شوف تشوف

الرئيسيةسياسيةملف التاريخ

عبد الرحيم بوعبيد والـ«CIA» ثلاثون عاما بعد رحيله

نورد هنا مضمون وثيقة تعود إلى شهر يوليوز 1974، وترقيمها R181655Z. هذه الوثيقة تقول:

«سري من سفارة الرباط. 3370

الموضوع: انخراط المعارضة في الدعاية لقضية الصحراء.

قادة حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي يُنتظر أن ينضموا إلى قافلة الحملة، التي يقودها الملك إلى الأمم المتحدة، بخصوص موقف المغرب في قضية الصحراء. المشاركة يبدو أنها سوف تجري يوم 17 يوليوز. وهو اللقاء الذي نرى أنه يوجد على الأوراق فقط ولم يعقد بعد.

عبد الرحيم بوعبيد، زعيم حزب المعارضة، أخبر السفير الأمريكي في الرباط أنه ينتظر أن يسافر بصفته عضوا في الحملة، في بداية الأسبوع المقبل، في جولة ببعض الدول من بينها إيران، باكستان، الهند، والصين الشيوعية. بوعبيد أشار إلى أن امحمد بوستة، زعيم حزب الاستقلال، سوف يكون في جولة مماثلة. وكذلك سوف يفعل رئيس الحكومة وبقية الوزراء معه».

 

 

يونس جنوحي

+++++++

بوعبيد وليبيا.. أيام نارية في طرابلس

وثيقة من أرشيف السفارة الأمريكية في طرابلس، أشعرت بها سفارة الرباط في يناير 1975. الوثيقة التي تحمل ترقيم 1874، موضوعها الكلمة التي ألقاها عبد الرحيم بوعبيد، بحضور أعضاء حزبه في لقاء بالدار البيضاء.

جاء في الوثيقة ما يلي: «على ضوء التطورات الأخيرة بخصوص العلاقات المغربية الليبية، قد يكون من المهم أن الخطاب الأخير الذي ألقاه عبد الرحيم بوعبيد في مؤتمر لحزبه بالدار البيضاء، نادى فيه بالاشتراكية في المغرب، قد حظي باهتمام الصحافة الليبية وخصصت له الصفحة الأولى في يوم 12 يناير».

هذه الوثيقة التي وصفت بالسرية والخاصة، حذرت من خلالها مصالح الخارجية الأمريكية في ليبيا نظيرتها في الرباط، من التوافق بين النظام الليبي والمطلب الذي رفعه عبد الرحيم بوعبيد، في مؤتمر الحزب.

قد يبدو الأمر عاديا في المغرب، فالاتحاديون نادوا بالاشتراكية طوال سنوات صراعهم في المعارضة مع النظام، ولم يكن الأمر جديدا، خصوصا وأن قياديين آخرين في الحزب نادوا بالاشتراكية في الحرم الجامعي والحركات التلاميذية وفي صحافة الاتحاد الاشتراكي، وقبله في صحافة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية قبل الانشقاق.

لكن ما لم يكن عاديا، هو إشادة ليبيا بالموضوع، خصوصا وأن تقارير أخرى لـ«CIA» تحدثت عن اتصال بين القذافي وبين معارضين مغاربة موالين لتيار المهدي بن بركة، ويقصدون تيار الفقيه البصري من منفاه خارج المغرب، قد يجعل احتفاء الصحافة الليبية بكلمة عبد الرحيم بوعبيد في مؤتمر الحزب، يحتمل أكثر من قراءة.

مصالح المخابرات الأمريكية في ليبيا كانت تشتغل تحت تضييق كبير، ليس من طرف الليبيين، ولكن من طرف السوفيات. إذ إن قدماء الاستخبارات الأمريكية الخارجية، أكدوا أن مخابرات الاتحاد السوفياتي كانت تنافس بشكل شرس في شمال إفريقيا، وكان واضحا أن نظام القذافي هناك موال للاتحاد السوفياتي، ورافض للوجود الأمريكي ومعارض كبير للسياسة الأمريكية حول العالم.

وهكذا فإن الأمريكيين اعتبروا احتفاء الصحافة الليبية بخطاب بوعبيد، الذي دعا فيه إلى اشتراكية في المغرب، الذي يعد أحد أهم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، يبقى موضوعا من الخطورة بمكان. إذ إن ثبوت تمويل القذافي للمعارضة المغربية، وجل أفرادها رفاق قدامى لعبد الرحيم بوعبيد قبل الانفصال عن الخيار الثوري للفقيه البصري، زاد من درجة الخطورة التي قرأ بها الأمريكيون هذا التقارب، بين الصحافة الليبية وبين شخص عبد الرحيم بوعبيد.

ففي تلك الفترة، سبق للقذافي أن صرح بمواقف معارضة للملك الحسن الثاني، وثبت أنه مول البوليساريو بالسلاح، وكان الليبيون يستثمرون في المعارضة المغربية، من خلال توفير الملجأ للمنفيين على أعقاب محاكمات يوليوز 1963 و1970، التي توبع فيها الاتحاديون من قدماء المقاومة السابقين والشباب الذين كانوا معجبين بالمهدي بن بركة.

أين كان موقع عبد الرحيم بوعبيد من كل هذا؟ تقول وثائق أرشيف السفارة الأمريكية في الرباط إن بوعبيد لم يكن أبدا صديقا للقذافي، ولم يسبق أن استفاد من أي تمويل مباشر منه، على عكس بعض الرفاق القدامى الذين كانوا في المنفى، واستفاد بعضهم من جوازات سفر ليبية وجزائرية للتحرك في أوروبا، عندما كانوا مطلوبين في المغرب بتهم تصل خطورتها حد تهديد أمن الدولة الداخلي.

كان هناك من يحاول إيقاع عبد الرحيم بوعبيد في الفخ، من خلال الاستثمار في مواقفه المعارضة للملك الحسن الثاني وللحكومات التي تعاقبت على المغرب ما بين سنة 1970، أي بعد حالة الاستثناء التي استمرت خمس سنوات، وصولا إلى آخر أيام عبد الرحيم بوعبيد بداية التسعينيات. والأمريكيون كانوا يحتاجون إلى الوقت لكي يفهموا كيف أن بوعبيد لم يكن مجرد معارض للدولة، لكنه كان حالة متفردة واستثنائية في علاقته بالملك الراحل الحسن الثاني.

بوعبيد والملك الحسن الثاني.. صداقة غريبة بطعم المعارضة

وصفته الصحافة الفرنسية عند وفاته يوم 8 يناير 1992، بأنه الرجل الذي قال «لا» للملك الحسن الثاني.

وقد كان وصفا غير مبالغ فيه، إذ إن عبد الرحيم بوعبيد اشتهر بمعارضته للملك الحسن الثاني، في كثير من المحطات والمواقف. كما أن الملك الحسن الثاني قال لوزراء من حزب عبد الرحيم بوعبيد، وأبرزهم عبد الواحد الراضي في وصف بوعبيد، إنه كان دائما يبحث عن غيمة في السماء، حتى لو كانت صافية، في إشارة إلى معارضة الأخير لمواقف الملك الحسن الثاني في عدد من المناسبات التاريخية، وأشهرها قضية الصحراء في بداية الثمانينيات، حيث دفع بوعبيد ثمن موقفه من الاستفتاء حول الصحراء. وسُجن رفقة قياديين من الحزب، بسبب موقفه المعارض لتوجه الملك. لكن سرعان ما طوى الملك الصفحة عندما عفا عن معارضه الأول، وقال له جملته الشهيرة بحضور قياديين من الحزب ومستشاري الملك: «بدون ضغينة يا عبد الرحيم».

والحقيقة أنه لم تكن هناك أي ضغائن بين الملك الحسن الثاني وصديقه عبد الرحيم بوعبيد، رغم انقطاع الاتصال المباشر بينهما لسنوات، بسبب مواقف بوعبيد السياسية وقيادته لحزب الاتحاد الاشتراكي، ومواقفه المعارضة منذ دستور 1962.

في هذا الملف، تظهر معلومات تنشر لأول مرة عن علاقة الملك الراحل الحسن الثاني وعبد الرحيم بوعبيد، ومواقف الأخير من قضية الصحراء، وصداقاته مع شخصيات من بينها السفير الأمريكي في الرباط، وأبعاد سياسة المعارضة التي كان يقودها بوعبيد، وكيف حاولت جهات خارجية استثمارها لزعزعة استقرار المغرب، أو خلق انشقاق في النظام.

عبد الرحيم بوعبيد، الوزير السابق منذ أول حكومة مغربية في 1956، كان دائما حاضرا بقوة في كل الزوابع السياسية، أولها تفكك حكومة البكاي الأولى، وآخرها موقفه المعارض لتوجهات الملك الحسن الثاني، وفشل الاثنين معا في الخروج بتوافق لحكومة مغربية يقودها اليسار. وهو ما تحقق بعد رحيله بسنوات، في سياق آخر مع عبد الرحمن اليوسفي في حكومة التناوب.

كان المعجبون بشخصية عبد الرحيم بوعبيد يثنون على قدرته على إحاطة نفسه بسياسيين يحترمونه، ولا يتخذون القرارات دون الرجوع إليه، مهما كان موقعهم في الدولة. وهو ما تحقق منذ منتصف الثمانينيات، عندما قرر الملك الراحل الحسن الثاني إلحاق كفاءات من حزب بوعبيد في الحكومة، واختار لذلك شبانا أبرزهم عبد الواحد الراضي. إذ كان وزراء الاتحاد يرجعون إلى عبد الرحيم بوعبيد للتشاور في قضايا حكومية وسيادية أيضا، وهو ما لم يكن يجد أي معارضة أو رفض من الملك الحسن الثاني.

فقد كان الملك يعرف جيدا عبد الرحيم بوعبيد الذي سبق له خوض تجارب حكومية، منذ عهد الملك الراحل محمد الخامس، كما سبق له خوض مغامرات حزبية مع حزب الاستقلال، وكان من الجيل الشاب الذي حضر محادثات «إيكس ليبان»، وشهد على نقاشات التمهيد لاستقلال المغرب عن فرنسا، وإنهاء حالة التخبط السياسي التي دخلتها البلاد منذ غشت 1953. باختصار، كان بوعبيد منتوجا مغربيا خالصا، وهكذا كانت تراه «CIA» الأمريكية، من خلال مكتب السفارة الأمريكية في الرباط.

 

 

 

الأمريكيون استغربوا ركوب بوعبيد نفس السيارة مع أوفقير

الواضح من خلال أرشيف وثائق الخارجية الأمريكية في الرباط، أن علاقات عبد الرحيم بوعبيد أصبحت مهمة جدا، بعد مؤامرة يوليوز 1963. إذ إن ضباط الـ«CIA» بالرباط، استغربوا كيف أن أبرز الذين تم إيقافهم وأطلق سراحهم على خلفية المؤتمر الذي اعتُقل كل الذين حضروه، بقوا على مسافة من بعض رموز النظام، سيما عبد الله إبراهيم، الذي لم يحضر المؤتمر أصلا، والمهدي بن بركة الذي كان قد اتخذ قرارا بعدم العودة إلى المغرب، عندما وصلته أخبار التضييق على الذين حضروا المؤتمر واتهامهم بحبك مؤامرة لزعزعة استقرار المغرب وتهديد النظام.

أما عبد الرحيم بوعبيد فقد كان يجده بعض موظفي الخارجية الأمريكية في الحفلات التي كانت تقام بوزارة الخارجية، خصوصا التي كان يحضرها الأمير مولاي عبد الله، خلال النصف الأول من ستينيات القرن الماضي.

هناك وثيقة في أرشيف الخارجية الأمريكية رقمها التسلسلي هو A 465/64، مفادها أن موظفين من السفارة الأمريكية في الرباط، حضرا حفلا أقيم على شرف مبعوث أوروبي إلى المغرب، ووجهت الدعوة إلى السفارة الأمريكية لحضور العشاء. لكن اللافت للانتباه أن موظفي السفارة، وكان أحدهم عنصرا من عناصر «CIA» بالرباط، انتبه إلى وجود عبد الرحيم بوعبيد على طاولة العشاء.

بالنسبة لهذا الضابط في الاستخبارات الأمريكية، فإنه لم يفهم تشعبات علاقات عبد الرحيم بوعبيد الذي كان يساريا واشتراكي التوجه، ووقتها كان الأمريكيون يحتاطون من كل ما هو يساري في إطار الحرب ضد الاتحاد السوفياتي. لكنهم لاحظوا أن بوعبيد جاء مع الأمير مولاي عبد الله، أي أنه كان مقربا جدا من الأمير، كما أنه كان يجري حديثا مطولا مع السفير الفرنسي في الرباط. كان هذا قبل سنة 1965 عندما ساءت العلاقات المغربية الفرنسية، بسبب اختفاء المهدي بن بركة وسحب فرنسا لسفيرها في الرباط.

مضمون هذه الوثيقة، التي جاء فيها أن الضابط الذي حررها للسفير الأمريكي في الرباط، لم يفهم كيف أن عبد الرحيم بوعبيد الذي يوجد أغلب أعضاء حزبه في السجن، بسبب قضية مؤامرة يوليوز 1963، يجلس على طاولة واحدة خلال عشاء دبلوماسي، بحضور الجنرال أوفقير، الذي كان بالنسبة إلى الأمريكيين الرجل الأول المسؤول عن الأوضاع الأمنية والمخابراتية في المغرب.

بل إن هذا الضابط الأمريكي أكد أن الجنرال أوفقير غادر العشاء، في السيارة نفسها التي كان يركبها كل من الأمير مولاي عبد الله، وصديقه عبد الرحيم بوعبيد.

الآن، بعيدا عن وثيقة المخابرات الأمريكية. كان جل أصدقاء عبد الرحيم بوعبيد يعرفون طبيعة العلاقة الوطيدة جدا التي كانت تجمعه بالأمير مولاي عبد الله، والصداقة القديمة التي جمعته بالملك الحسن الثاني، عندما كان وليا للعهد. المغاربة يعرفون جيدا أن عبد الرحيم بوعبيد كان صديقا للأسرة الملكية، وكان من أوائل الذين زاروا العائلة الملكية عند عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى إلى باريس، تمهيدا لعودته النهائية إلى العرش. فقد كان بوعبيد أحد أهل الثقة القلائل، الذين وثق بهم ولي العهد للتفاوض مع الفرنسيين.

رجل بكل هذه التراكمات، كان من العادي أن يكون صديقا للأمير. أما وجود الجنرال أوفقير في السيارة ذاتها، فقد سبق لعدد من رموز الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والاتحاد الاشتراكي لاحقا، أن أكدوا وجود حساسيات كبيرة بين عبد الرحيم بوعبيد والجنرال أوفقير، بلغت حد تبادل الملاسنات، إذ شاع بين الاتحاديين أن الجنرال أوفقير حاول مرة التشكيك في ولاء عبد الرحيم بوعبيد للملك، بحضوره، وهدده بوضع حد لحياته، إن كان فعلا يفكر في مؤامرة ضد الملك. حدثت هذه الواقعة، بعد أشهر فقط على مؤامرة يوليوز 1963، وقد نقلتها وثائق السفارة الأمريكية في الرباط.

رضا اكديرة رفض الجلوس مع بوعبيد في السفارة الأمريكية بالرباط

جاء في وثيقة من أرشيف السفارة الأمريكية في الرباط، أن عبد الرحيم بوعبيد كان بمثابة مستشار غير معلن للملك الراحل الحسن الثاني. ووصل الأمر حد إعداد تقرير مفصل عن اتصالات بوعبيد، خصوصا مع الاشتراكيين الفرنسيين. التقرير جاء فيه أن عبد الرحيم بوعبيد كان وزيرا في حكومات الخمسينيات مع فريق حزب الاستقلال، وأشار إلى أن الأخير لم تعد علاقته بالملك وطيدة كما في السابق، بسبب توجهه إلى قيادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي كان يحمل توجهات معارضة.

الصداقة بين الملك الحسن الثاني وعبد الرحيم بوعبيد لم تكن صداقة ملك مع وزير في حكومات شارك فيها الملك باعتباره وليا للعهد، وإنما كانت صداقتهما تعود إلى أيام ما قبل حصول البلاد على الاستقلال، حيث كان ولي العهد يدخل في نقاش عميق مع بوعبيد حول آرائهما في بناء مستقبل المغرب الاقتصادي والسياسي.

عندما تأبط عبد الرحيم بوعبيد حقيبة وزارة الاقتصاد في خمسينيات القرن الماضي، كان متأثرا بتوجه عبد الله إبراهيم الذي كان برفقة أطر من الحزب، سيما التي درست بفرنسا، يضعون مخططا اقتصاديا تبناه الحزب، لكن المشروع لم يكتمل.

الأمريكيون أشاروا إلى أن النزعات اليسارية لعبد الرحيم بوعبيد كانت وراء تدهور علاقته بالملك، في ستينيات القرن المنصرم.

لكن الأمريكيين لم ينفوا وجود اتصال بين عبد الرحيم بوعبيد والملك الحسن الثاني، والدليل أنهم أوردوا وثائق تؤكد تكليف الملك الحسن الثاني لبوعبيد بمهام خارج البلاد.

التقرير أشار إلى أن عبد الرحيم بوعبيد كان يلتقي مستشاري الملك الحسن الثاني، رغم عدم وجود أي لقاء مباشر بين الملك وبوعبيد، وهو ما كان يعني لدى عدد من الأوساط داخل القصر، خاصة تيار المستشار اكديرة الذي أكد للسفير الأمريكي في الرباط سنة 1970، أنه لا يريد الجلوس مع بوعبيد على طاولة واحدة، أن العلاقة بين الملك الحسن الثاني وعبد الرحيم بوعبيد لم تكن دائما على ما يرام.

بالعودة إلى موضوع عدم رغبة المستشار اكديرة في الجلوس مع بوعبيد، فإن وثيقة من أرشيف مراسلات السفير الأمريكي في الرباط، وهي من حزمة الوثائق التي رفعت عنها السرية في سنة 2012 فقط، أشارت إلى أن السفير الأمريكي نظم عشاء يوم الرابع من يوليوز، عيد استقلال الولايات المتحدة، في مقر السفارة الأمريكية بالرباط على شرف شخصيات مغربية حضره رجال أعمال مغاربة وفنانون، وكانت الدعوة قد وجهت أيضا إلى عبد الرحيم بوعبيد، وإلى المستشار الملكي أحمد رضا اكديرة. فما كان من الأخير إلا أن حمل سماعة هاتفه، واتصل مباشرة بالسفير الأمريكي في الرباط وسأله إن كان بوعبيد من بين الحضور، فأخبره السفير أنهم وجهوا إليه الدعوة، فاعتذر اكديرة عن الحضور، موضحا للسفير أنه لا يريد الجلوس مع بوعبيد في الطاولة نفسها، ولم يوضح الأسباب. لكن كان واضحا أن مشاكل حزب بوعبيد مع الدولة، كانت وراء ابتعاد المستشار الملكي عن لقائه.

لكن بعد أربع سنوات فقط، أي سنة 1970 سوف يكون عبد الرحيم بوعبيد مكلفا رسميا من طرف الملك الحسن الثاني بعدد من المهام.

بوعبيد للسفير الأمريكي: سوف أسافر مع الملك دفاعا عن ملف الصحراء

عندما يثار موضوع الصحراء مع اسم عبد الرحيم بوعبيد، يبرز اسم «ميسور» إلى الواجهة، كناية عن الإقامة الإجبارية التي فرضها الملك الراحل الحسن الثاني على بوعبيد، عندما عارض جهرا توجه الملك الحسن الثاني بخصوص اقتراح الحكم الذاتي في الصحراء، بداية ثمانينيات القرن الماضي.

والحقيقة، حسب ما تورده هنا وثائق السفارة الأمريكية في الرباط، أن الملك الحسن الثاني سبق له إشراك عبد الرحيم بوعبيد في الترافع عن الصحراء في الملتقيات الدولية.

وهنا نورد مضمون وثيقة تعود إلى شهر يوليوز 1974، وترقيمها R181655Z. هذه الوثيقة تقول:

«سري من سفارة الرباط. 3370

الموضوع: انخراط المعارضة في الدعاية لقضية الصحراء.

قادة حزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي، يُنتظر أن ينضموا إلى قافلة الحملة التي يقودها الملك إلى الأمم المتحدة، بخصوص موقف المغرب في قضية الصحراء. المشاركة يبدو أنها سوف تجري يوم 17 يوليوز. وهو اللقاء الذي نرى أنه يوجد على الأوراق فقط ولم يعقد بعد.

عبد الرحيم بوعبيد، زعيم حزب المعارضة، أخبر السفير الأمريكي في الرباط أنه ينتظر أن يسافر بصفته عضوا في الحملة، في بداية الأسبوع المقبل، في جولة ببعض الدول من بينها إيران، باكستان، الهند، والصين الشيوعية. بوعبيد أشار إلى أن امحمد بوستة، زعيم حزب الاستقلال، سوف يكون في جولة مماثلة. وكذلك سوف يفعل رئيس الحكومة وبقية الوزراء معه».

انتهت المراسلة التي وصفت بالسرية.

الصداقة بين عبد الرحيم بوعبيد والسفير الأمريكي في الرباط، كانت وطيدة إلى الدرجة التي جعلته يخبره بمعلومات شرحت لموظفي السفارة اللبس الذي وقعوا فيه، بشأن خبر انضمام المغرب إلى اجتماع الأمم المتحدة للترافع عن القضية المغربية. إذ إن الأمريكيين لم يفهموا كيف أن المغرب قرر بدء التحركات، حتى قبل أن تنطلق أشغال لقاءات التحضير لاجتماع الأمم المتحدة، لكن بوعبيد رفع اللبس، وشرح للسفير الأمريكي أن الأمر يتعلق بزيارات إلى عدد من الدول، للفوز بموقف داعم منها للقضية المغربية، قبل أن تتجه هذه الدول إلى الأمم المتحدة. جرى هذا سنة 1974، وهي الفترة التي كانت خلالها العلاقة بين الملك الحسن الثاني وعبد الرحيم بوعبيد متذبذبة، بسبب تداعيات الواقع السياسي المغربي. خصوصا وأن بوعبيد كان محاميا يرافع عن المعتقلين من حزبه، على خلفية محاكمة مراكش الشهيرة التي لم يكن قد مضى عليها وقتها سوى ثلاث سنوات فقط. وجرى هذا في وقت كانت الدولة قد أصدرت أحكام إعدام ضد أعضاء من الحزب الذي يقوده.

بدا واضحا إذن أن السفير الأمريكي في الرباط كان يحتاج إلى عبد الرحيم بوعبيد، سيما وأنه كان السياسي المغربي الأكثر قربا من اشتراكيي فرنسا. وهؤلاء كانت الولايات المتحدة تتوجس منهم، وتعتبرهم من أكبر مناهضي سياسة بلادها في شمال إفريقيا.

كان بوعبيد، صديقا للاشتراكيين، لذلك كانت السفارة الأمريكية تحرص على التواصل معه، سيما في الملفات الحقوقية، لأن علاقته مع القادة الاشتراكيين الذين كانوا ينددون بأوضاع حقوق الإنسان في دول من بينها المغرب، كانت وطيدة جدا.

 

قنصل أمريكي أخبر بلاده أن بوعبيد اتصل به بخصوص ملف الصحراء

هنا نورد وثيقة أخرى من أرشيف السفارة الأمريكية بالرباط، لكن هذه المرة، الوثيقة كانت قادمة من نيويورك إلى الرباط وليس العكس.

موضوع الوثيقة كان كالآتي: «محادثة مع بوعبيد».

الوثيقة التي ختمت بالسرية، وتحمل ترقيم USUN3553، وتعود إلى شهر أكتوبر 1974، جاء فيها:

«عبد الرحيم بوعبيد أعرب عن رغبته في الحديث مع السفير شوفل، الذي كان صديقا لبوعبيد وعدد من القياديين الاتحاديين، عندما كان يمارس مهامه الدبلوماسية في الدار البيضاء، ما بين سنتي 1959 و1963. بما أن بوعبيد قد تحدث سابقا مع شوفل، بخصوص أزمة الصحراء مع إسبانيا. وافترض بوعبيد أن الأمر سوف يؤثر على الوضع الداخلي في المغرب.

السفير شوفل، يرحب بأي اقتراح قد تضعه السفارة في الرباط، بخصوص هذا الاتصال».

انتهى مضمون الوثيقة.

هذه الأخيرة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الأمريكيين كانوا يتخذون الاحتياطات كاملة في علاقتهم بعبد الرحيم بوعبيد.

هذا الزعيم الوطني الذي حظي باهتمام سفارة أقوى دولة في العالم، إلى الحد الذي أصبح معه اتصاله بدبلوماسي أمريكي سابق، حدثا كبيرا تستيقظ عليه السفارة الأمريكية في الرباط عبر مراسلة قادمة من نيويورك، لتخبرها أن بوعبيد تواصل مع أحد قدماء موظفي الخارجية الأمريكية في المغرب.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن المسؤول الأمريكي السابق طلب المشورة من السفارة ومن الخارجية الأمريكية، بخصوص استثمار اتصاله مع عبد الرحيم بوعبيد.

وبدا واضحا أن هذا الاتصال كان ينتظره الأمريكيون على الجمر، إذ إنه كان سابقا لنهاية الأزمة مع إسبانيا، قبيل المسيرة الخضراء بأقل من سنة فقط.

وقتها كان الأمريكيون يركزون على العلاقات المغربية الإسبانية المتدهورة أيام فرانكو، خصوصا وأن الصحراء المغربية كانت مستعمرة من طرف قوات الجيش الإسباني، وكان مستقبل المنطقة وتداعيات فرضية انسحاب الإسبان أو نشوب حرب في المنطقة، تهم الأمريكيين بالدرجة الأولى بحكم حساسية المنطقة.

لم يكن القنصل الأمريكي السابق في الدار البيضاء، الأمريكي الوحيد الذي حظي بعلاقات مع معارضين مغاربة، فقد كان سفراء سابقون أيضا يحظون بصداقة شخصيات مغربية، من بينها عبد الرحيم بوعبيد. لكن اتصال الأخير بالقنصل شوفل في ذلك التوقيت، اعتبره الأمريكيون إشارة إلى أن بوعبيد كان يحتاج إلى علاقات مع شخصيات دولية لكي يحظى موقفه، أو موقف حزبه على الأصح بوزن على الساحة الدولية.

تحركات عبد الرحيم بوعبيد في ملف الصحراء، كما تصفها وثائق الخارجية الأمريكية، كانت نشطة للغاية، لكن من المؤسف ألا تكون تحركات بوعبيد في قضية الصحراء معروفة. إذ يبقى موضوع دخوله السجن رفقة اليازغي وخيرات، أشهر محطة في علاقة الحزب ككل بموقف الدولة من قضية الصحراء، خلال سياق بداية الثمانينيات، ولم يسلط الضوء على نقط الالتقاء، بل التناغم، الكثيرة بين الدولة والحزب بهذا الخصوص.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى