شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفن

عائشة بلحاج للأخبار: الكتابة عندي مدفوعة بالحياة

الشاعرة والإعلامية عائشة بلحاج بعد مسيرة شعرية تبتدئ بعملها الشعري “ريح تسرق ظلي” و”قبلة الماء” و”لا أعرف هذه المرأة” تخوض غمار الكتابة في مجال أدب الرحلة بكتابها “على جناح دراجة من طنجة إلى باريس” الحائز على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، في هذا الحوار نتطرق للبدايات وثنائية المرأة والذاكرة، الذات وسيرتها، جدوى الشعر في زمن غير شعري…

مقالات ذات صلة

 

في أحد قصائدك: (كأن القصيدة/ نبتت/ في قلبي/ فجأة/ كفكرة سوريالية). تُرى كيف كانت البدايات الشعرية وعلى أي تأثيرات تأسست؟

قد أجيبك بشكل آلي، عن الكتابة التي وجدت طريقها إلي مبكراً، مع اكتشاف اللذة العظيمة للقراءة التي جعلتني أُسحر بالكتابة، كقوة خارقة قادرة على إعادة تشكيل العالم. لكنني أفضل دوماً الحديث عن عناء البدايات، وغياب التشجيع، وتحدي الكتابة الحرة في مجتمع محافظ، ومغامرة إزالةِ القشرة الرقيقة بيني وبين الواقع، من أجل تحرير اللاوعي، لأكتب بلا صمام أمان. وهي مغامرة خطرة-يعرفها من جربها-تهدد بانجرافُ المشاعر في أي لحظة، تحت جسر الحساسية المفرطة، لأنها مركز ما نسميه بالموهبة في الكتابة. هذا يعني أن الكاتب يصبح معرضاً لاهتزاز الأمن النفسي، بلا واقي صدمات.

بالنسبة للتأثير، عندما دخلت مدرسة الشعر، قرأتُ الكثير، لكن ذاكرتي ضعيفة، ولا أحفظ أي شيء على الإطلاق، بل إنني لا أذكر جملة شعرية واحدة قرأتها. لذا أجد أن الكتابة عندي مدفوعة بالحياة، أكثر مما هي قائمة على خلفية شعرية معينة. لكن هذا لا يعني أن نصوصي خالصة كلياً، من تأثيرات خفية تسربت من كل منابع الشعر، التي شربت منها. لكني لا أزال أدخل منزل الشعر من بابين، أولاً من باب القراءة المفتوح للجميع، وثانياً من باب أخرى حفرتها لنفسي، عبر الكتابة.

 

في ديوان “ريح تسرق ظلي” و كذلك “قبلة الماء” ثمة ظلال للموت حاضرة، هل تدخل القصيدة في عملية تحييد على طريقة الشاعر الفرنسي روني شار (ليس الموت سابقا ولا لاحقا، إنه إلى جانبنا حاذق وتافه) أو محاورة وجودية لمظاهر الحياة والموت، البداية والنهاية؟

المصالحة مع الموت أكبر تحدي للإنسان، وبالنسبة لشخصيات هشة وبالغة الحساسية، مثل الكُتاب، فإن التفكير في الموت، وبصدق، وارد في كل لحظة، مرفوقاً بالسؤال المحرج عما إذا كان هو الخلاص من عبث وقسوة الحياة. كل يوم يفيق الكاتب ويسأل نفسه: هل تستحق حياته العناء؟ لأن العيش أسوأ كابوس للإنسان الحقيقي والواعي، الذي يسعى إلى الحياة لا إلى العيش. والحياد غير متاح في الشعر، فهذا الأخير مستبد في استنزاف حدود صاحبه، وإجباره على اتخاذ موقف.

 

تنتصر قصيدتك للمرأة وللذاكرة، هما معا المنبع والمصب، وفيهما يسير نهر القصيدة مرة هادئا ومرات كثيرة هادرا. كيف تستعين قصيدتك بهذين المعينين؟

أكتب انطلاقاً من حياتي كما يفعل الجميع، أو كما يُفترض بهم. ولا أنوي أن أخون جنسي، بأن أُجرد نصوصي من كينونتي الأنثوية. وحين نعيش في مجتمع مثل مجتمعنا، تصبح الأنوثة العنصر الأساسي في هويتنا، رغم عنا. لأنه يرانا نساء أولاً، والباقي تفاصيل. وحين نكتب علينا مقاومة هذا التصور، بأن نفتح باب الكلام عما نشعر، في هذه “الزنزانة الجنسية” التي وُضعنا فيها، ونقاوم بأشكال مختلفة. فالكتابة حرية أولاً، وتمرد ثانياً، وجموح ثالثاً. وهنا تحضر الذاكرة، لتكون شاهدة على تاريخ طويل من العبث، الذي تمارسه العقلية الأبوية تجاه إنسان لا يملك سوى إنسانيته، لكنها تجرده منها، حين تصنفه وفق جنسه.

الذاكرة هي أقوى شاهد على التاريخ، وذاكرة المرأة أقوى من كل ملكاتها الأخرى. كما أن ظلال الماضي تبقى عالقة إلى الأبد في ذهننا، وأحياناً نتوارثها. فأجد أنني أحياناً أُشكل جزءا من ذاكرة أمي، وجدتي، ونساء أخريات أصبحن بدورهن جزءاً من ذاكرتي. فبشكلٍ ما ذاكرتنا جماعية، طالما أنه لم تحدثُ قطيعة مع الماضي. أستعمل هنا مصطلحات الانتقال الديموقراطي، مثل “الإنصاف والحقيقة” و”حفظ الذاكرة”، لأننا نحتاج انتقالاً ديموقراطياً خاصاً بالنساء، من مجتمع ذكوري قد يتشح بمظاهر الحداثة أحياناً، إلى مجتمع المساواة والكرامة والحرية. وحينها قد نتصالح مع المجتمع، لكننا لن ننسى انتهاكاته وضحاياه.

من جهة أخرى، في الفن، اخترت التجريد المتخفف من الأنوثة والذكورة، والجسد والفكر والأشكال. اخترتُ خلق فوضى قد لا تقل جمالاً ومعنى عن المنحوتات الدقيقة، والصور الفوتوغرافية، إذا وقعنا على التركيبة الملائمة لفوضانا. لذا أحب العمل مباشرة على اللوحة، حتى تقودني بالتدريج، وعبر طبقات متعددة، إلى حالة تشعرني بالرضا. لا أستعين بالتخطيط المسبق، بل أواجه بتهور اللوحة البيضاء التي هي مثل الصفحة البيضاء، لا يمكن التكهن بما سيحدث عليها.

 

الذات وسيرتها، والانتماء الصريح لقصيدة نثر شفافة محورها الذات في حوارها الدائم مع العالم والوجود، ارتبط خصوصا بجيل جديد من الشاعرات والشعراء كيف أتى هذا الاختيار؟

الذات في هذا السياق هي مرادف الإنسان. وهل للشعر هم آخر غيره؟ معظم الشعر العربي القديم رغم “حكمته” وقيمته الأدبية، ضئيل إنسانياً، لذا لم يُقبل عليه المترجمون، فماذا يبقى بعد محو اللغة، وتلاشي الحكمة في الترجمة؟ أحب شعر جميل بثينة مثلاً، لأنه إنساني ورقيق وخالد. وهناك أبيات بعينها من جل الشعر العربي، قد تشكل ديواناً يلخص كامل هذا الشعر إنسانياً، ويصلح دليلاً شعرياً معاصراً قابل للترجمة والتداول على نطاق واسع.

لا يمكنني تخيل الشعر خارج الإنسان، وحين نكتب الذات فنحن نكتب الآخر أيضاً، كذات. لذا يُقرأ الشعر من دون بقية الأدب، كسيرة ذاتية، يجد فيها كل إنسان شيئاً حميمياً وخاصاً منه. ويسعدني حين يشير شخص إلى جملة ما في كتابي، تمسه بعمق. وقد تكون من قصيدة لم تلفت اهتمام الكثيرين، وليست الأكثر تعبيراً عني. هذه قوة الشعر وخصوصيته، أنه يصبح ملك القارئ/الإنسان.

 

القصيدة أحيانا تكون مقيمة بين الإدانة والاستنكار لكنها ترفع حدة السؤال ولو بشكل مهموس كما في قولك: “ما نفعُ الكلماتِ للطيور/ ما نفعُ سنوات أرضعتني فيها الحياة/ حليبها المر/ كريحٍ تنقلُ أشلاء الشجر؟ / ثمة طرقٌ كثيرة نحكي بها/ كيف وُلدنا في أمكنةٍ/ لا تحب النساء”. في رأيك، هل هناك من جدوى أو أمل في زمن يبدو أنه غير شعري؟

حتى لو أجهدنا في نبش التاريخ، لن نجد زمناً شعرياً. فحتى زمن الأندلس الفردوس الجميل والشاعري، لا يمكن وصفه بذلك، لأنه لم ينتج لنا شعراً حقيقيا يبقى. إذ لا علاقة للشعر بالزمن. وإذا انتظر الشعراء الزمن الشعري، لن يكتبوا شيئاً. فحتى الشعر الذي نعتبره الآن منارات شعرية، كتبه أصحابه في ظروف غير شعرية، بل هذه الظروف، للسخرية، هي المنبع الأساسي للشعر في العالم. مثل بودلير، ريلكه، رامبو، فيسوافا شمبوريسكا، غابرييلا ميتسيكا، إيملي ديكسنون، وآخرون.

سؤال الجدوى ملغوم، يحاول خلق المزيد من العبث في عقل الشاعر، الذي يقاوم كل يوم شعوراً عارماً بعبثية الكتابة لمن لا يقرأ. والشك المزمن في أن ما يكتبه شعراً، ويُتمِه وتهميشه، مع رفض الناشرين نشر الكتب الشعرية. لكنني لا أظن أنني سأتحمل العيش لولا الشعر، فما من جدوى حقيقية للحياة، إذا خلت من وجود يتجاوز الهموم اليومية القاتلة. لذا أفضل عكس السؤال: ما جدوى الحياة بلا شعر؟

 

نعلم أن عائشة بلحاج ذات تكوين أكاديمي (دكتوراه في العلوم السياسية) وإعلامية متميزة بمقالاتها الرصينة، يواكب ذلك مسار شعري ناجح، حدثينا عن العلاقة بين هذه المسارات المختلفة؟

أولا، أشكرك لأنك تعتبر مساري الشعري ناجحاً. ثانيا، أحتار دوماً أمام هذا السؤال، إذ لا أجد هناك رابطاً بين عمل المرء ودخوله الأدب، لأننا نسير على طرق حياتنا، لأسباب عملية، تكون غالباً خارجة عن إراداتنا، لكننا نختار الكتابة عن اقتناع. كان يمكن أن أكون طبيبة، أو عالمة فلك، كما حلمت. وكان يمكن أن أدرس الأدب أو الرياضيات، ولن يكون هناك فرق. لأنني سأكون الشخص نفسه، الذي سيختار الشعر كل مرة.

وعند اختياري العمل الصحفي، من بين خيارات محدودة، لقربه من ميولي، لم يمس نطاق الكتابة الأدبية عندي، ولم يستنزفها كما يقولون، كما لم يغنيها. بينما ظلل الشعر، في المجمل، حياتي أكثر من أي شيء آخر، وهو الثابت، بينما الباقي متغيرات قابلة للاستغناء.

 

في كتابك الأخير “على جناح دراجة من طنجة إلى باريس” الحائز على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، الذي يدخل ضمن صنف كتب الرحلات، لكنه يتميز بكونه رحلة ثقافية إلى مدينة باريس. ما يشد القارئ هذه الجمل: “ما تفعله باريس بالمرأة شيء لا يُصدق” أو “وأنا في أزقة باريس وشوارعها، مثل حورية تكتشف البر لأول مرة”. نريد أن نتعرف على باريس عائشة بلحاج.

كل شخص له مدينة في خياله، مدن كطنجة أو باريس بالنسبة لي، هي مدن خاصة ومتحولة. وأجد فكرة أن المرء قد يقرأ عن مدينة، بحيث لا يحتاج إلى المزيد، مضحكة. كأن هناك نسخا محدودة لكل شيء. ما أحبه في باريس هو أنها تشبه الجزيرة التي يصنعها كل منا لنفسه، لينجو من الحياة ومن التنميط، ومن الغرق في محيطه الذي لم يختره. البعض لامني لأنني لم أكتب عن هموم الناس العاديين، وعن الأزقة الخلفية. كأن لا باريسَ من دونهما، وكأنهما يجب أن يدخلا جميع الكتب إجباراً. ما يهمني هو ما أعيش من أجله، وهو الأدب والفنون والجمال والحرية، وتاريخ الإنسان كصانع معجزات، لا كمدمر، ولا ككائن يتسلل في الأزقة الخلفية لينسى الحياة، أو كمخلوق يشقى طوال النهار ليجد سقفاً وطعاماً، فنحن نفعل ذلك أيضاً، كل يوم في حياتنا اليومية.

أحب في باريس المتاحف التي تضمها، وكونها في حد ذاتها متحفاً ببناياتها وهندستها، واحتفائها بالفن، وهذا أمر هجرَتهُ مدننا. أحب مكتباتها الكثيرة، ومتاجر أدوات الرسم، وهي المحلات التي تضم الممتلكات الأغلى والأعز مما أود أن أمتلك. أحب الحرية والكرامة التي تمشي في ظلهما المرأة في الشوارع. أحب التعدد في الجنسيات والثقافات…

هذا كله، لا يعني أنه لا توجد فيها أشياء لا أحبها، لكنني فضلت أن أكتب عما أحببته، لا عما نفرتُ منه. لأن السفر درجات ومنازل، يمكن طرق منزل أو الكتابة عن غيره، حسب مزاج المسافر. فالروح هي من يرى ومن يسافر، ومهما تشابهت الأرواح، فإنها تحتفظ بقدر من الفرادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى