عام البون.. ملامح أقسى تجربة صيام عرفها المغرب
عندما وزّع الأمريكيون مساعدات على مغاربة 1945
“أغلب النازحين رحلوا من الرحامنة نحو المدن الكبرى، مثل الرباط والدار البيضاء. تتحدث التقارير عن نزوح 20000 شخص من محيط منطقة الرحامنة شمالا، وتوافد 4000 مغربي على الرباط وحدها في فترة قصيرة لم تتعد أربعة أشهر. بينما توافد على فاس 15000 شخص كلهم نزحوا من نواحيها، خصوصا تازة، وصولا إلى منطقة الريف.
يونس جنوحي
بينما نحو الدار البيضاء وحدها، نزح أزيد من 100000 شخص قادمين إليها من القرى هربا من الموت الذي حصد آلاف الأرواح.
أغلب حركات الهجرة التي نتحدث عنها هنا تزامنت مع شهر رمضان لتلك السنة، والذي حل يوم 9 شتنبر 1945..”.
عندما هاجر عشرات آلاف الصائمين نحو المدن
تتحدث التقارير الفرنسية من الأرشيف عن إدارة محكمة للأزمة المتعلقة بعام البون، مجاعة 1945، لكن باحثين فرنسيين أقروا أن إدارتهم مارست تجاوزات كثيرة خلال عام البون، وتركت آلاف المغاربة يموتون جوعا وهي تراقب اتساع دائرة الجوع، بسبب تداعيات الحرب العالمية الثانية، واختفاء السلع من السوق العالمية.
رمضان في سنة 1945، تزامن مع الأسبوع الأول من شهر غشت، واستمر إلى بداية شتنبر، وكان فعلا حافلا بالأحداث.
إذ إن تزامن الصيام مع المجاعة، تسبب في ازدياد حالات الترقب التي فرضتها الإدارة الفرنسية، وأذكى الغليان في الشوارع احتجاجا على ما آلت إليه الأوضاع في المغرب.
في سنة 1950، زار الكاتب البريطاني برنارد نيومان المغرب، وتجول في الرباط والنواحي ووصل إلى الجنوب أيضا، وبالضبط ناحية أمزميز، وتحدث في كتابه عما أسماها جهود الإدارة الفرنسية لضمان عدم تكرار مجاعة 1945. نورد هنا مقطعا من كتابه، والذي عنوانه: “المغرب اليوم” – سبق أن ترجم الكتاب كاملا إلى العربية على حلقات في “الأخبار”.
يقول في المقطع المتعلق بأزمة 1945: ” المحطة الأولى التي توقفنا فيها، كانت محل تربية المواشي. يحاول الفرنسيون أن يطوروا المخازن المحلية. وأمزميز تتباهى بتوفرها على حصانين، وثورين، وحمارين. بالقرب من المخزن، كانت هناك بناية في طور البناء، وهي تعادل ورشة عمل، أو مؤسسة إغاثة.
بعد الجفاف الفظيع في سنة 1945، كان مئات الناس يتضورون جوعا حرفيا، وكان على الفرنسيين أن يرتجلوا إجراءات للإغاثة. يتمنى الجميع ألا تظهر المجاعة مرة أخرى، لكن الطبيعة لا تتأثر بالحس الوطني أو الخطابات السياسية. والفرنسيون يُعدون طرقا مناسبة لتوفير الغذاء، ومراكز الإيواء لمواجهة هذا النوع من الحالات الطارئة.
كانت الأمطار خلال موسم الشتاء الماضي ضعيفة. وعلى الرغم من عدم وجود أي احتمال لحدوث مجاعة، فإنه من غير المرجح أن تكون المحاصيل الزراعية جيدة”.
أما في ما يخص رصد هجرة المغاربة نحو المدن، بسبب مجاعة 1945، وهو ما يؤكد أن الدعاية الفرنسية لإبعاد مسؤولية كارثة تلك السنة تبقى فاشلة، فقد كتب يقول: “خلال فترات الجفاف على الخصوص، سمع الفلاحون عن الأجور الجيدة – بالنسبة إليهم على الأقل- التي يمكن كسبها، ونزحوا نحو المدن.
وهكذا، في غضون بضعة أشهر، جاء مائة ألف شخص إلى الدار البيضاء. وليس لأن نداء للعمل قد أُطلق، ولكن لأن الظروف الفلاحية كانت سيئة.
لا توجد مدينة في العالم يمكنها أن تتغلب على مأزق مماثل. قبل أربعين عاما، تبنت الدار البيضاء مشروع مخطط للمدينة. بُنيت مدينة أوروبية على بُعد مسافة من “المْدينة” الأصلية.
الفكرة كانت جيدة، لكن تطبيقها تُرك للمضاربين – وأغلبهم مغاربة. وهكذا فإن “المْدينة” الجديدة، تكاد تكون مزدحمة مثل القديمة.
حتى هذا الإجراء لم يحل المشكلة. المخطط الواسع للتعمير، لم يكن قادرا على مواجهة تأثير مجاعة عام 1945.
عشرات الآلاف من المغاربة مسلمين ويهود جاؤوا ليزدحموا في المدينة من العالم القروي. كان الازدحام طاغيا، والأسعار صارت مرتفعة. أرى أن الحس المُجتمعي للمغاربة ضئيل، ومحصور فقط في تنظيماتهم القبائلية”.
هل باع الأمريكيون المساعدات للمغرب؟
كثيرة تلك الأمثال الشعبية التي رددها المغاربة وأرخوا بها لأزمة 1945، التي كان رمضان متزامنا مع صيفها القائظ. حرارة لم تُثن المغاربة المساكين عن الوقوف في طوابير طويلة في منتصف النهار، لكي يحصلوا على مُد من القمح لا يكفي أبدا لإعالة أفراد الأسرة الواحدة.
“حبة قهوة تكفي لتعطر وجدة”، و”جوع المْدينة”، وغيرها من الأمثال القصيرة التي لخصت مقدار معاناة المغاربة مع الجوع في سنة 1945، خصوصا في المدن، حيث كانت عمليات توزيع حصص الطعام تعرف صعوبات كثيرة.
الحصول على الشاي والقهوة، كان يشبه المعجزة، بينما بقي الدقيق مادة نادرة يتطلب الحصول عليها الوقوف لساعات في طوابير، وتُوزع وفق نظام الحصص اليومية وليس حصص الادخار الشهرية أو السنوية التي عرفها المغاربة في تاريخهم.
لنعد هنا إلى السيد “نيومان”، ما دام قد أثار في كتابه مسألة المساعدات الأمريكية.
يقول: “في سنة 1945 كان المحصول من الحبوب أقل من ضعيف، بل إنها كانت نادرة. آلاف الناس ماتوا جوعا. وكان العدد ليصل إلى مئات آلاف من الموتى، لكن الفرنسيين حلوا المشكل باستغلال الطاقة، وضحوا بجزء من آخر احتياطي لديهم من الذهب لشراء الطعام من أمريكا.
ولاحقا، ناقشتُ مسألة عام المجاعة وتداعياته على المواشي مع خبير فرنسي.
قال هذا الخبير:
-“أنت تعلم طبعا، أن المغرب أولا بلد زراعي بشكل شامل، وقطاع المواشي يبقى حيويا داخل اقتصاده. وقد كان كذلك دائما.
عندما تولينا زمام الأمور منذ 1912 فصاعدا، كان الوضع سيئا. الحرب القبلية المستمرة استنزفت القطعان التي كانت الهدف الأول لعمليات النهب. تسببت ظروف الحياة البدائية في المزيد من الأضرار التي أبادت القطعان، بسبب انتشار الأمراض الطفيلية الوبائية التي اجتاحت البلاد بشكل دوري.
لذلك، في البداية، استعادة السلم كانت له نتائج ممتازة. كان الرجل يعلم أن قلعته آمنة من نهب الجيران. ثم بدأنا في المشكلة الثانية، وكانت هناك عمليات تفتيش بيطرية مستمرة، ودرّبنا مساعدين مغاربة للاشتغال مع ضباطنا. وبلغ متوسط تطعيم الحيوانات لدينا مليونين ونصف المليون رأس سنويا، والعلاجات ضد الطفيليات استهدفت أكثر من ستة ملايين رأس”.
فهل راكم الأمريكيون ثروة على حساب المغاربة؟ خصوصا وأن هذا الكاتب البريطاني نقل على لسان مسؤول فرنسي أن فرنسا اشترت، اعتمادا على احتياطي الذهب لديها، موادا غذائية من الولايات المتحدة لكي تُوزع في المغرب؟
التاريخ المحلي في المغرب يوجه أصابع الاتهام نحو فرنسا ويتهمها بتكريس أزمة الجوع التي مر منها المغرب في تلك السنة. والذاكرة الجماعية أيضا تحتفظ لهم بالأسوأ، ولا مكان فيها لأي مجهودات فرنسية لإنقاذ المغاربة، أو إعادة الذين ماتوا منهم جوعا في تلك السنة إلى الحياة.
+++++++++++++++++++++++
جندي بالقاعدة الأمريكية بسيدي سليمان يتذكر أجواء عام البون
صور بالأبيض والأسود هي كل ما تبقى من زمن القاعدة الأمريكية في سيدي سليمان، حيث القاعدة الجوية الأمريكية التي عاش فيها الجنود الأمريكيون على إيقاع الحياة الأمريكية، وكانوا فيها يتوصلون بالسلع القادمة من وراء المحيط، ويروحون عن أنفسهم ويُقيمون حفلات الشواء، في وقت لم يكن السكان الأصليون، المجاورون للقاعدة، يملكون ما يسدون به رمقهم.
لم يكن هناك أي رابط بين القاعدة ومحيطها، فسورها يفصل الذين يعيشون الحياة الأمريكية كما لو أنهم في الولايات المتحدة، عن الذين يعيشون على إيقاع مصاعب حياة القرن التاسع عشر.
تتحدث تقارير أرشيف القاعدة الجوية عن احتياطات اتخذتها إدارة القاعدة، لتجنب تعرضها لأي هجوم أو وقوع أي اكتظاظ عند البوابة الرئيسية، سببه تجمع الأهالي الذين يتضورون جوعا. فاتخذت الإدارة إجراء استباقيا ووزعت الحلويات على الأطفال الذين كانوا يتجولون في محيط القاعدة، ويقضون يومهم في مراقبة تداريب الجنود ودخولهم وخروجهم من القاعدة.
كانت لعبة “البيسبول” غير معروفة نهائيا في المغرب وليس في منطقة الغرب وحدها، وكانت تلك الرياضة الأكثر شعبية في الولايات المتحدة الأمريكية، وخصص لها فريق في قلب القاعدة الأمريكية في سيدي سليمان، حتى أن هذا الفريق ظل يحمل اسم مدينة سيدي سليمان.
وفي شهر رمضان سنة 1945، والذي تزامن مع ّحر غشت القائظ، كان الأهالي يجتمعون في الأمسيات لكي يراقبوا الأمريكيين وهم يمارسون لعبتهم المفضلة في انتظار حلول وقت الإفطار، ولم يكن لدى هؤلاء الأهالي، حرفيا، ما يضعونه فوق موائدهم. وهكذا كانت الاحتفالات التي يقيمها الأمريكيون بعد المباريات، مناسبة لكي يفوزوا ببعض ما يمنحه لهم الجنود من أطعمة، خصوصا المعلبات.
وهنا نورد شهادة جندي سابق في القاعدة الأمريكية في سيدي سليمان، وأحد لاعبي رياضة البيسبول، واسمه “دون باتلر”، تواصلنا معه عبر البريد الإلكتروني بعد أن نشر سنة 2012 بعض الصور التي توثق لمدة إقامته في سيدي سليمان. يقول متحدثا لـ”الأخبار”:
“أذكر أننا عندما ننتهي من اللعبة، في المساء، نلمح عشرات الأطفال الجالسين والواقفين. كانوا يرتدون ملابس بالية وممزقة، بينما أمهاتهم كن يجلسن وحيدات ويتأملن أطفالهن وهم يتسابقون للفوز بالحلوى التي يرميها إليهم بعض زملائنا من السياج.
كنا بالطبع، مُدركين أن سنة 1945 كانت سنة عصيبة جدا وكان الجوع قد أتعب السكان الأصليين. أذكر أن بعض المبادرات، سيما خلال رمضان، عززت الصداقة بيننا وبين سكان القرى المحيطة بالقاعدة. إذ إن بعض الشباب منا كانوا يحملون على أكتافهم أكياسا من الأطعمة المعلبة الزائدة عن حاجتهم، خصوصا عند وصول المؤونة الجديدة بحرا، ويوزعونها على العائلات. وكانت هذه العملية مصدر سعادة للكثيرين منا صراحة.
رمضان في ذلك العام تزامن مع فصل الصيف، وكانت الحرارة شديدة جدا، وغياب الطعام أنهك الأهالي. كنا نسمع قصصا كثيرة عن موت الآلاف متأثرين بالجوع والمرض. لكني في الحقيقة لم أعاين هذا الأمر شخصيا. كنت ألمح الحيوانات الهزيلة في جنبات الطريق، وأرى الناس جالسين في العراء في انتظار من يغيثهم. وبحكم أنه كان يتعين علينا المكوث في القاعدة، فقد كان احتكاكنا مع واقع هذه المجاعة محدودا نوعا ما”.
بعيون ضابط أمريكي.. مراكش مدينة منكوبة تُحيا فيها الحفلات
“لا طير يطير ولا وحش يسير”، هكذا كان حال أغلب القرى المغربية التي رصدتها تقارير الحماية الفرنسية سنة 1945. أغلب النازحين رحلوا من الرحامنة نحو المدن الكبرى، مثل الرباط والدار البيضاء. تتحدث التقارير عن نزوح 20000 شخص من محيط منطقة الرحامنة شمالا، وتوافد 4000 مغربي على الرباط وحدها في فترة قصيرة لم تتعد أربعة أشهر. بينما توافد على فاس 15000 شخص كلهم نزحوا من نواحيها، خصوصا تازة، وصولا إلى منطقة الريف.
هذه الأرقام وثقها مؤرخون مغاربة وفرنسيون اعتمادا على أرشيف الإدارة الفرنسية، الذي اختزل المغاربة وقتها في أرقام رُصد انتقالها فوق النطاق الجغرافي.
لكن عمق الكارثة، كان خارج اهتمامات الإدارة الفرنسية التي كرست المجاعة. فتداعيات الحرب العالمية الثانية كانت تشغل الفرنسيين أكثر مما يشغلهم واقع المغاربة، الذين أدوا من أرواحهم ضريبة مشاركة فرنسا في تلك الحرب.
حدث هذا في وقت كان الأمريكيون يراقبون الأحداث، لكنهم أيضا كانوا مهتمين برصد التحولات التي عرفها المغرب في تلك السنة.
أحد هؤلاء الأمريكيين هو الضابط “ميستر رايت”، وقد سبق له أن زار مراكش في عز عام البون، خلال شهر رمضان بالضبط. فقد كان في زيارة إلى المدينة لكي يحل ضيفا على الباشا التهامي الكلاوي. هذا الأخير، كان يحكم مراكش بقبضة من حديد في عز عام البون وانتشار المجاعة وموت العشرات يوميا، بسبب تداعيات الجوع وانتشار الوباء.
السيد “رايت”، كان ضابطا في الخامسة والأربعين، وكان يشتغل في القاعدة الجوية بالقنيطرة، والتي كانت تسمى وقتها “بور ليوطي” قبل أن تحمل اسمها الذي اختاره لها الملك الراحل محمد الخامس.
وحسب أرشيف دراسة نشرتها جامعة “كولومبيا”، عن انتشار القوات الأمريكية في شمال إفريقيا خلال فترة الحرب العالمية الثانية، أجراه الباحث الأمريكي السيد “ج. دويير”، والذي تطرق إلى زيارة الضابط “رايت” إلى نواحي مراكش، فقد جاء في هذه التقارير التي اعتمد في كتابتها على المعلومات التي أدلى بها هذا الضابط الذي حل ضيفا على الباشا أن مدينة مراكش كانت تعيش على واقع انضباط أمني رهيب، وسمع من مرافقيه ألا أحد كان يجرؤ على الاحتجاج على انتشار الجوع، أو نهب المساعدات التي كانت توزع وفق نظام دقيق على السكان. والفضل في هذا، حسب إفادة الضابط دائما، يرجع إلى صرامة الباشا التهامي الكلاوي الذي لم يكن يتردد في عقاب كل من سولت له نفسه حيازة حصص الطعام وحرمان آخرين منها.
لكن المثير أن هذا الضابط تطرق إلى التناقض الصارخ في الحياة العامة بمراكش. وقال إن زيارته إلى قصر الباشا يوم 3 شتنبر، والتي تزامنت مع الليلة العظيمة التي يقدسها المغاربة – يقصد هنا ليلة السابع والعشرين والتي تزامنت فعلا، حسب التقويم، مع بداية شتنبر- تزامنت مع احتفال أقامه الباشا ودعا إليه مساعديه وأفراد عائلته وأعيان المدينة، وكانت الموائد حافلة بألذ الأطعمة وأفخمها، وكان الحفل كما لو أنه حفل زفاف أسطوري. يواصل التقرير: “في حين أن الأوضاع في البلاد، حسب الجرائد والتقارير التي نطالعها، كانت تؤكد أن مراكش لم تكن استثناء من المجاعة القاسية لسنة 1945”.
رمضان 1945.. العام الذي وُلد فيه “أثرياء” الجوع
كثيرا ما خُصصت تحقيقات صحافية عن قصص الثراء في مختلف مراحل المغرب، خصوصا خلال السنوات التي ضربت فيها الكوارث الطبيعية البلاد. وأشهر نماذج حالات الثراء من هذا النوع، الأثرياء الجدد الذين ظهروا مثلا عقب زلزال أكادير المدمر مباشرة، بعد توزيع المساعدات الإنسانية على المصابين، أو عقب تفقد محتويات المنازل المهدمة تحت الأنقاض.
لكن أزمة عام البون، ظلت خارج دائرة الضوء. والسبب قلة موارد الأرشيف التي من شأنها أن توثق بإحكام لهذه التحولات. لكن التاريخ “الشفهي” والروايات التي تناقلها من عاشوا أزمة عام البون، كلها تؤكد فعلا أن بعض من تاجروا في المساعدات أو أشرفوا على توزيعها، صاروا فعلا من الأثرياء.
سبق في “الأخبار” أن تناولنا موضوع تجار الأزمات، لكن لم نسلط فيه الضوء على قضية أثرياء عام البون.
بعد الحرب العالمية الثانية، اغتنت مجموعات من التجار الصغار المغاربة، بعد احتكاكهم بمحيط القاعدة العسكرية الأمريكية في مدينة القنيطرة.
هؤلاء التجار الذين كانوا إلى حدود سنة 1943 يعتبرون غير مؤثرين نهائيا في اقتصاد الغرب، وجلهم كانوا من صغار التجار الذين تاجروا في المواد الغذائية، أعلنوا إفلاسهم في خضم أزمة “البون”، عندما كانت الأسواق المغربية تعاني من غياب جميع المواد الأساسية.
بعض هؤلاء الذين أعلنوا إفلاسهم في أزمة “عام البون”، تحولوا بقدرة قادر إلى تجار أثرياء بمجرد ما توسعت أنشطة القاعدة الأمريكية. اتُهم بعضهم بالاتجار في السلاح، خصوصا منهم الذين انضموا إلى المقاومة، ووجهت إليهم التهمة رسميا خلال اعتقالات يوليوز 1963، لكن حقيقة مراكمتهم للمال جاءت من خلال الاتجار في البضائع الأمريكية.
هذه التجارة كانت بطبيعة الحال غير قانونية، بحكم أن بعض الضباط الأمريكيين الذين كانوا مكلفين بالمؤونة في القاعدة، ربطوا علاقات مع صغار التجار وكانوا يفوتون لهم كميات من السلع الأمريكية التي تتراوح بين الملابس والمواد الغذائية، بالإضافة إلى بعض الأغراض التي كانت تفيض عن حاجة الجنود وموظفي القاعدة، ويُضارب فيها أولئك التجار.
في غضون سنوات قليلة، ظهرت طبقة جديدة لهؤلاء الأثرياء الذين كانوا يُسمون أثرياء الحرب.
لكن الآن، ظهرت وثائق من أرشيف السفارة الأمريكية في الرباط، والتي جمع موظفها عشرات المراسلات والوثائق، اعتمادا على قاعدة القنيطرة وقاعدة سيدي سليمان، ثم أيضا مقر المفوضية الأمريكية في طنجة، للتوثيق لعام البون.
جاء في هذه التقارير التي يعود أغلبها إلى نهاية الأربعينيات، أن المسؤولين عن القواعد رفضوا تماما الاعتراف بتورط موظفيهم في الاتجار ببعض المساعدات الغذائية التي وزعت في سنة 1945، خصوصا خلال شهر رمضان. والسبب وراء هذا الرفض، الإصرار على عدم تحمل مسؤولية أي تقصير في المسؤوليات الإدارية. سيما مع انتشار أخبار وتقارير فرنسية تتهم القواعد الأمريكية بالتساهل في تسريب السلاح من القواعد الأمريكية، لكي يصل إلى أيدي المغاربة، وينفذوا به “أعمالا إرهابية” استهدفت الفرنسيين في منطقة الغرب والرباط.
لم يستطع الأمريكيون أن ينفوا هذه الاتهامات ولا تقديم ما يؤكد بطلانها. لكنهم في المقابل صمتوا عن الاتجار في المساعدات خلال عام البون، خصوصا خلال مبادرات توزيع بعض الأطعمة خلال شهر رمضان من العام نفسه، على سكان نواحي القاعدتين الأمريكيتين في كل من القنيطرة وسيدي سليمان. أما في مدينة طنجة فقد كان الضرر أكبر، حسب تلك التقارير دائما، حيث إن عام البون أثر على حركة ميناء طنجة وأعلن الكثير من التجار إفلاسهم، بعد توقف دخول السلع إلى المغرب.
شهادة جندي أمريكي سابق عاش “رمضان” عام البون بالرباط
رغم أنها كانت عاصمة للمغرب، إلا أن الرباط لم تكن استثناء من تداعيات عام البون التي ضربت المغرب كاملا.
أحد الضباط الأمريكيين الذين كانوا يعملون في القاعدة الأمريكية خلال فترة 1945، وكان مسؤولا عن تنظيم تداريب الأفواج في الساحة الرئيسية لقاعدة القنيطرة، واسمه “ويليام جودمان”، وقد وردت شهادته في أرشيف موقع يحمل اسم “Our Soldiers”، يتبادل فيه قدماء البحرية والمشاة الأمريكيون ذكرياتهم عن الحرب العالمية الثانية وحرب الفيتنام.. إلخ.
ننقل بعض مما ورد في شهادة هذا الضابط، والتي نشرها في يونيو سنة 2009، ونترجمها هنا إلى اللغة العربية. يقول: “في صيف 1945، لم أفلح في الحصول على عطلة لأذهب إلى الوطن. وبدل أن أقضي وقتي في التحسر وإرسال البطاقات البريدية إلى أمي، قررت أن أتجول في مدينة الرباط. كنا حوالي 13 ضابطا نحاول تزجية الوقت، والتردد على المقاهي والحانات. لكن صدمتنا كانت كبيرة في أول صباح أردنا أن نخصصه لبدء هذه الجولة. فقد عرفنا أن الأمر يتعلق بشهر صيام يمتنع فيه المغاربة عن الأكل خلال النهار، وبالتالي فإن تردد الأجانب على الأماكن العمومية كان يعرف بعض التغيرات، أو الاحترازات حتى أكون دقيقا أكثر.
في المساء، كانت الرباط تعرف بعض التغيرات. إذ إن سكانها الأصليين كانوا يجتمعون قرب بعض البنايات في انتظار أن توزع عليهم الأطعمة، وقد كانت الأزمة تضرب بعمق في قلب المدينة كما عاينتُ بنفسي. إذ إن رغيف الخبز يستحيل أن يوجد في محل البقالة. الجميع كانوا ينتظرون دورهم في الطابور، لكي يحصلوا على حصص غذائية هزيلة جدا.
وأمام هذا الوضع، قررنا نحن الزملاء أن نملأ جيوبنا ببعض الحلويات لكي نوزعها على الأطفال، أثناء جولتنا في شوارع الرباط.
قبل أشهر، خلال فصل الربيع من تلك السنة، – يقصد 1945- تلقينا تعليمات بعدم التجول بشكل منفرد في قلب أحياء الرباط التقليدية، وذلك بعد وقوع مشادة بين جندي أمريكي وشبان مغاربة اتهموه بالتحرش بفتاة مغربية.
توزيعنا للحلويات لم يثر انتباه الأطفال فحسب، بل حتى الشباب، وهو ما جعل الاحتراز الأمني يتبخر، فتوزيع الطعام في تلك الأجواء كان كفيلا بدفن كل الأحقاد.
كان مرورنا في بعض الشوارع يكون احتفاليا، ويرافقنا الأطفال وكنا نتفاجأ لأنهم كانوا يرددون معنا بعض الكلمات الإنجليزية، وكانوا يقلدوننا في مشيتنا.
أتذكر تلك الأيام المجيدة في الرباط بكثير من الحنين، كانت أياما تلخص تجربة شمال إفريقيا التي نفخر أننا كنا جزءا منها”.
وبما أن المنصة التي نشرت فيها هذه الشهادة، توفر خاصية التعليق، فإن أحد القراء رد على هذه الشهادة التي اكتفينا بترجمة جزء منها فقط، بالقول: “إن جدي كان أيضا في القاعدة بالمغرب، بعد الحرب العالمية الثانية، وأدى الخدمة العسكرية هناك وقضى 4 سنوات في شمال إفريقيا، وعاد بكثير من الميداليات. توفي سنة 1974، وكان دائما يخبر والدتي أنه يتعين عليها أن تزور المغرب وترى جمال المنطقة التي كانت توجد بها القاعدة الأمريكية، التي بُنيت بسواعد أمثال جدي الذي أعتبره بطلا قوميا”.