شوف تشوف

الرأي

عبثية الحرب (2- 3)

بقلم: خالص جلبي        

 

يبدو أن اللامبالاة تجاه هذه الظاهرة، سببها روح «الاعتياد» وليس «الدهشة»، التي تبعث على الفضول والاكتشاف، فليس منا إلا وشارك أو سمع أو عانى من الحرب بقليل أو كثير. في عام 1971م استطاع «غاستون بوتول» تأسيس «المعهد الفرنسي لعلم الحرب»، حيث تم دراسة ظاهرة الحرب في أكثر من قرنين من الزمان القريب منا، بين عامي (1740- 1974) للميلاد، ووضع لها مواصفات حتى تعتبر حربا، فمناوشات الحدود ومقتل العشرات لا تعتبر حربا. وهكذا تم وضع ستة شروط حتى تندرج تحت مفهوم الحرب، من مثل (أكثر من ألف قتيل، واشتراك أكثر من دولة، واستمرار أكثر من عام)، فوجد أنه قد وقع في الفترة المذكورة 366 نزاعا مسلحا، بحيث لم تمر إلا أعوام نادرة لم يحصل فيها نزاع مسلح! وقد كلفت هذه النزاعات المريعة 85 مليون قتيل، منهم فقط 38 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية وحدها! فأي جنون هذا وأي عبث هذا؟

في الحرب يموت الشباب والذكور بوجه خاص، فالحرب عموما ذكورية! وبذا تندثر الطاقة الإنتاجية، ويتدمر النسيج الاجتماعي، وتذوي الأمة وتهبط طاقتها، بل وقد تؤول إلى الفناء بشكل أو آخر، فدولة مثل «الباراغواي» لم تستفق من دمار حرب سبعينات القرن التاسع عشر حتى الآن، وألمانيا احتاجت إلى قرن كي تسترد عافيتها، واضطرت الكنيسة في كلا البلدين (المسيحيين والذين تحرم فيهما الكنيسة تعدد الزوجات) إلى إصدار مشروع في إباحة تعدد الزوجات، لتعويض الذكور الذين هلكوا في الحرب، وخسرت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية 5.6 ملايين قتيل، وكان الخاسر الأكبر في ضحايا الحرب الأخيرة (الاتحاد السوفياتي)، حيث سقط 22 مليون قتيل على أقل التقديرات، أما في يوغسلافيا فقد سقط واحد من كل عشرة من السكان إلى القبر، فأي دمار وبؤس هذا؟

في عالم الحشرات والحيوان لم يعثر على ظاهرة الحرب، أي حشد كمية كبيرة من عناصر جنس معين، ضد عناصر أخرى من النوع نفسه، يفتك كل فريق بالآخر، بأوامر (من فوق) وبأدوات تدمير رهيبة، ثم ترك الجثث بدون افتراسها! باستثناء بعض طوائف النمل وبشكل محدود، ومن أجل سرقة الغذاء والمؤونة. كما لم يعهد بشكل عام في عالم الحشرات والحيوان أن العنصر يقتل الآخر لمجرد القتل، قد تفترس سمكة أخرى للتغذية، وتطارد اللبوة الفريسة لتأمين وجبة لعائلة الأسد، أما القتل (للقتل) فلم يعرفه سوى هذا الكائن المرعب المسمى بالإنسان!

إن ما تسمى شريعة الغاب تقوم على اعتداء عنصر على آخر، من أجل أكل لحمه، فالدافع هو الجوع، والهدف هو الغذاء للمحافظة على النوع، وليس لمجرد القتل، والموجود في الفصيل الإنساني. وتابع الإنسان تفننه في القتل، فوصل إلى المقابر الجماعية كما كشف عام 1983 في إسبانيا عن تلك المقبرة المخبأة تحت الأرض التي ضمت الآلاف، وغرف الإعدام بالغاز، وأفران محارق الجثث بالجملة، وتبخر الإنسان بالحرارة النووية التي بلغت 100 مليون درجة مئوية. 

يبدو أن الذكور لعبوا الدور المركزي في تصنيع الحروب، وخلق مؤسستها «الجيوش»

وممارستها ساحات المعارك، فالجيوش في العالم ذات طابع ذكوري، وهكذا فالمرأة – لاعتبارات لا نفهمها على وجه الدقة – هي التي بدأت بالزراعة وتوليد الحضارة، والمرأة هي التي تحمل الحياة، وتنجب الحياة، وتحافظ على الحياة، ولا تشترك في الإبادة، بل بالتعويض عن كوارث الحروب، وهي بذلك نموذج مُعدل عن الذكر متكيف بشكل أفضل مع الحياة في هذا الجانب؛ فالذكور هم الذين سيطروا على قيادة المجتمع، ويبدو أن التركيب العضلي وهورمون «التستيرون» كان له دور التفوق في المراحل الأولى لنشأة الحضارة، ونزلت المرأة لتكون من الطبقة المستضعفة. وبذا زرع الذكور «بذرة» الحرب ليحصدوا نتيجتها المُرة في ساحات القتال، وليعانوا من أهوالها المرعبة، وما زال مرض (التيتانوس = الكزاز) في الذاكرة الإنسانية، من تلوث الجروح وموت المقاتلين المجروحين شر ميتة.

جاء في كتاب «في سبيل ارتقاء المرأة»: «وهكذا تفهم المؤسسة العسكرية أكثر المؤسسات تميزا في النظام الذكوري، التي تعتبر نموذجا لجميع المؤسسات الأخرى وتقوم على الطاعة غير المشروطة، وتنتزع من الإنسان بعده الإنساني الخاص، أي ذلك البعد المتسم بالاستقلال الواعي والمبادرة والمسؤولية، والذي بدونه لا يكون التجمع الإنساني الخاص، إن لجهة ابتكار أشكال جديدة للحياة، أو حتى لجهة الدفاع بالمعنى الحصري كالمقاومة أو حركات التحرير، التي لا يمكن تصورها بدون نظام مقبول، بحرية ومجازفة وتضحية يختارها الفرد، والجيش هو النموذج الأصلي المحتذى لجميع الأشكال الأخرى للتفويض واستلاب المسؤولية. إن هذا الاختراع الذكوري المحض يقوض بمقتضى المبدأ نفسه الذي يقوم عليه كل إمكانية حقيقية للدفاع، أي الدفاع عن استقلال الشخص الإنساني ضد أي اقتحام خارجي، أو أي اضطهاد داخلي، والدولة ليست إلا تعميم الصلة العسكرية بين السيطرة، وخنق استقلال الشخص الإنساني على جميع مظاهر التنظيم الاجتماعي الأخرى، ومركزية العنف العسكري هي نموذج لجميع أشكال المركزية الأخرى: الأبوية والبيروقراطية والإدارية والبوليسية وحتى التربوية والثقافية، والتنظيم المدني الخانق للمجموعات الكبرى، ليس إلا التغيير المدني للثكنة، شأنه في ذلك شأن الجامعة أو الكلية ذات الأصل  (النابوليوني)، وهي كلها حسب فكرة مؤسسها تؤمن الموظفين والضباط، كما تؤمن – في غياب أي فكرة – لدى خلفائه التكنوقراطيين والبيروقراطيين، تلك هي النهاية المحتمة للثقافة التي لم تدرها إلا نصف الإنسانية فقط، أي النصف الذكوري». 

 

نافذة:

في الحرب يموت الشباب والذكور بوجه خاص فالحرب عموما ذكورية وبذا تندثر الطاقة الإنتاجية ويتدمر النسيج الاجتماعي وتذوي الأمة وتهبط طاقتها

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى