شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرحوار

عبد الصمد بلكبير للأخبار: : ما بعد الحداثة هو الإسلام القويم

تحدث عن تجديد أدوات الاستعمار من العنف المباشر إلى الوسائل الجديدة "الناعمة"

حاوره: د. خالد فتحي

 

لا يمتاز المفكر المغربي والعربي عبد الصمد بلكبير فقط بقدرته الفائقة على تدقيق ماهية المصطلحات، وسبر أغوار المفاهيم، ولا بتعدد مشاربه وأدواته العلمية… وإنما كذلك ببصيرته التنظيرية، وبإيمانه فوق كل ذلك، بأن أول مهمة للمثقف العضوي هي أن يحافظ على تفاؤله خصوصا في المنعرجات الصعبة للتاريخ، لأن سقوطه ويأسه، يعني السقوط المؤكد للأمة وضياعها المبرم والنهائي.

في هذا الحوار الجامع البديع، نستكشف مع د. عبد الصمد عبر تحليل عميق ورزين، ودونما تنميق أو تزويق أو شعبوية حالة الوطن العربي..، حيث ينثر أمامنا أسباب الإخفاق، ويستشرف لنا سبل الانبعاث في هذا العالم الشديد المحال، ودور الاسلام في كل هذا… محاولا أن يجدد طاقة التدافع الحضاري فينا، وأن يوقد لدينا جذوة الأمل للنهوض من جديد باعتبار أن الحضارة عنده منجز إنساني تتداوله الجغرافيات.. فلنقرأه معا.

 

——————————————–

 

– د عبد الصمد، كان لقاء العالم العربي مع الحداثة صداميا، حملة نابليون على مصر شرقا، هزيمة المغرب بإيسلي غربا، مما جعلنا نتوجس من الحداثة باعتبارها إنجازا برانيا. إلى أي حد تستمر هذه الحالة النفسية من الحداثة إلى اليوم، وبأية أشكال جديدة؟

– أفق الحداثة، ومن تم العصر الحديث، هو أفق عالمي موضوعيا وتاريخيا، الفروق هي في المؤهل لقيادتها من جهة، وفي درجات تقبل واستقبال فضائلها وإكراهاتها من جهة ثانية.

منذ طلائع النهضة شمال وجنوب وشرق المتوسط في القرن 16م، وربما قبل ذلك بقليل بالنسبة للشمال الأوربي، انطلق التنافس والصراع بين الطبقة الوسطى في الضفتين (الشمال والجنوب) حول من سيستبق الأحداث ويراكم المنجزات. ويبدو، حسب بروديل، أن ذلك (لن) ولم يتم إلا لمصلحة أحدهما، وعلى حساب الآخر حكما.

يحتاج تفصيل الوقائع إلى سرود، خلاصتها أن الرهان كان لمصلحة أوربا وعلى حسابنا (تحول طرق التجارة من المتوسط إلى المحيط / اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح اكتشاف أمريكا/ ثم ترجح الكفة في المتوسط لمصلحة البحرية الأوروبية، ومن تم احتلالها جميع شواطئ وموانئ المدن الساحلية العربية؟!) موازين القوة، هي من حسم التنافس لمصلحة البورجوازية الأوروبية، ومثل غروب شمس نهضتنا التي كانت محتلة، فجرا بالنسبة لأروبا.

ثم لا ننسى أن الاضطرار العربي للاحتماء السياسي والعسكري بالحليف التركي المسلم، كان على حساب الإصلاح الثقافي المطلوب لأي نهوض وشرطه، اللازم، هو الإصلاح اللغوي، والحال أن سيادة اللغة التركية على الإدارة والمجتمع العربيين (عدا المغرب الأقصى نسبيا) أوقف حركة الإصلاح اللغوي التي انطلقت سلفا عن طريق (ثورة) الأجناس الأدبية العربية الجديدة (الدوبيت، الزجل، المنامات، الكان وكان، الزجل، السير، المواليا.. إلخ) وعادت الأمة مضطرة إلى المحافظة والتقليد، لا نكوصا رجعيا، بل تكريسا ومحافظة على الهوية؟!.

لم تحصل (الصدمة) العربية أولا، سوى على المستوى العسكري تنظيما وأسلحة، أما المستويات الأخرى، فلم تكن الفروق بين الضفتين، بعد، بالدرجة التي أضحت عليه لاحقا.

وعلى سبيل التنسيب، فإنه يجب التمييز، مثلا، بين حالتين ومرحلتين، دخول نابليون إلى مصر ولبنان (1798) ومعركة إيسلي (1844).

لقد كان التحرك العسكري الفرنسي بقيادة القائد الحداثي العظيم (نابليون) بمثابة فتوح تحرير، لا احتلالا ولا استعمارا، وذلك في سبيل نشر قيم وبرنامج الثورة الفرنسية التي أسست للحداثة في فرنسا، وللتحديث خارجها، ضدا على قيم الإقطاع، ودوله الدينية، وعصره الوسيط (المظلم). تماما كما كان حال الفاتحين والمحررين في التاريخ (المقدوني/ العاشوريين/ الفينيقيين/ الرومان ثم الإسلام) هدفهم إلغاء الحدود بين القبائل والشعوب، تجاريا وثقافيا، وإزاحة المستفيدين منها (شيوخ القبائل والطوائف وقطاع الطرق).

أما إيسلي، فهي لحظة عسكرية فارقة حقا، ولكنها أيضا، كانت جزء وامتدادا لقرون الاصطدامات العسكرية بين جغرافيتين متجاورتين، ولم تكن لها دلالات حاسمة، بدليل انتصار مقاومة الشمال المغربي لاحقا (أنوال 1921) على الاسبان، عندما أصبحوا استعمارا؟!

وفي الحديث، كما في المعاصر، فإنه لم يكن للمغاربة، كما بالنسبة لغيرهم، مشكلة مع (الحداثة) كتقنيات وكقيم وكمعارف وعلوم، بل مع الاستعمار وجيوشه وعنفه، والذي لم يأت أصلا للتحديث، بل للاستغلال من جهة، ولعرقلة النهج الخاص لنهوض ولحداثة محلية تقودها بورجوازية وطنية غير كمبرادورية.

وحتى اليوم، فإن الصراع ما يزال هو نفسه بين الرأسماليتين الاستعمارية وتوابعها في الداخل، والوطنية في إدارة الدولة وفي المجتمع، الذي تغير هو تجديد أدوات الاستعمار من العنف المباشر، إلى الوسائل الجديدة (الناعمة): القروض/ التبادل غير المتكافئ/ اصطناع الطابور 6 الذي عوض الطابور 5، / اللغة والثقافة/ الإعلام والاتصال.. إلخ).

 

– النهضة اليابانية، والنهضة العربية كان لهما نفس المقدمات، لكن نتائجهما متباينة، لماذا أخفق العرب ونجحت اليابان؟

– خصوصية التجربة اليابانية، تفسرها الجغرافيا الطبيعية أساسا. لقد ساعدها بعدها الجغرافي عن أوربا، بل وسمح لها، بأن تكون لها أيضا مستعمراتها المجاورة، دون منافسة.

لا يجوز أن ننسى بحال، أن التاريخ تأسس في بحيرة الأبيض المتوسط، شرقها أولا ثم جنوبها وشمالها لاحقا ومباشرة، ولقد استمر الوضع كذلك حتى اليوم ربما، ولهذا فلا مجال للمقارنة بين وضعية العرب في التاريخ ووضعية غيرهم فيه، بما في ذلك الحضارات العريقة التي تأسست خارج المتوسط. ولم تكن لها أدوار المتوسط، كما هو حال اليابان والهند والصين وما بينهما كثير (فيتنام/ كوريا/ روسيا.. )

هذا الحكم ما يزال مستمرا حتى يومه، والحجة حالة غزة (وعموم فلسطين) ومنطقة الشام ومصر عموما، إنها تعدل في العلاقات الدولية وفي التاريخ أمما ودولا بقضها؟!

 

– في أي مرحلة تقف اليوم الحضارات التقليدية ومن ضمنها الحضارة الإسلامية، من الحداثة؟ هل يمكن أن توقع نهوضها من جديد، كالصين، هل ينتقل مركز العالم نحو الشرق؟

– اعتقد أن الحضارات، هي من طبيعة إنسانية وعالمية، خلاف الثقافة (والفلكلور أحيانا) وهما من طبيعة اجتماعية- جغرافية، وهو ما يعني أن قيادتها تنتقل بين شعوب وأمم وجغرافيات متعددة ومتنوعة، مرتبطة ومتواصلة ومتراكمة. تأسست أولا بالفلاحة والزراعة والرعي في الأقاليم النهرية، وبالذات في الهلال الخصيب (العراق ثم الشام) ثم إلى مصر فاليونان والرومان وبيزنطة والفرس ثم عادت إلى الشام والعراق والمغارب والأندلس بتأطير وتحفيز وتنوير من العقيدة الإسلامية.. هذه الحضارة أنجزت جميع وعودها، احتوت ودمجت وحافظت على فضائل الحضارات قبلها (الفرس، الهند، الصين واليونان خاصة) وطورتها وراكمت عليها.. وسلمتها إلى أوربا لتستأنف بواسطتها ذات المسيرة من التراكم والتحديث والتقدم لمصلحة الإنسانية جمعاء، كما كان الأمر بالنسبة لسوابقها الحضارية جميعا.

وأتصور أن الأمر، تم في نفس الشروط بالنسبة للشرق الأقصى، حيث تكاملت وتناوبت أقاليمه على قيادة حضاراتها، مع فارق وطارئ جديد، فشلت فيه (الفتح) اليونان (الاسكندر المقدوني) ونجح (=الفتح) فيه التجار المسلمون، حيث أوصلوا قيمهم إلى الصين وكوربا والهند وروسيا.. وذلك قبل فتحهم جنوب المتوسط نفسه، كما استعاروا منهم، ما عمموه على عالم العصر الوسيط جميعه.

 

– مع تنامي العولمة ومدها الكاسح، ألا يمكن القول، إن الحداثة الغربية صارت هي الحضارة العالمية؟

– أما بخصوص نهضة الصين الراهنة، فإن الأمر لا يتصل بحضارة صينية خاصة، بل بحضارة إنسانية وعالمية جديدة، تدشنها الصين، ولا تؤسسها أو تبنيها، بل فقط تجربها وتبدع فيها وتساهم في إشاعتها والدعاية لها بالممارسة والإنجاز، لا بالدعوة الإيديولوجية والخطاب السياسي. إنها (ما بعد الحداثة) البورجوازية الرأسمالية الغربية. أقصد برنامج ومبادئ وقيم الاشتراكية في الشروط الوطنية والجغرافية الخاصة بالصين، ما يسمونه (اشتراكية السوق).

لقد تولت الطبقة الوسطى الغربية مهمة تأسيس وتعميم فضائل وخيرات الحداثة على العالمين، سلما أو حربا، وأنجزت وعودها التقدمية كاملة، وانتهت راهنا إلى أن تصبح رجعية، بل ومتوحشة ومتهتكة وفاشلة، وهذا هو (ما بعد الحداثة) لديها. مع بعض التمييز لحالة أوربا الشمالية وبعض الشرقية، وأيضا الرأسماليات الوطنية الفتية والناهضة في البريكس خاصة. غير أن جميع ذلك لا أفق له، إلا أن ينتهي إلى الأخذ، تدريجيا، بقيم الاشتراكية، بترشيد وتنظيف القطاع العام من جهة، والقضاء على الربا وضبط الغش بالقيم الليبرالية الحقيقية والمؤسسة.

لا يتعلق الأمر إذن بـ (أفول الغرب) بل بأفول الرأسمالية التوسعية الربوية والاستعمارية وبزوغ فجر اشتراكية السوق الليبرالية والتي يعمل الشعب الصيني بنجاح وبقيادة رشيدة من حزبه وإدارة دولته، على تحقيق نموذج من النماذج الممكنة والمحتملة بل والمطلوبة، من قبل جميع الدول والشعوب والأحزاب الوطنية وليس العولمية، في عالمنا وعصرنا الراهن.

وفي نظري، فإن هذا النظام الاشتراكي الجديد لعصرنا ولعالمنا، هو الأقرب ليس إلى الإسلام ومنجزاته العقدية والحضارية.. بل بالأحرى إلى الدين القويم غير المؤدلج وغير المسيس، (دين إبراهيم وموسى) وهو نفس دين عيسى ومحمد (ص). إن الإسلام هو أقرب إلى الاشتراكية (والعكس) منه إلى الرأسمالية، وأحرى إلى الإقطاعية والعبودية قبلها، ويكفي حجة على ذلك، الموقف من الربا، ومن ملكية الأرض (=أرض الله) واعتبار البشر جميعا خلفاء لله، وليس الحاكم فقط ورفض مفهوم (الآخر) العنصري وإحلال الأخوة الشاملة بين البشر، بديلا عنه؟!

 

– لقد جرب العالم العربي للانخراط في الحداثة، كل الوصفات، وفشلت كلها، وآخرها “الإسلام السياسي”، ماذا يتبقى لنجربه في عالم يقال إن الايديلوجيات قد ماتت فيه؟

– أنا أفضل مصطلح (الوطن العربي) على نعته الاستشراقي بكونه (عالم عربي)؟

أما أننا جربنا، فالأصح القول، إنه جُرب فينا من قبل الاستعمارين القديم والجديد، سياسات حداثة أو تحديث (الاستتباع) وهو ما نجحوا فيه لمصلحتهم وانهزمت مطامحنا من تجريبه، أو بالأحرى تطبيقه علينا، مرغمين غير مختارين.

تمة فعلا تجارب تحديث وطنية عربية، وذلك منذ القرن 17 على الأقل، ولقد تمكنت من تحقيق نجاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية-دينية. غير أنها انتهت جميعها إلى الإفشال من قبل الاستعمار، وليس الفشل. وذلك إما بالتدخلات العسكرية المباشرة خلال مرحلة الاستعمار القديم، أو غير المباشرة، نسبة إلى أساليب الاستعمار الجديدة والمتجددة، والتي قد تضطر إلى التوسل بوسائل الاستعمار القديم، حين تفشل وسائله الجديدة. وهو ما يذكرنا بالعدوان الثلاثي مثلا (مصر 1956) / أو استمرار حالة احتلال سبتة ومليلية والجزر/ أو غزو العراق وليبيا واحتلالهما عسكريا حتى اليوم.. إلخ فضلا عن أساليب نشرالفتن والفوضى والانقلابات (المدنية والعسكرية) وتشجيع النزعات القبلية والطائفية والجهوية -الفلكلورية والتفكيك واصطناع الدويلات العميلة والوظيفية والاحتلال الجزئي والمؤقت (لبنان ثم سوريا).. إلخ. والحروب الاقتصادية والمالية والتجارية.

الاستعمار الجديد ووسائله وأهدافه.. أخطر من الاستعمار التقليدي، في منع التحديث الوطني، بل وفي المس بشرطه الضروري، ألا وهو الاستقلال الوطني والوحدة القومية والسيادة والديمقراطية..

 

– شئنا أم أبينا، الإسلام في قلب التجربة الحضارية العربية. أي اسلام يمكنه أن يجعلنا نمسك بتلابيب العصر؟

– لا يتصور الإنسان تاريخا وراهنا واستقبالا، بدون الدين. أقصد الدين القويم أو الفطري، والذي يفسر تاريخه وتمدنه وحضارته.. ومبادئه وقيمه ومنهاجه.. وهي معروفة عموما لغير المغرضين وغير المفسدين.. هذا الدين والتدينات المنبثقة منه والمرتبطة به، احتضنه وحافظ عليه المحتاجون إليه دائما. أقصد جميع الكادحين في المجتمعات والتاريخ..

غير أنه تعرض ويتعرض للأدلجة والتسييس والتوظيف دائما، من قبل الطبقات الرجعية وإدارات دولها السائدة، وذلك عن طريق التفسير والتأويل والتحريف، وبواسطة موظفين مختصين في ذلك، هم الكهنة والسدنة والأحبار والرهبان وعموم من يطلق عليهم (رجال الدين) وفقهاؤه في (علوم) متعددة ومختلفة وغير متنوعة، ذلك لأنها، عموما، تستهدف ذات الأهداف، التي هي ليست بالضرورة ضارة أو فاسدة، خصوصا وأن الفقهاء أولئك، ليسوا متطابقين، وليسوا جميعا مسخرين؟!

ولقد قلت دائما وكررت، أن (ما بعد الحداثة) هو الإسلام القويم، دين الفطرة وإسلام النص، مقروءا بشروط التأسيس التاريخية وبمصالح الجماعة الوطنية أو القومية، والعلاقات الدولية الإنسانية الطارئة والراهنة. هذا الإسلام المتجدد، في قراءاته وتأويله العلمي التاريخاني والشعبي. لا يمكن أن يكون رأسماليا، كما حصل مع الإخوان (وأحرى داعشيا إرهابيا) بل اشتراكيا، كما يفترض أن يحصل مع اليسار، يسار جديد غير ليبرالي وأحرى غير تبعي، خاصة على النمط الرجعي الخليجي. إسلام يذكرنا، فضلا عن السنة الكريمة، بعمر وعلي والغفاري والعز بن عبد السلام والمعتزلة وإخوان الصفا والغزالي وابن رشد وعمر بن عبد العزيز ويوسف بن تاشفين والقاضي عياض والسبتي وعلال وعبد الناصر والسباعي وعمار أوزيجان وياسين والسنوار.. إسلام العمل والاجتهاد والمصلحة العامة والتزاحم والتنافس في الخيرات.. إسلام الرسل والأنبياء والصلحاء وصحابتهم وتابعيهم.. في التاريخ.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى