثرت على الأحزاب، منها هيمنة الشعبوية الفردية من بعض «الزعماء» الذين أصبحوا هم الأحزاب، بمستوى «كلمنجي» كبير ومبتذل في سوق سياسي عرف الكثير من الانحرافات.

 

في الجانب القيمي، هل ينحو المجتمع المغربي نحو الحداثة؟

لا يمكن الجزم في هذا السياق بين عنصرين أو الحسم في خيارين كما لا يمكن الحديث في حالة المجتمع المغربي عن استمرار التقليدي أو التوجه نحو الحداثي، حيث أننا إزاء واقع مغاير وخليط آخر، والتمييز في الوصف بين الأصلي والحداثي هو تبسيط للأمور، بل إننا إزاء واقع متشابك ولا يمكن فيه الميز في هذا الجانب، بخلاف فترة الستينات والسبعينات حيث كان يسهل علينا الميز، فكنا نعتبر التلفاز مظهرا من مظاهر الحداثة و«الرابوز» مظهرا للتقليد، أما اليوم فقد تشابك الوضع ولا يمكن وصفه بالحداثة أو التقليد، والأهم من هذا هو أنه خليط من البعدين أنتج واقعا آخر مختلفا لا يمكن وصفه لا بالحداثي ولا بالتقليدي، لكنه واقع مختلف.

 

هل ينطبق هذا الأمر حتى على بعض القيم الراسخة سابقا والمفاهيم كالأسرة وغيرها؟

بالفعل، وأعتقد أن المفاهيم التي كانت تحملها العديد من الصور تغيرت، وفي تقديري حتى مفهوم الأسرة في حد ذاته، فأنا أرى أنه، على العكس، فسر علاقات العديد من المغاربة مع أمهاتهم، كلاعبي المنتخب الوطني خلال كأس العالم الأخير، يمكن قراءتها كذلك بـ «نهاية الأسرة»، بالغياب التام للأب، بغلبة مكون الهجرة، ولعل هذا الأمر يتطلب، أكثر من أي وقت مضى، جواب العلوم الاجتماعية، وخصوصا إذا وقفنا على عدة مؤشرات تؤكد نهاية الأسرة، من قبيل «ارتفاع نسبة الطلاق وارتفاع أعداد الأطفال المتخلى عنهم، زيادة على نسبة الأبناء الذين يغادرون كنف الأسرة في سن مبكرة، وأشياء أخرى»…

 

في أسطر :

 

هو أستاذ علم السياسة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس، الرباط.

  • رئيس الجمعية المغربية للعلوم السياسية.
  • وزير التربية الوطنية سابقا في حكومة عبد الرحمان اليوسفي.
  • أدار مجلة «أبحاث» منذ صدورها في يناير 1983 كما كان عضوا في هيئة تحرير مجلة «أبعاد فكرية». انضم إلى اتحاد كتاب المغرب سنة 1986.
  • نشر مجموعة من المقالات بعدة صحف ومجلات: أنوال، الأساس، أبحاث، الوحدة.

 

من مؤلفاته:

 

– كتابات ماركسية حول المغرب (1985)

– صور سياسية من المغرب (1987)

– المعرفة والسياسة (1990)

– حوليات سنوات الجزر (1992)

– حكاية أنه ما (1994)

– التطلع إلى الدولة الحديثة (1999)

– الانتقال الديمقراطي (3 أجزاء)

– الدعـوة ج. 1، 2000.

– إصلاح نظام التربية والتعليم (2001)

– وكتاب سر الشارع الطويل .

– وكتاب «عودة من حلب» (قيد الطبع) .

 

* له بالفرنسية:

– Ecrits marxistes sur le Maroc, 1860-1925.

– Sale, Publication le contact, 1986.

– Images politiques du Maroc, Rabat, Ed: Okad, 1987, 127p.

 

 

.

 

في أسطر :

 

هو أستاذ علم السياسة بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة محمد الخامس، الرباط.

  • رئيس الجمعية المغربية للعلوم السياسية.
  • وزير التربية الوطنية سابقا في حكومة عبد الرحمان اليوسفي.
  • أدار مجلة «أبحاث» منذ صدورها في يناير 1983 كما كان عضوا في هيئة تحرير مجلة «أبعاد فكرية». انضم إلى اتحاد كتاب المغرب سنة 1986.
  • نشر مجموعة من المقالات بعدة صحف ومجلات: أنوال، الأساس، أبحاث، الوحدة.

 

من مؤلفاته:

 

– كتابات ماركسية حول المغرب (1985)

– صور سياسية من المغرب (1987)

– المعرفة والسياسة (1990)

– حوليات سنوات الجزر (1992)

– حكاية أنه ما (1994)

– التطلع إلى الدولة الحديثة (1999)

– الانتقال الديمقراطي (3 أجزاء)

– الدعـوة ج. 1، 2000.

– إصلاح نظام التربية والتعليم (2001)

– وكتاب سر الشارع الطويل .

– وكتاب «عودة من حلب» (قيد الطبع) .

 

* له بالفرنسية:

– Ecrits marxistes sur le Maroc, 1860-1925.

– Sale, Publication le contact, 1986.

– Images politiques du Maroc, Rabat, Ed: Okad, 1987, 127p.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى