شكلت ندوة (حفل) تكريم الكاتبة والأديبة وعالمة الاجتماع، عائشة بلعربي، لحظة مميزة من فقرات النسخة التاسعة والعشرين من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، حيث شكل التكريم لحظة اعتراف وتسليط الضوء على مسار بلعربي في دروب السياسة والنضال والبحث العلمي والكتابة الشعرية. فبلعربي، رغم نشأتها في بيئة محافظة، إلا أنها درجت على رفض كل ما يمت للمجتمع الأبوي بصلة قرابة. من بواكير وعيها، وإلى مرتفعات عمرها، حملت على عاتق مسارها الثري، قلما، فكرا وصوتا، مهمة الدخول في مواجهة، لا هدنة فيها، مع ما تعتبرها العقليات المشبعة بالتسلط الذكوري.
في هذا الحوار مع جريدة «الأخبار»، تفتح بلعربي جانبا يسيرا من كتاب حياتها لنقرأ فيه الارتباطات بين الثقافة والسياسة والنضال، ونقف مع بلعربي على خطوط التماس بين هذه المجالات وهي التي رسمت لنفسها منحى تشتبك فيه الخطوط وتتنوع المحطات.
حاورها: النعمان اليعلاوي
- ماذا تمثل لحظة تكريمك ضمن الدورة التاسعة والعشرين من المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط؟
+ بالنسبة لي لحظة تكريمي تعبير عن محبة واعتراف، وقلت محبة بالنظر إلى طبيعة الحضور، الذي تميز بعدد من الأصدقاء ومن أعتبرهم إخوة قدموا لي الكثير في مساري، سواء الأخت رحمة بورقية التي كانت رفيقتي لفترة طولية من الزمن، واشتغلنا سويا في عدة أمور، وأيضا الأستاذة كسوس، التي التقينا سويا في كرسي فاطمة المرنيسي، وكنت تعرفت عليها عبر أخيها الأستاذ محمد كسوس، وأيضا الأستاذ مبارك ربيع، الذي كان المربي الأول وكانت له كتابات غزيرة في مجال التربية، وبالتالي كانت المناسبة فرصة للتعبير عن المحبة لكل هؤلاء.
في تقديري كانت المناسبة، أيضا، لحظة اعتراف، وهو اعتراف بكوني قمت بعدد من الأنشطة وما قد أكون بذلته من مجهود في فترة توصف بالصعبة، لم تكن فيها الطريق مفروشة بالورود دائما، وفي تقديري، أيضا، هي لحظة اعتراف من وزارة الثقافة التي كانت مشرفة على هذا اللقاء، وهو تعبير عن لحظة اعتراف بالمثقف الذي لم يعد ينظر إليه على أنه «مبعد» عن المجتمع، أو أنه خارج اهتمامات مسؤولي الدولة والقطاع، بل بات ذلك الإنسان الذي ينخرط مع المجتمع ويتفاعل مع اهتماماته، وأيضا ذلك الإنسان الذي يساهم في التنمية وتطوير البلاد، والأنشطة الثقافية والعلمية.
- هل ترين في هذا التكريم، أيضا، تكريما لمسارك النضالي؟
+ فعلا هذا التكريم يمثل، بالنسبة لي، أيضا اعترافا بالمسار الصعب الذي اجتزناه في فترات معينة، وفي كلمتها تحدثت الأخت رحمة بورقية عن عديد من المسارات، منها الأدبي والسياسي والنضالي، وكانت الفرصة مناسبة للوقوف على هذه المسارات.
وبالنسبة لي ما راكمته أمر عادي يندرج في إطار سيرورتي الحياتية، وأرى أنني كنت أكلف نفسي لخوض أي تجربة في ظل هذه السيرورات التي ذكرت، وكان هذا شغفي، وأعتقد أنني كنت، فقط، أعيش حياتي العادية.
الأدب ملاذ واستباق للمستقبل والحالات الذهنية التي يتم التعبير عنها، وأكثر ما ميز مسيرتي هو العمل السياسي الذي يتطلب التكوين والاستثمار والجاهزية الدائمة.
- هل هذا البعد النضالي السياسي، الذي تجسد في كتابتك الأدبية من أشعار وغيرها، نابع من واقع كنت تطمحين إلى تغييره أم هو مرتبط بالجانب التكويني والأكاديمي؟
+ إنه أمر مختلط، فممارستي للسياسة نابعة من رغبتي في التغيير والتأثير على المحيط تأثيرا إيجابيا، والهدف من الممارسة السياسية، في تقديري، هو التغيير، حتى بالنسبة لحياتي الشخصية واليومية، حيث إن حياة التكرار لا تلائمني، ولا أستطيع أن أعيش الأمر مرتين، وحتى بالنسبة للبلاد، ما يتوفر لدينا من إمكانيات وما يمكن أن نصله ونحققه يوجب علينا المزيد من الاشتغال والتوجه في سبيل البحث عن التحرر وتكسير جميع العقد التي تحول بيننا وبين النهوض والتحرر. فلا يمكن أن نطلب من إنسان غير متحرر أن يناضل من أجل تحرير الآخرين، على اعتبار أن لغة التحرر هي اللغة الحقة، وفي غياب الرغبة في التحرر سنكون إزاء لغة وكتابات مشبوهة، وهو ما يمكن الحديث عنه بمسمى «لغة الخشب»، حيث نكون إزاء أمور لا نؤمن بها.
- هل يمكن للأدب أن يكون خير حامل للرسالة النضالية؟
+ لا يمكن حصر هذا الدور فقط في الأدب، نعم قد يكون الأدب حاملا للحس النضالي أو رسالة للتغيير، لكن باقي الجوانب كلها لها دورها وأدوارها الخاصة، فأنا مازلت أكتب في السياسة كما أمارسها، وأكتب في المجال السوسيولوجي، الذي له دوره وتأثيره الكبير في التغيير، وكلما وجدت إمكانية للاشتغال في الحقول الثلاثة النضالي، السياسي والسوسيولوجي، لا أتردد في ذلك.
ففي مجال السوسيولوجيا، اشتغلت وناضلت على عدة أمور، منها الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتحرير المرأة، انطلاقا من المفهوم السامي للتحرير وليس ما يتم الترويج له من تبرج وغيره، بل التحرير الذي يتمثل في مجال التعليم والحقوق، وحب الوطن والمساهمة في التنمية.
- ناضلت من أجل تحرير المرأة، في أزمنة متعددة، هل المجتمع المغربي، اليوم، يتفاعل أكثر من ذي قبل مع مطالب تحرير المرأة والمساواة وغيرها من حقوق النساء؟
+ تجب الإشارة في هذا الجانب إلى أن هناك إنجازات كبيرة تحققت على مر السنين، لكن الطريق لا تزال طويلة، وآمل في أن تتمكن جميع النساء من تعزيز مكانتهن على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وأؤكد أنني طوال مسيرتي النضالية من أجل إحقاق حقوق المرأة المغربية، أي منذ سبعينيات القرن الماضي، وحين كنت عضوا في حكومة التناوب بين سنتي 1998 و2002، وسفيرة للمغرب لدى الاتحاد الأوروبي، ثم مفوضة دولية بالمنظمة الدولية للهجرة بين سنتي 2004 و2006، كما في الكتابات أو الندوات التي أشارك فيها، لم يسبق واعترض أحد على دفاعي عن حقوق المرأة، ولم يسبق أن صدمت بحاجز يمنعني من تبليغ رسالتي. يمكن أن أجد بعض التمنع لدى تيارات معينة، لكن، في آخر المطاف، تصل رسالتي إلى المتلقي، وكثيرا ما أجلس مع تيارات ضد المساواة للمرأة وأقنعهم حينا ويقنعونني حينا آخر، لكن كل طرف يحترم مبادئ الآخر.
يمكن القول إن النضال في زمن معين كان أمرا صعبا، وحتى في تلك الفترة كنا نوصل رسائلنا ونكتب أفكارنا، وبالإمكان العودة إلى المقالات التي نشرت حينها في جريدة «المحرر» وفي «libération»، لم يسبق أن تعرضت للمضايقة والتهديد بالاعتقال أو غيرهما من أشكال التضييق.
- ماذا عن وضعية المرأة المغربية اليوم بالمقارنة مع سنوات الثمانينات والتسعينات وقبلها؟
+ لا تمكن المقارنة بين هذه الفترات، فقد تغيرت وضعية المرأة اليوم بشكل إيجابي، وهذا الأمر معروف، إذ إن هناك تغييرا كبيرا تمثل في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في ضمان حقوق المرأة، وإن كنا فعلا لم نبلغ مرحلة مازلنا نصبو إليها، لكن هذا لا ينفي أن ثمة العديد من الأمور التي تحققت ولا يمكن تجاهلها.
- في هذا السياق، ما موقفك من النقاش الدائر حول تعديلات مدونة الأسرة، هل نحن إزاء صراع بين تيارات متناقضة؟
+ لا أعتقد أننا إزاء صراعات بين تيارات متناقضة، بل إن كل جهة تشتغل من أجل تقديم وجهات نظرها ومواقفها، ولا يمكن الحديث عن أن ثمة قطبين مضادين، والمساواة لا تعني التحرير التام، بل حقوق النساء بدون حيف ولا تمييز، في مجالات الشغل والجانب المالي والالتزامات الأسرية، وهناك تيار إسلامي يرفض الحديث عن المساواة بالصيغة التي ينظر إليها التيار المقابل.
وعموما حقوق المرأة والنساء ستتحقق بالوصول إلى التعاون بين الأزواج ومنح المرأة المكانة التي تصبو إليها، تحقيقا للتوازن الأسري بدون تمييز ولا تراتبية.
- ماذا عن تفاعل الأدباء مع القضايا الراهنة للمجتمع؟
+ أعتبر أن الأدباء في تفاعل دائم مع القضايا الراهنة للمجتمع، والأديب والكاتب ليس في برج عاجٍ كما يراد أن يسوق لذلك، بل إن جولة في العناوين المنشورة في المعرض الدولي للنشر والكتاب تظهر أن أغلب الكتب على ارتباط بالواقع اليومي والمعيش للقارئ.
زيادة على كل هذا، الكاتب يكتب للقراء، وبالتالي فهو ملزم بالتفاعل مع انشغالاتهم والقضايا التي تستأثر باهتمامهم، ولا يمكن بأي حال القول بأن الأدباء في واد والقارئ في واد آخر.
مؤطر
تكريم بلعربي في معرض الكتاب
خصص المعرض الدولي للنشر والكتاب، في دورته الـ 29، تكريما خاصا للكاتبة والأكاديمية المرموقة في علم الاجتماع، عائشة بلعربي، التي أثرت كتاباتها المشهد الأدبي المغربي.
وخلال لقاء حول المسار المتميز لبلعربي، أبرز المتدخلون أهمية المواضيع التي تطرحها السيدة بلعربي في أعمالها، سيما تعليم الفتيات، وحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين، والهجرة.
وأبرز المتدخلون أن عائشة بلعربي تعتبر واحدة من الأعلام البارزة في مجال الأدب المغربي، التي اضطلعت بدور هام في النهوض بحقوق المرأة في المملكة، وكذلك في إبراز الكتابة النسائية على المستويين الوطني والدولي. وسجلوا أن بلعربي قدمت، من خلال مختلف المناصب التي شغلتها، كدبلوماسية وأستاذة جامعية، ومتخصصة في علم الاجتماع وكاتبة ومناضلة، مساهمة حقيقية ونفسا جديدا للأدب المغربي، مضيفين أن تأملاتها المعمقة وأفكارها حول القضايا ذات الصلة بوضعية المرأة في المغرب ساهمت بشكل كبير في تحرير الأصوات النسائية.
من جانبها عبرت بلعربي عن سعادتها بهذا التكريم في إطار هذه التظاهرة الأدبية التي تسلط الضوء على أعمال ومساهمات عدد كبير من الكتاب المغاربة، مبرزة الدور الهام الذي يلعبه المعرض الدولي للنشر والكتاب في النهوض بمختلف مجالات الأدب، خاصة في صفوف الشباب المغربي.
عائشة بلعربي في أسطر
ولدت عائشة بلعربي بمدينة سلا عام 1946 ونشأت في عائلة مرتبطة بالحركة الوطنية وفاعلة سياسيا. كان لوالدتها دور كبير في تشكيل وعيها السياسي بحكم أنها كانت من النساء السلاويات المنخرطات في الحركة الوطنية. درست عائشة المرحلة الابتدائية في سلا ثم انتقلت إلى الرباط المجاورة لمتابعة دراستها الثانوية. حصلت على شهادة الباكالوريا سنة 1965 ثم ولجت معهد علم الاجتماع في الرباط، حصلت على دبلوم الدراسات العليا DES في 1977 ثم الدكتوراه في 1987 من جامعة السوربون الباريسية. بين 1976 و1998 اشتغلت أستاذة باحثة في كلية علوم التربية بالرباط.
عائشة بلعربي من مواليد 1946 بسلا، وهي عالمة اجتماع وناشطة في مجال حقوق المرأة وسياسية ودبلوماسية. كانت عضوا في حكومة التناوب بين 1998 و2002 مكلفة بحقيبة التعاون الدولي، وشغلت أيضا منصب سفيرة للمغرب لدى الاتحاد الأوروبي في الفترة من 2000 إلى 2004
في 1958، وبعد الانشقاق الذي حدث في حزب الاستقلال والذي أدى إلى تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، انضمت عائلة بلعربي بالكامل إلى الحزب اليساري الجديد. وفي 1965 انخرطت عائشة في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وكانت من أولى النساء اللواتي تقلدن عضوية اللجنة الإدارية للحزب سنة 1978 ثم بلغت عضوية المكتب السياسي للحزب سنة 2001.