شوف تشوف

الرئيسية

عام الفرح والهجرة

قلت لوالدي يوم أصبحت «إسلاميا» وكأني أشمت فيه، لكني في الحقيقة كنت أريد أن أطعن في أهل التصوف وأثبت له أنهم لا يقدرون على شيء سوى تلاوة الأذكار والأمداح:
ـ أين أصحابك من «فقراء الطريقة».. لقد تنكروا لك.. لم يساعدوك في محنتك.. إنهم لا يختلفون عن باقي الناس الذين يدورون مع المصالح أينما دارت.. لا يتقنون سوى الكلام وتنظيم الأشعار.. والأكل وشرب الشاي بعد ذلك..
(لم يقل والدي كلمة واحدة للدفاع عنهم.. أطرق رأسه إلى الأرض.. وأخلد بعد هذا الحديث إلى النوم.. لكن والدتي عاتبتني على سلاطة لساني.. ونصحتني بألا أصب البنزين على جراح أبي الغائرة..)
اقتنع في شهور المحنة بضرورة هجر القبيلة.. لا ندري من أقنعه بهذه الفكرة المدمرة، كأنه تعرض لعملية كبيرة لغسل الدماغ داخل المعتقل.. دخل إليه وخرج منه رجلا آخر.. وجدنا صعوبة في التعامل مع شخصيته الجديدة.. أصبح حاد الطبع.. متقلب المزاج.. ينفجر غاضبا لأتفه الأسباب.. استطاع السجن أن يحوله إلى حصان متمرد، إلى كتلة غامضة من الأحاسيس.. لم يحدثنا عما جرى له في الحبس مثلما فعل أثناء محاكمته من قبل القاضي الجائر.. لم يحك لأحد ما وقع له فيه إلى أن وافته المنية رحمه الله.. كان رجلا صلبا جدّا جدّا.. كتم في قلبه الضيم إلى أن تحوَّل ذلك مع مرور الوقت إلى سمٍّ زعاف، سرى في كل عروقه، فأرداه قتيلا…
قالت له الوالدة بعد أن اتخذ قراره بالهجرة إلى المدينة:
ـ هناك مظالم كثيرة في الحياة، وهناك ملايين الناس دخلوا السجن ظلما.. أنت لست وحدك من تجرع مرارة الجور في العالم..
ـ لا أقدر على العيش في هذا الدوار المظلم.. سنغير العتبة لعل الله يبدلنا خيرا منها.. لا أريد أن يراجعني أحد في هذا القرار..
ـ هل اخترت المدينة التي سنرحل إليها.. (سألته بعدما تأكدت أنها لن تظفر منه بشيء.. ثم ابتعدت منه قليلا تحسبا لأي رد فعل غير متوقع..)
ـ سنرحل إلى «الكاريان» في المدينة الفلانية.. وجدت من سيبيع لنا «زريبة» هناك.. علينا فقط أن نبحث عمَّن يشتري مني هذه الأرض..
رتَّب والدي لكل شيء داخل السجن.. المسألة أصبحت عنده مسألة وقت لا غير.. حاولت والدتي مرة أخرى أن تضع بعض الصعوبات أمام تنفيذ قراره: ما زال ابننا (تقصدني بكلامها) لم يكمل دراسته الابتدائية.. وبصراحة لا أرغب في العيش في مكان بعيد عن أرض أجدادي..
ـ شهران فحسب وسيكمل ابنك الدراسة، وهي مدة كافية لترتيب كافة إجراءات الرحيل.. (ردَّ عليها ثم وضع جلابيته على كتفه وهام على وجهه.. لا أدري إلى أين اتجَّه…)
في هذا العام، كنت أستعد لاجتياز امتحانات «الشهادة الابتدائية».. كان الحصول على هذه الشهادة ليس بالأمر الهيِّن.. تطلب مني ذلك بذل مجهود واضح.. ومراجعة مستفيضة ومتواصلة للحساب والتاريخ والنحو واللغة الفرنسية.. كان اجتياز هذا الامتحان (الابتدائي) يشبه امتحان الباكلوريا (نهاية الصف الثانوي).. يجلس التلميذ في طاولة لوحده.. يكون له رقم خاص به.. يشدد المعلمون الحراسة على التلاميذ، حتى أنه لم يكن بإمكانهم الالتفات إلى الوراء أو الوشوشة مع زملائهم.. استبد بي خوف شديد في ذلك اليوم، بالرغم من أني كنت متمكنا جدا من مواد الامتحان.. أذكر أن الآباء والأمهات والجيران كانوا يحضرون إلى المدرسة في منظر رهيب يزيد من خوف المُمْتَحَنين ويقلل من تركيزهم لتجاوز هذا «البلاء المبين».. أما يوم تعليق النتائج، فكان يوما مشهودا أيضا، حيث حضره الجميع بدون استثناء.. تحدث فيه إغماءات كثيرة.. غبار كثيف يعلو سماء المكان الذي علّقت فيه سبورة النتائج، وقد كتبت فيها أرقام الناجحين بالطباشير… نجحت بامتياز.. وأظن أن رقمي كان هو 345.. حصلت على النقطة الأولى وكانت 120/99..
كان سبب تفوقي في هذا المستوى التعليمي هو رغبتي الجامحة في التأكيد على أني أحسن من أخي «محمد» الذي حفظ القرآن ولم يفهمه.. نجحت في التحدي.. فرحت والدتي كثيرا، خصوصا عندما حصلت على جائزة وهي عبارة عن معجم للغة الفرنسية وكتاب في التاريخ ومجموعة قصصية معتبرة وغيرها من كتب لم أعد أذكرها جيدا.. والدي لم يكترث كثيرا لهذا الحدث لسبب بسيط هو أنه كان منشغلا بترتيبات الهجرة إلى المدينة… وأما «محمد» و«زينب»، فقد فرحا لنجاحي..
أعدَّ الوالد مخطط الرحيل إلى «الكاريان» في السجن.. لم يعد يتحمل بالمطلق «شيخ القبيلة»، الذي كان سببا مباشرا في حبسه.. ولا يطيق النظر إلى مزرعة «الوزير».. ويخشى أن يتحدث له أحد عن شيء اسمه «الدرك».. أصبح يتوارى شيئا فشيئا عن الناس ويتجنب حضور المناسبات كيفما كانت، بل أضْربَ عن الذهاب إلى السوق الأسبوعي، فباتت والدتي هي من تتدبر أمور معيشتنا اليومية، بل تفعل كل شيء..
شاع في أنحاء القبيلة أننا سنرحل بصفة نهائية إلى المدينة.. ذاع خبر عزم والدي على بيع أرضه التي ورثها عن أبيه.. ذات يوم زارنا شخص غريب يركب سيارة من نوع «سيمكا».. تبدو على ملامحه أثر النعمة.. يكاد الدّم ينفلت من خدّيه.. لم يكن هذا الرجل سوى المشتري.. حضرتُ مجلس المفاوضات.. قبض أبي منه العربون، واتفقا على موعد لكتابة العقد عند العدول.. كان يوما أسود في حياتنا.. لم تنقطع أمي عن البكاء.. ولبث «محمد» ثلاثة أيام عند «عمتي» غاضبا من تصرفات الوالد التي لم تعد تعجب أحدا.. أما أختي «زينب»، فلم يعد وجهها يعبر عن شيء، فلا أدري أهي منشرحة لهذا الرحيل النهائي، أو أنها أصبحت تتحكم في مشاعرها بدرجة كبيرة.. كنت أنا الوحيد الذي أفصح عن رأيه بخصوص هذا القرار المفاجئ.. أبديت غبطة ظاهرة ورغبة قوية في مغادرة هذه القبيلة الظالم أهلها.. كان هذا العام عام فرح بالنسبة إلي.. نجحت في «الشهادة» وتحققت أمنيتي في الذهاب إلى عالم جديد.. إنه عالم المدنية والتحضر…
طرت من الفرحة يوم اشترى والدي منزلا بالكاريان.. أمسيت أحسب الأيام والليالي التي تفصلنا عن موعد الرحيل.. لأول مرة أكتشف أن عجلة الزمان تدور ببطء.. لماذا لا يسبق الليل النهار؟ ولماذا لا يسبق النهار الليل؟ كنت أفكر كثيرا في أمر الساعة.. وفي مدة النهار والليل.. وفي أيام الشهر.. وفي شهور السنة.. كنت أتخيل أن أيام الأسبوع على شكل دائرة.. ونحن ندور حولها.. يبدأ يوم الاثنين في نقطة معينة من الدائرة.. ويوم الخميس يوجد أيضا في نقطة محددة منها.. وهكذا تدور الأيام على تلك الدائرة.. والغريب أني ما زلت أحتفظ بهذا التصور عن أيام الأسبوع إلى يومنا هذا.. النظرة نفسها أنظر بها إلى فصول السنة.. أرى كل شيء على شكل دائري.. ولم أكن على علم وقتها أن الحركة في الكون على هذه الشاكلة..
فهمت ـ في ما بعد ـ أن نظرتي «الدائرية» تلك للزمن لها ما يبررها، فقد خلق الله الأرض على شكل بيضوي.. والكواكب والأجرام وكل مادة في الكون تسبح في مسار دائري.. والصاروخ عندما يصعد إلى السماء يتخذ طريقا دائريا.. وربما كانت نظرتي تلك إلى أيام الأسبوع تجد تفسيرها في ما أودعه الله في عقولنا من فطرة تختزن تصورا حقيقيا عن الكون وكل شيء، لكن الأيام وأشياء أخرى تفعل فعلها في إفساد تلك السجية وإرباك النظام الذي يعمل به العقل الفطري.. ومن بقيت فطرته سليمة أكيد أن نظرته إلى من حوله ستكون سليمة أيضا..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى