الكاتب المغربي عبد السميع بنصابر كاتب متعدد الاهتمامات، انطلقت تجربته من فن القصة وترسّخ اسمه كاتبا له خصوصيته على مستوى اللغة القصصية والبناء والرؤية من خلال مجموعتيه القصصيتين “حب وبطاقة تعريف” و”الرقص مع الأموات”. انتقل بعدها إلى الرواية “خلف السور بقليل” و”ذيل الثعبان”. لفت الأنظار إليه بمجموعته القصصية المخصصة للأطفال “الألوان المشاكسة” التي نال عنها جائزة المغرب برسم دورة 2023. في هذا الحوار سنتناول مع الكاتب مساره الإبداعي من القصة إلى الرواية وأخيرا الكتابة للأطفال واليافعين.
نبدأ بجائزة المغرب لأدب الأطفال واليافعين برسم دورة سنة 2023 حازت “الألوان المشاكسة” على الجائزة مناصفة مع “هاتف مروى”. كيف اتجهت من القصة والرواية إلى أدب الأطفال؟
قد يبدو أنني اتجهت من القصة والرواية إلى أدب الأطفال، والواقع أن اختيار الكتابة الموجهة للطفل مشروع قديم، كنت قد بدأت الاشتغال عليه قبل سنوات. لقد دشنت هذا المشروع منذ تخرجي كأستاذ للتعليم الابتدائي، خلال تأطيري لورشات القراءة والمطالعة الحرة بالأندية التربوية. ونظرا لندرة الكتب الصادرة في هذا المجال، خاصة على الصعيد الوطني، ولطالما خامرتني الرغبة في تأليف نصوص تستجيب لتطلعات المتعلمين. وهكذا، استطعت أن أراكم، طيلة هذه السنوات، مجموعة من النصوص المخصصة للأطفال، كنت أتقاسمها مع تلاميذي ضمن أنشطة الحياة المدرسية. ولا بد من الإشارة إلى أن اشتغالي في قطاع التعليم، أبقاني دائما مرتبطا بعالم الطفولة، وكنت دوما أرجئ نشر هذه النصوص إلى وقت لاحق. ورغم تنويع مجال الاشتغال بين أدب الطفل وأدب الكبار، إلا أنني، عموما، لم أبرح نطاق الأجناس السردية التي داومت الاشتغال عليها، وهي الرواية والقصة والمسرحية..
هل ترى بأنّ أدب الأطفال واليافعين لم يحظ بعد بالاهتمام لدى الكتاب والمبدعين إن لم نقل إنّ النظرة الشائعة حوله أنّه أدب سهل لقارئ سهل؟
في البداية، لا بد من استحضار خصوصية الكتابة للأطفال. ففي اعتقادي أنّها تنطوي على صعوبات وتحديات أكثر من غيرها. أقول هذا لأنني أزاوج بين الكتابة للكبار والأطفال. فأدب الطفل يتطلب الكثير من الجهد والدقة والحذر، اعتبارا لحساسية هذه المرحلة وخطورتها. كما أنّ الكاتب ملزم بتقمّص شخصية الطفل، وتبني رؤيته للعالم. وينبغي أيضا أن نستحضر الخصوصيات المعرفية والمهارية والوجدانية لدى الطفل، بما في ذلك سلاسة اللغة وبساطة المعنى وعمق الخيال. دون أن ننسى العناصر البصرية التي تلائم هذه المرحلة العمرية من صور ورسوم وغيرها. و أعتقد أن النصوص التي تستجيب لهذه الخصوصيات، تظل راسخة في ذهن الطفل، وهذا ما يشجعه على ولوج عالم الكتب والمكتبات. وأعتقد أن هذه هي أسمى غاية يحققها أدب الطفل.
أما عن وضع أدب الطفل حاليا، فأرى، أن هذا الفن يشهد ثمة دينامية كبيرة في الآونة الأخيرة، إلا أنّ كم الإنتاجات هي المشكلة. وأعتقد أن المسؤولية هنا لا تقتصر على المبدعين فحسب، بل أيضا دور النشر، التي ينبغي أن توسّع مجالات اشتغالها واهتمامها، من خلال الانفتاح على هذا الأدب. وهذا ما سيشجع الكُتاب على الإبداع في أدب الأطفال. ويكفي أن نعلم أن الكثير من كُتاب الطفل في بلدنا يقتصرون إما على النشر الالكتروني، أو يختارون تهريب كتبهم نحو دور النشر المشرقية.
تطرح لنا “الألوان المشاكسة” برؤية الطفل للعالم منظورا مغايرا بعين الطفل، ما هي مجمل القضايا التي يطرحها كتابك؟
كتاب “الألوان المشاكسة”، عبارة عن عمل قصصي، كان قد صدر ضمن سلسلة موجّهة للأطفال ببيروت. وهو ثالت كتاب ضمن هذه السلسلة. وخلال هذا العمل، حاولت مقاربة موضوع التنمر، باعتباره أحد أبرز المواضيع الراهنة، سيما خلال فترة الطفولة. وأنا أومن أن الكتب الأدبية، يمكن أن تلعب دورا أساسا في تنمية خيال الطفل وتهذيب ذوقه، وأيضا يمكن أن تساهم في تربية الناشئة على القيم الإنسانية المشتركة، ومبادئ الحوار وقبول الآخر. و لكون السرد هو مجال اشتغالي، فقد عالجت الموضوع عبر جنس القصة، استحضارا لكون الطفل، خلال هذه المرحلة، غالبا ما يكون مفتونا ومأخوذا بسحر القصة أو الحكاية. و”الألوان المشاكسة” قصة عجائبية، تتخذ من اللوحة التشكيلية فضاء لها، والأقلام الملونة هي الشخصيات المتحاورة في القصة.
بدأت بفن القصة “حب وبطاقة تعريف” و”الرقص مع الأموات” إلى الرواية “خلف السور بقليل” و”ذيل الثعبان” ثم أخيرا أدب الأطفال مع “الألوان المشاكسة”. ما السرّ في هذا الانتقال في مسارك الإبداعي؟
كما سبق أن ذكرت. فالكتابة للطفل لم تكن انعطافة جديدة في مساري الإبداعي، إنما ثمة ظروف وجهتني أكثر للاهتمام بهذا الصنف من الأدب خلال الفترة الأخيرة، سيما وأنا أخوض حاليا تجربة المساهمة في تأليف نصوص الكتب المدرسية، تحت إشراف وزارة التربية الوطنية. و لا أنسى أيضا أن تجربة الأبوة التي حفزتني أكثر على التأليف للأطفال، من خلال مواكبة ابنتي في انفتاحها على عالم الكتب والمكتبات. و لابد من التنويه بالنشاط التي يعرفه أدب الطفل في السنوات الأخيرة، سواء من حيث الإبداع أو التلقي. ولعل استحداث فرع أدب الطفل ضمن فئات جائزة المغرب للكتاب أحد أوجه هذا الاهتمام، إلى جانب تخصيص معرض دولي خاص بكتاب الطفل بمدينة الدار البيضاء.
تقول عن القصة هي الطفلة المدللة وهي الحبّ الأول والأخير، ومهما تقلبتُ بين الأجناس هي منطلقي… مع ذلك لا نجد اهتماما بالقصة المغربية نشرا ومتابعة تكاد هي والشعر في الزاوية الحادة لحلبة الإبداع المغربي والساحة متروكة بأكملها للرواية. هل الأمر مرده إلى سوء الفهم وقصور في الوعي الأدبي، أم أننا بالفعل نعيش عصر الرواية؟
هذه إشكالية أخرى. إلى وقت قريب، كانت القصة تحظى بالكثير من الاهتمام والمتابعة، من قبل المبدعين والنقاد والناشرين. وقد يُعْزى هذا الفتور حاليا، إلى تراجع الإقبال على الصحف الورقية، خاصة إذا استحضرنا الظروف التي نشأ فيها فن القصة القصيرة. و من المحزن أن يراها البعض مجرّد تمرين سردي، أو جواز مرور إلى الرواية. أمّا الشعر، فالوضع فيه أكثر تعقيدا. و يكفي أن نعلم أن معظم دور النشر لم تعد متحمسة لنشر الدواوين الشعرية. والأدهى من كل ذلك، أن تساهم المؤسسات أحيانا في تكريس هذا التراجع، من خلال الاحتفاء بأجناس كتابية على حساب أخرى، عبر تخصيص الجوائز الأدبية، على سبيل المثال، لجنس الراوية أكثر من غيره. إضافة إلى إشاحة النقاد عن بقية الأجناس، رغم ما تكتسيه من أهمية. فالشعر مثلا، يتعدى كونه محض لون أدبي مستقل، بل هو منبع غني لاكتساب اللغة وصقلها. كما أنه يساهم في إثراء وتطوير المهارات التعبيرية، من خلال الإيقاع والصور والتشبيهات، ويمنح القارئ فهما أعمق بمحيطه، مما يجعله عنصرًا أساسا في المشهد الأدبي.
حظيت بجوائز مهمة ومتابعة على مستوى القراءة والنقد، هل ترى أنّها شكلت بالنسبة لك دعما ضروريا؟ وهل ما زلنا في حاجة المزيد من الانتباه إلى تجارب إبداعية قد لا تجد لنفسها الفرص الحقيقية لتأكيد ذاتها وحضورها في المشهد الأدبي المغربي؟
تبقى الجائزة وسيلة لترسيخ الاسم وتكريس التجربة على الصعيدين الوطني والدولي. فواقع الكتاب والنشر يرخي بظلاله على الساحة الأدبية شئنا أم أبينا. وغالبا ما يجد المبدع نفسه في مواجه العديد من التحديات، التي قد تصيبه بالإحباط. فمعظم دور النشر المغربية لا تتعامل بالجدية المطلوبة مع الأسماء الجديدة. إنها مؤسسات تجارية في النهاية. لكنني لا أرى في الأمر مبررا لتهميش وإقصاء التجارب الجديدة. فمن حقها أن تحظى بفرصة للتعريف بنفسها عبر إنتاجاتها الأدبية. وهنا تبرز مكانة الجوائز، باعتبارها نافذة أخرى، يطل المبدع من خلالها على القراء، دون إغفال الدور التحفيزي الذي تلعبه هذه الجوائز من أجل الاستمرار.
يتّسم إبداعك الأدبي بروح الدعابة أحيانا ونظرة ساخرة تقتنص المفارقات في الشخصيات والحياة عموما، يمكن القول هناك نبرة مرحة تشعّ من كتاباتك. من أين أتت هذه الروح وهذه النظرة.
ملاحظة وجيهة. وقد يكون هذا التوجه امتدادا لشخصيتي، لكوني أنحدر من أصول مراكشية متشبعة بروح النكتة. وقد أرى في السخرية وسيلة فعّالة لمواجهة بؤس العالم. وربما ليقيني أيضا أن ما يصادف المرء من تناقضات غريبة في محيطه، لا يحسُن التعامل معه بغير السخرية كنوع من اللامبالاة. ليس في الأمر استهتار طبعا، إنما هو، كما قلت، طريقة مفترضة لامتصاص التوتر والتعب اليومي. لكن في النهاية، دعني أقول، إن النصوص التي كتبتها بنفَس ساخر، تكاد تعد على رؤوس الأصابع، إذا ما نظرنا إلى المنجز الأدبي بأكمله. أستطيع أن أقول إن رواية “خلف السور بقليل”، ومجموعة السكابندو يمثلان بعضا من تشكيلات “الأدب الساخر” إن شئت. لكن ثمة نصوص أخرى، في المقابل، يغلب عليها طابع القلق والشك والتساؤل.
تدافع عن الوسائط الإلكترونية على أنّها وسيلة لتشجيع القراءة، لكن بدأنا نكتشف جيلا من القراء يتّجه بقوة إلى أدب جديد دعامته الأساسية هي هذه الوسائط تحديدا، وبذائقة أدبية خالية من روح الإبداع أو تفتقر لأبسط القواعد الأولية في الكتابة. ما رأيك في هذه الظاهرة؟
كما قلت، لا زلت أعتقد أن معضلة القراءة لا ترتبط مباشرة بالثورة الرقمية، إذا استحضرنا التطور الذي يشهده عالمنا. فالتاريخ والمعطيات الأركيولوجية تؤكد أن الكتابة نفسها عرفت تحولات عديدة على مرّ العصور. وقبل أن يكتب أسلافنا على الورق، كانوا قد نقشوا على الصخور، والخشب، والجلود. لذلك، أرى أن التحوّل من الورقي إلى الإلكتروني أمرا بديهيا تفرضه سنن الكون. هذا دون أن نغفل الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الوسائط في تكريس القراءة. إذا سلمنا طبعا، أن المقصود بالقراءة هي مطالعة النصوص، مهما اختلفت حواملها، ورقيا أو إلكترونيا. وإلا سنكون ملزمين بتحديد العامل الأساس في تراجع القراءة، ضمن المنظومة الرقمية ككل. أقصد مثلا سيادة الصورة ومقاطع الفيديو. آنذاك يمكن أن نقول نعم، ولو نسبيا على كل حال. أما أن نلقي بالمسؤولية كلها على الوسائط الإلكترونية، فلا أتفق. فالمواقع الآن حافلة بالمكتبات الضخمة التي تتيح للقراء من جميع أنحاء العالم آلاف الكتب في شتى الأصناف. ولا ننسى دور المواقع الإلكترونية في الترويج للكتب الجديدة. فهي منصات تفاعلية متجددة، وقناة مهمة يطل عبرها الكاتب على القراء، في ظل التحديات المطروحة في قطاع الصناعة الثقافية. فالكاتب لم يعد ملزما بنيل الاعتراف من مؤسسة ما حتى يبدع. أضف إلى ذلك تراجع الرقابة على النصوص، مع ظهور المنصات الإلكترونية، التي أضحت منابر أدبية رائدة، يتابعها آلاف القراء من كل البلدان.