عبد الفتاح كيليطو.. صوت «آخَر» أوروبا
فاتحة الطايب
يفضي بنا التأمل في أغلب أطروحات الناقد عبد الفتاح كيليطو، ونحن نستلهم روح النقاش الدائر حول «الوجهة الأخرى» عند جاك دريدا، إلى اعتبار كتاباته النقدية ترجمة نموذجية لمنظور «آخَر» أوروبا بصفته صوتا محاورا / مشاكسا. فكيف السبيل إلى الإحاطة بصوت «آخَر» الوجهة /كيليطو من خلال كتابه لن تتكلم لغتي الذي يريد له أن يحيي جروحا، بل أن يحدثها؟
يكمن المفتاح في الاستهلال حسب التصريح الآتي لكيليطو: «لن أتردد في القول إن زبدة كتبي توجد مكثفة في استهلالاتي».
واستنادا إلى هذا التصريح نتساءل: لماذا استهل كيليطو كتاب لن تتكلم لغتي باستشهاد يصرح فيه فرانشيسكو بيترارك بكرهه للعرب ناكرا تقدمهم المعرفي والعلمي؟
نستحضر ولع كيليطو بلعبة المرايا، حيث يكشف التقديم الذي وضعه لكتابه- بالتركيز على حالة المنفلوطي في علاقته بالكتاب الغربيين-عن الوضعية المتأزمة التي يعيشها «الناهض»، سواء تم التعبير عن هذه الوضعية بالكراهية المرضية مثلما فعل بيترارك، أم تم تجاهلها في الظاهر والوقوع تحت تأثيرها في الخفاء شأن المنفلوطي، فحينما صرح بيترارك بكرهه للعرب وهو مغتاظ من تقدير مواطنيه العلماء لتقدمهم في مجال الطب، لم تكن أوروبا قد أصبحت وجهة بعد.
وإذ تؤكد خاتمة كتاب كيليطو أصالة الثقافة العربية الكلاسيكية في ظل التفاعل، تتوقف عند سوء تعامل العرب المحدثين مع بعض نتائج النهضة الأوروبية بما يؤكد نجاح أحفاد بيترارك، بفضل الارتباط/ الانفصال، في قلب المعادلة واستبدال الموقع على الخريطة بتشكيل هوية أوروبية بالتدريج.وتجد هذه الهوية- كما تعرض نفسها في الخطاب الفلسفي التقليدي حول أوروبا، والذي يساهم كيليطو في تفكيكه بحذاقة لعبية- «تجد أفضل تعبير عنها في لفظة Cap، […التي] تتضمن في الآن ذاته [حسب دريدا] دلالات الرأس والطرف، والهدف، والمنتهى، وكذلك دلالات النهاية، والقطب، والغاية، وطبعا دلالة الوجهة. وبفضل قرابة صرفية، وأيضا دلالية فإنها تقودنا إلى رأسمال[Capital]وإلى العاصمة [La Capitale]. وهذا يعني، أن أوروبا نصبت نفسها في القرن التاسع عشر، بدل العالم العربي الإسلامي، صورة روحية وعاصمة للعالم وللحضارة الإنسانية. وهي تعتقد أنها بداية ونهاية وأصل وغاية في الآن ذاته.
إن أوروبا هاته، هي التي اخترقت ثقافة الشدياق ورجالات النهضة، وهي التي وجد كيليطو نفسه وجها لوجه أمام بعض تجسيداتها، وهو يعبر لأول مرة سور المدينة القديمة بالرباط ليلتحق بالمدرسة العصرية بالمدينة الجديدة. ولكن هل هي نفسها التي يحاورها في كتابه/ كتاباته؟
نعم ولا.
إن أوروبا التي يحاورها، هي نفسها أوروبا تصور القرن التاسع عشر أكيد، مادام الخطاب الفلسفي التقليدي حول أوروبا، لا يزال راهنا ورائجا رغم عتاقته الشديدة حسب تعبير دريدا. ولكنها، في المقابل، أوروبا فلاسفة تسعينات القرن العشرين الذين أعادوا التفكير في مفهوم أوروبا، طارحين أسئلة تدعو إلى تغيير المنظور العتيق. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن «آخَر» الوجهة الذي يمثله كيليطو، إذ يحاور أوروبا الثابتة المنظور وتلك التي غيرت نسبيا منظورها ملتفتا ذات اليمين وذات اليسار، يفعل ذلك انطلاقا من تفكيك ومساءلة النهضة العربية الحديثة باستحضار النموذجين العربي الإسلامي الكلاسيكي والغربي الحديث، وبأسلوب يشي بالانتقال من موقع رد الفعل إلى الفعل، يقول:
«هل كنت سأهتم بالكوميديا الإلهية، لو أنها لم تكن تذكر ابن رشد وابن سينا؟ هل كنت سأوليها اهتمامي لو أن باحثين لم يعتبروا أن رسالة الغفران للمعري أحد مصادرها؟ هل من قبيل الصدفة كوني حرصت على قراءتها باكرا في الترجمة العربية لحسن عثمان؟ بعد ذلك، أقرأها بالفرنسية، ولكن بشكل متقطع، حسبما تدعو الحاجة إليه. كان لي الموقف نفسه مع دون كيخوطي، القصة القاسية الفظيعة. لم أهتم بها في الحقيقة إلا لأن ثيربانتس ينسبها افتراضيا، لسيدي أحمد بن الآيلي. أضيف بأنني أقرأ بورخيس كما لو كان كاتبا عربيا، وأولي عناية خاصة لما كتبه عن ابن رشد، ومدينة لبتيت الأسطورية، وألف ليلة ليلة […]. أعترف أن قراءتي لهؤلاء الكتاب العظام تخضع لموقف متحيز».
إن هذا التصريح، الذي يشرط الاهتمام بمصادر الأدب الأوروبي وبكتاب عالميين بارتباطهم بهذا القدر أو ذاك ومن هذه الزاوية أو تلك بالأدب والثقافة العربيين، تصريح غير مسبوق يؤكد من خلاله كيليطو، وقد أصبح ناقدا مرموقا تخطت شهرته المغرب والمنطقة العربية إلى المنطقة الغربية، تمكنه من مغادرة المجال المشوش الذي وضع فيه الآخر الثقافة العربية الإسلامية الحديثة تعميما وممثليها، إلى مجال جديد لا يخلو بالتأكيد من الشد والجذب إلا أنه مجال التفاعل والخلق. فكيليطو ليس هو المنفلوطي الذي يخفي بلباسه التقليدي ولعه باللباس الداخلي الأوروبي، وليس هو الشدياق الذي مثل لوضعيته في دراسته -مؤكدا على عدته- باستلهام أول الأصول الخمسة التي تعتبر الأساس العام لفكر المعتزلة: المنزلة بين المنزلتين(لا هو بمؤمن ولا هو بكافر).
وإذا كان صحيحا أن الاستنتاج الذي خرج به كيليطو من دراسة حالة الشدياق، والذي ركز فيه على وفاء صاحب الساق على الساق في ما هو الفارياق لماضيه واستشفافه مستقبل العرب في حاضر الإفرنج، استنتاج ينطبق على كيليطو نفسه، فإن السؤال: «كيف ينبغي العيش في هذا العالم؟»، الذي طرحه شاعر في القرن الثالث عشر، واستلهمه كيليطو للتعبير عن حيرة الشدياق الممثلة لحيرة رواد النهضة، قد وجد له أجوبة محتملة جرت الآخر إلى التفاوض، عند الناقد المغربي المعاصر كيليطو الذي ما ينفك يذكرنا بأن القفزة الحقة تقوم على إدخال الابتكار إلى الوجود.
عبد الفتاح كيليطو وأسلافه
محمد أيت لعميم
في مقالة ذكية لبورخيس تحت عنوان «كافكا وأسلافه» يشير إلى أن «كل كاتب يخلق أسلافه، وبهذه العملية يسهم في تعديل إدراكنا للماضي والمستقبل في آن واحد» (Enquêts p 134). هؤلاء الأسلاف يستدرجهم الكاتب إلى دائرة الضوء، وينير عتماتهم. هذه العملية تفسر لنا سر ولوع كيليطو بأسماء معينة من التراث العربي القديم. فالجاحظ والهمذاني والحريري والمعري وألف ليلة وليلة هم أسلاف كيليطو الذين مارس معهم لعبة الإضاءة المتبادلة. إذ كل قراءة لهؤلاء تستحضر قراءة كيليطو التي أضحت بصمة لصيقة بهذه النصوص وكأننا نقرأها لأول مرة. هذا الأمر شبيه بالنصوص التي تمت قراءتها في لحظة زمنية فترسخت صعوبة تجاوزها، فهل هذا الأمر يرجع إلى أن هؤلاء الأسلاف هم فعلا سرقوا أفكار القارئ؟ وهنا يمكن القول مع مؤسس (OuLiPo) François Le lionnais الذي نحت مصطلح «السرقة الأدبية الاستباقية» Plagiat par anticipation، وأخذها منه «بيير بيار» المتخصص في قلب العلاقات والمتربع على عرش المفارقات بامتياز وخصها بكتاب تحت عنوان «Plagiat par anticipation»، إن القدماء يمكن أن يسرقوا أفكار الكتاب اللاحقين، وبهذا المنطق يكون «سوفوكليس» في «أوديب ملكا» سرق فرويد، مع العلم أن قراءة فرويد لهذه الأسطورة بصمت تاريخ قراءتها. وهذا هو حال كيليطو مع هذه النصوص من التراث وكأنها سطت على أفكاره بطريقة استباقية، ومن ثم فقراءته لها أضحت معلما بارزا بصم تاريخ قراءتها. فلحظة كيليطو مع هذه الأعمال لحظة مفصلية، إذ يحق لنا أن نقول الجاحظ، الهمداني، الحريري، المعري، ألف ليلة وليلة قبل كيليطو وبعده، إلى درجة أن ذكر هؤلاء الأسلاف أصبح يختلط به. لقد صرح كيليطو في أحد حواراته التي ترجمتها في مجلة «نزوى» أنه «كان بورخيسيا قبل أن يقرأ بورخيس» هذا التصريح يؤكد ما ذهبنا إليه، وربما هذا ما ذكره القدماء وأسموه وقع الحافر على الحافر.
انشغل كيليطو في مشروعه القرائي بسؤال اللغة والازدواج اللغوي، وهو سؤال محوري في جل ما كتب، وبالغرابة والارتياب. إن عمل كيليطو له ظاهر وباطن؛ فظاهره المتعة والتلذذ والخفة، وباطنه مرجعيات قرائية مختارة بعناية فائقة، تلتئم فيها نصوص المبدعين والمفكرين من أمثال كافكا ونتشه وشيرون وباشلار وبورخيس وبارت والجاحظ وآخرون. وبما أن القراءة لا نهائية فإنها تعرف تجليات كبرى لقراء يقبسون قبسا من نارها وغيضا من فيض لا نهائيتها وكيليطو من هذا النوع من القراء الذين قبسوا لحظة من لحظات لا نهائية القراءة، وقد استحق هذه الصفة لأنه تمكن من صنع فرادته وبصمته الشخصية، عبر تحويله لمعرفة واسعة واستدراجها إلى منطقة تسهر على إنتاج المعنى، وقد تفرد أيضا بتحويل النقد إلى أدب وإلى كتابة، فكتابته برزخية اتخذت المحاولة أو المقالة شكلا، لكنها تكتب بماء السرد وانعراجاته وفخاخه، فهو يندرج ضمن صنف النقاد-الكتاب على حد تعبير تودوروف الذي يقول في كتابه «نقد النقد» : «النقاد- الكتاب وليس الكتاب- النقاد سأتساءل هذه المرة ليس حول النقد الذي يمارسه الكتاب، ولكن حول النقد الذي يتحول هو ذاته إلى شكل أدبي، حيث المظهر الأدبي يكتسب نفسا جديدا». فالقراءة عند كيليطو كتابة أدبية، متولدة عن الأدب ومنتجة له في آن، إذ في قراءته تتحول المفاهيم إلى حكايات، ويتلاشى الحد بين التأويل والبناء الحكائي. فكتابته تنتسب إلى التفكيك والمعرفة المرحة (دريدا-نتشه) فهي تنهض على خلخلة المعنى الجاهز مبعدة المفاهيم عن حمولتها المعتادة.
فالفضاء النقدي عند كيليطو يتشكل من خلال مجموعة من الأسئلة يعود إليها باستمرار، منوعا النصوص التي يشتغل عليها بغية صنع شبكة من العلاقات بين هذه النصوص المتنوعة والمختلفة أجناسيا، فهو قد جدد أسئلته لدخول هذه العوالم لإيقاظ ما كان نائما، واستدراج المهمش والمسكوت عنه إلى دائرة الضوء. فهناك استراتيجية فلسفية ثاوية وراء ما يكتب تنهض على تقويض الأزواج الميتافيزيقية ومراوغة اللغة، فقد حاول أن يرصد المنطق الذي يحكم نصوصا قتلتها الألفة دون أن نعمل على إذكاء التوتر بيننا وبينها. لقد كان لقاء كيليطو باللحظة البارتية حاسما في هذا الاتجاه. إذ الدرس البارتي وجه القراءة عند كيليطو، «لقد خلف لدي اللقاء مع أعمال بارت صدمة كبيرة، فقد تبينت مدى جهالتي عندما رأيته ينتقل من التحليل النفسي إلى النظرية الماركسية فالبنيوية والأنثربولوجية وهي آفاق لم تكن معهودة لدي حتى ذلك الحين، لم أكن أقرأ إلا النصوص الأدبية، وبفضله تعلمت أن الأدب الخالص لا وجود له، فالأدب ملتقى مجموع المعارف، وينبغي الابتعاد عنه للتقرب منه تقربا فعليا».
إن عبد الفتاح كيليطو حقق في كتاباته ذكاء الهمداني والحريري وموسوعية الجاحظ وبورخيس ودعابتهما، ولذائذ بارت وارتياب المعري والمعرفة المرحة لنتشه وعزلة كافكا. فهذا الفردوس الأدبي الذي يتحرك فيه جعله يجني متع القراءة ومباهج اللغة والهوس بالكتب. فكل ما كتبه كيليطو هو منوعات ساحرة عن حب الأدب ورسالة إلى المؤلفين الذين أدخلوا الفرح عليه. باختصار، كيليطو أديب لا يستيقظ من الكتب.
ندم كيليطو
أزيات إسماعيل
«لم أحتفظ بما ألقيت من دروس، فما إن تنتهي الحصّة حتى أمزّق أوراق التحضير، لم يبق أيّ أثر لسنوات من الكلام الأكاديمي» (في جوّ من النّدم الفكري، المتوسط 2020، ص70).
بوح صاعق وعنيف!
من المعلوم أنّ عددا من الأساتذة الجامعيين يحرصون كثيرا على محاضراتهم التي يلقونها على الطلبة، فيجعلونها أحيانا كتبا منشورة على النّاس، أو على الأقل يحتفظون بها في أدراج مكاتبهم كإرث ثمين يمثّل كلّ ثمار المعرفة اللذيذة التي جنوها بكدّ وعناء على امتداد عمر كامل.
لكن الأديب عبد الفتاح كيليطو تصرّف خلاف هذه العادة بصورة قاسية : لم يتلف دروسه ولم يرمها في سلة مهملات، بل لم يهملها في مكان ما و«ينساها»؛ إنّما مزّقها. فعل التّمزيق يخفي في جوفه رغبة عميقة في المحو، في الإبادة، في عدم الإبقاء على أيّ أثر. لماذا يا تُرى؟
نحن نعلم أنّ دروس كيليطو في الجامعة لم تكن دروسا عادية، كانت دروسا شيّقة وشاقة (هذا ما يعلنه بعض طلبته)، خلاصة ساعات وساعات من الإعداد المضني، من المطالعات التي ليس لها من نهاية، من التأمّلات التي تستغرق وقتا لا حدّ له. هي لذلك دروس بالغة الإفادة سيما أنّ صاحبها يتميّز بالعناية الفائقة والحذر الشديد بما يقول (وبالطبع بما يكتب).
على ماذا كانت تنطوي هذه الدروس؟ هي بدءا دروس في الأدب الفرنسي، ولنا أن نتخيّل هنا المقدار الهائل من التفسيرات والتأويلات التي قاربت قمم هذا الأدب (مونتيني، فلوبير، بلزاك، بروست، مالارمي، بودلير.. وما لا يحصى من الأدباء) والتي ضاعت إلى الأبد. وهي ثانيا أنساق نقدية مختلفة ومناهج تحليل متباينة مترعة بالمعرفة الجديدة (بارط، جان بيير ريشار، فوكو، جونيت، مجلة بويتيك…) والتي بدورها تعرّضت للتّلف. وهي ثالثا، وهو الأمر الحاسم، تعبير أمين وصادق عن شخصية كيليطو الذهنية والنفسية، عن ذكاء حسّه الأدبي، عن تاريخ قراءاته، عن مزاجه الثقافي والسياسي، عن تفاعله مع لحظات التاريخ.
نعرف أنه مولع بالتخلّص من مسودّاته ومخطوطاته: «عند سنّ الثالثة والعشرين كتبت روايتين باللغة العربية، بل وفكّرت في نشرهما، إلاّ أنّني لم أجد من حولي إلاّ اللاّمبالاة، ممّا دفعني إلى إتلاف المخطوطين في ما بعد». واضح هنا أنّ وازع الإتلاف في هذه الحالة يحمل معه تبريره الشخصي، ونعرف كذلك تعلّقه بعبارة فولكنر «أقتلْ أحبّاءك» والتي فهم منها عدم التردّد في التضحية بما يُكتب وطرحه في سلّة المهملات بالرّغم من شدّة الحبّ له. لكن أن يتمّ قتل دروس أكاديمية قيّمة فور الانتهاء منها (لا جرم أنّ فائدتها ومتعتها لم تكونا أقلّ ممّا ينشره من كتب على النّاس)، فيحمل الكثير من عدم الفهم المشوب بشيء من الأسف.
في محاولة إعطاء مسوّغ لمسلكه هذا، وبصورة غير مباشرة، (لا ينبغي أن تغيب عنّا، في هذا السياق، الشخصيتان الأثيرتان لديه؛ التوحيدي وكافكا وكلاهما، لملابسات أخرى، عمدا إلى محاولة إعدام كتبهما) يتعرّض كيليطو لقضيّة تحتمل الجدل والنّقاش: «لن أضيف شيئا يذكر لما يكتبه الفرنسيون. (…) إنّهم، وهذا هو المهم، لا ينتظرون منّي أن أكتب عن أدبهم. أدبهم لا يحتاجني.» هذه القناعة التي، على ما يبدو، كانت راسخة لدى الكاتب، أملت عليه فعل التّمزيق لأنّ تلك الدّروس لم تهيّئ له كتابة متفرّدة عن أعمال أدبية فرنسية.
غير أنّ هذا «الوهم» قد يكون انجلى مؤخّرا حين انتبه إلى أنّه كان في مستطاعه أن يمنح لبعض النصوص الفرنسية «مسحة، لنقل عربية، نغمة مستطرفة مميّزة، شيء لا يمكن أن يأتي به إلاّ قادم من ثقافة مختلفة، غير أوروبية» لكن ماذا؟ بعد انصرام الزّمن. ولهذا السّبب استطرد كيليطو يقول بنبرة حنين مشوب بندم «وإلى اليوم أحنّ إلى هذا العمل الفريد النّادر الذي لم أنجزه».
إنّه ندم فكري أو ندم أدبي لا يشمل هذه الجزئية فحسب (لنرجعْ إلى «فنّ الخطأ» تمثيلا في الكتاب نفسه)؛ إنّه يسري في كتابات كيليطو، ولذلك ارتقى ليصير عنوانا «وما يلفت أكثر في العناوين أنّها تحمل في بعض الأحيان مفاجآت، ليس للقارئ فحسب، بل كذلك للمؤلّف الذي قام بصياغتها». ما يعني أن يتحوّل النّدم إلى موضوعة أثيرة عند الكاتب تستوجب الفحص إسوة بموضوعات الكتاب والباب والمفتاح وسوء الفهم واللّبس وغيرها. وما يؤيّد هذا الاحتمال عبارة كافكا التي تتصدّر رواية عبد الفتاح كيليطو الأخيرة «واللّه إنّ هذه الحكاية لحكايتي». يقول الاقتباس : «ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو».