أرسل إلي الأخ القطبي من طنجة رسالة يتحدث فيها عن معضلة النقد الذاتي وصنمية الأشخاص، وهي قضية تحدث عنها المفكر الجزائري مالك بن نبي، بأن مشعر النضج للأمة هو تحررها من صنمية الأشخاص إلى رحابة الأفكار. قال صديقي القطبي: ناقشنا قبل أيام قليلة معضلة انعدام النقد الذاتي لدى العرب والمسلمين، وأشار الدكتور خالص إلى ما له من أهمية في تشخيص مواطن الخلل، وهي أسمى درجات النقد، وفي مرتبة أدنى يأتي نقد الأفكار بالمنطق السليم والحجة الدامغة، مع ضرورة احترام أصحابها… أما أن يصدر طه عبد الرحمان حكم قيمة في حق فيلسوف من قيمة ابن رشد، وينزع عنه صفة الفقيه والفيلسوف معا دون حرج، فهو عمل لا يمت للنقد البناء بصلة. يتابع الأخ القطبي قوله: شخصيا حاولت القراءة لطه عبد الرحمان لسنوات خلت، ووجدت أن كتاباته مغرقة في التعقيد المتعمد والسفسطة التي لا طائل من ورائها، ولم يوفق في ما قام به، وهو في نظري طه ابن بلدي الذي وددت لو لم يتفوه بما تفوه به في حق ابن رشد، الذي اعترف بنبوغه العدو قبل الصديق.
وكان جوابي التالي: هناك من يظن أن الإبهام والتعقيد والحذلقات اللفظية، ستحلق به في عالم الفلسفة والفكر. كل القوة هو في تبسيط أعظم الأفكار في أبسط الكلمات. ما زلت أتذكر نفسي خاشعا، وأنا أقرا فكرة اللانهايتين لباسكال من كتابه «الخواطر»، ونقلها ديورانت في كتابه «قصة الحضارة». وكذلك التهامي بنهم، وتركيز كتاب (الصادق النيهوم) في ليلة واحدة، ومعها طار النوم من عيني وهو يذكرني بإيمانويل كانط، الذي تأخر عن خروجه المعتاد للتنزه اليومي، وكان سكان كونجسبيرج يربطون ساعتهم على نزهة الفيلسوف، وسبب تأخره في ذلك اليوم قوله إن شكوك الفيلسوف هيوم طردت منه الراحة والنوم.
بعدها رجعت واقتنيت كتب النيهوم تقريبا جميعها، وعكفت عليها درسا، وعرفت أنه مبدع في الكتابة، واضح وقوي إلى درجة الإبهار رحمه ربي. حصل معي الشيء نفسه مع الشحرور الشامي، حين وقع كتابه الضخم «القران والكتاب» بين يدي، فقرأته باهتمام في كندا، فهو مقروء واضح وليس مثل صديقنا طه عبد الرحمان، الذي إن قرأت له لم تتابع. وعرفت أن منهج الشحرور هو حاوي سيرك، يخرج من القبعات السوداء أرانب بيضاء. وهكذا كلمة نساء تعني التأجيل، والبنين بنايات.. وعندي واحد مغربي في مونتريال فتن به وتصلب، وهو متوقع مع أزمة الفكر الإسلامي المعاصر. وأذكر أيضا لقاء مع المفكر السوري محمد عنبر وهو أعجب، وكنا في زيارته مع جودت سعيد، فابتدأ في تعريف اللغة وظننت أنه أمسك بالحقيقة لتنتهي بكارثة. فالكلمة جاءت من تقليد الطبيعة على حد قوله، وكل كلمة تدور على مفصل وتولد عكسها مثل جرّ ورجّ. ونشر كتابه بعنوان «جدلية الحرف العربي» فتكلف.. يومها قال لي في دمشق (شوقي خليل)، وهو رجل فكر: نشرنا كتاب الرجل فبعنا ثلاث نسخ.. طبعا هذا الكلام يحمل احتمالين، لأن كتاب (شوبنهاور) عن الحياة إرادة وفكرة (تمثلا) على ما نقل ويل ديورانت أنه أيضا لم يلق الانتشار، ولكن شوبنهاور على علاته دخل محراب الفلسفة. خلاف من يشتد مع صديقنا طه لدليل أو دونه. يبقى فقط أن يعطينا رجل عكف على مؤلفات صديقنا طه، ليعطينا خلاصة من عدة صفحات حتى لا يظلم الرجل وينصف. أنا شخصيا في مكتبتي له ثلاثة كتب، وأهداني الحوارات شاب مغربي من أحفير تأثر بمنظومتي الفكرية، بل كتب ونشر بعضا مما استوعب، وكانت فكرة اللاعنف مانعة صواعق له، ولكنه فتن بحسن نصر الله اللبناني، وأراد صديقي الأحفيري الالتحاق بشيعته وميليشياته ولم يتابع.. هو حاليا يخرج في مظاهرات في باريس يحمل صور غاندي ويلعنه، ويقول عنه إنه صهيوني، وبلغت خصوماته مع البعض حدا خطيرا، مما جعل البوليس الفرنسي يكبس بيته بين الحين والآخر، لشعورهم العميق والحس الاستخباراتي بأنه إرهابي مختبئ في فروة غاندي، مثل البراغيث في جلد الثعلب. حين قرأت كتاب «الحوارات» مع صديقنا طه، تأكدت مخاوفي وعكفت على الكتاب وسلطت النور بقوة وكثافة على منظوره العقلاني، فعرفت أننا أمام نسخة مغربية للفكر القطبي المصري مع لوثة صوفية. طبعا هناك أناس مفتونون به وهذا حقهم، كما تعودنا مع جميع من خالفنا أو وافقنا، فالكل حر في ما يعتقد، ولو كانت عبادة جرذان الهند وقرود الملايو وسناجب كندا ويوكوتان. وباعتباري طبيبا فقد تعلمت فن التشخيص من عينة دم بقارورة صغيرة، أو معرفة سكر الدم بوخزة إبرة، أو درجة الحرارة بلمسة جهاز، أو المكتوب من عنوانه، أو عين خائنة من مريض نفسي، أو المجنون بعبارة وتصرف، كذلك كان الحال مع عينة صديقنا طه. طبعا هناك من يعترض بأنه يجب بذل فترة ستة أشهر على الأقل لمسح تراثه كله. وأنا لي تجربة مع العشرات مثل الجابري المغربي، وإدوارد سعيد الفلسطيني، والبدوي المصري، والوردي العراقي، ومالك بن نبي الجزائري، والبليهي السعودي، والنيهوم الليبي، وجودت سعيد السوري، وروجي غارودي الفرنسي، وأوسفالد شبنغلر الألماني، وتولستوي الروسي، وستيفان تسفايغ النمساوي.. وقراءتهم نزهة وفاكهة.. وجوابي أنني ومن خلال اطلاعاتي الواسعة في عشرات السنوات أصبحت خبير كتب أو هكذا أزعم، وحين يقع بين يدي كتاب وأنصح بهذا من حولي تقليب الكتاب، والنظر في الفهرست والمقدمة وفصول الكتاب، كما حصل معي، قبل ليلتين، وأنا أقلب كتاب «الخلافة والملك» للمودودي، والكتاب قرأته سابقا وأكثر من مرة، وهي عادتي مع عشرات الكتب الجيدة. ومعروف أن أي كاتب أو مقالة يسقط معظم قرائه مع الأسطر الأولى أو الصفحات الأولى، كما حصل معي في كتاب مدرسة المنطق الحيوي التي هي لا مدرسة ولا منطق ولا حيوي. ويلومني البعض أنني «قاسح» (بتعبير المغاربة) مع المعارض والمختلف، ولو كان من مخلفات القرون، مثل من يريد من الطبيب أن يوصي مريض السرطان بحبة أسبرين.
الخلاصة التي ننتهي بها وتمثل تحديا لمن هو حريص على الزاوية الصوفية البوتشيشية وطه عبد الرحمان، أن نقول كما قال ربي: ائتوني بكتاب أو أثارة من علم، وليختصر لنا أفكار الرجل، وما هو الجديد الذي أضافه إلى المعرفة الإنسانية، فإن لم يستجيبوا لكم، فاعلموا أنه بناء ناطحات سحاب في الهواء، أو سباحة في فنجان.
بقلم: خالص جلبي