عائشة القندوسي.. ضابطة إيقاع حياة الحسين التولالي
رأى الحسين التولالي النور سنة 1924 في قرية تولال التابعة ترابيا لإقليم مكناس، في زمن كانت القوة الاستعمارية تبسط نفوذها على البلاد. كان والده قد حط الرحال في هذه القرية الصغيرة هروبا من جفاف منطقة تافيلالت، وسعى إلى الاشتغال عند ملاك الأراضي الزراعية أملا في توفير الحد الأدنى من العيش الكريم لأبنائه.
لم ينل الحسين نصيبا من التعليم لأنه عاش في كنف أسرة فقيرة تقوم على تدبير حاجاتها من الفلاحة المعيشية، والاعتماد في مداخيلها على خدمة الطبقة الميسورة، خاصة الأجانب الذين استوطنوا منطقة تولال بكثافة. ولأن مدينة مكناس لا تبعد كثيرا عن تولال، مسقط الرأس والقلب، فقد ظل الفتى الحسين يقضي أسعد أوقاته وهو يتجول في المدينة التي طغى عليها الطابع الأوربي، بعد أن كانت مدينة تاريخية تحتضن مآثر المولى إسماعيل الذي جعل منها عاصمة للبلاد.
في مقاهي مكناس، سنوات الأربعينات، كان الفرنسيون ينجذبون أكثر للأغاني الكلاسيكية، ولم تكن للملحون جاذبية، لكن تباشير عشق الحسين لهذا الفن الأصيل انطلقت من إحدى المقاهي العتيقة التي أصبح يتردد عليها في مكناس المشهورة والمعروفة بأداء الملحون، خاصة في شهر رمضان المبارك.
لمس الشيخ الخياطي مدى انبهار الفتى التولالي بهذا النوع من الغناء، ودعاه لحضور جلسات طرب في المقاهي المكناسية. وكان يسمح له، بين الفينة والأخرى، بالانضمام إلى فريق الكورال ومداعبة آلة العود، في زمن كان الطرب الشرقي يحقق أعلى نسبة استماع. فحفظ عنه القصائد عن طريق الرواية الشفهية وكانت أول قصيدة يحفظها الحسين قصيدة «زاوكنا فحماك» للشاعر عبد الهادي بناني، المعروفة بـ«الحجة».
لاحظ والد التولالي خروج الابن عن السطر التقليدي المرسوم له، ورفضه الاشتغال بالزراعة والرعي، وإصراره على نظم قوافي الشعر شفويا، بالإصرار نفسه الذي رفض خلاله ولوج المدرسة، ما جعل بعض سكان تولال يشجعونه على ركوب موجة الفن، ولا يترددون في دعوته لإحياء بعض الحفلات الدينية وكذا المناسبات الوطنية، ولو بعيدا عن عيون المخبرين.
قرر الوالد البحث عن زوجة لابنه قبل أن تجرفه مقاهي مكناس، بعد أن أشعره الجيران بوجود الحسين على مرمى حجر من عالم الطرب الذي كان يتعارض مع طبيعة عائلة محافظة تعيش على الكفاف والعفاف. وكانت عائشة القندوسي هي التي وقع عليها الاختيار لتساهم في عملية انتشال الشاب الحسين من مقاهي مكناس، أو هكذا كان يبدو للأسرة التي لطالما حذرت ابنها من مغبة الارتماء في أحضان الطرب.
شاءت الصدف أن يتغير مسار الحسين بعد زواجه، فمباشرة بعد استقلال المغرب تكونت جمعيات تعنى بالتراث الأصيل، وفي مقدمته الملحون بإيعاز حينها من وزير التعليم عبد الكريم الكداشي في أول حكومة مغربية مستقلة. وكان الحسين بصوته العذب من مرشحي الإذاعة الوطنية لتسجيل قصائد الملحون، فدخل عالم طرب الملحون وربط اسمه بهذا النوع من الغناء الذي يمتزج فيه الفني بالروحاني.
ولأن الحسين كان يركز على القصائد الدينية والصوفية، فإن زوجته شجعته على الاستمرار في هذا النهج، واعتبرت أول مستمعة لقصائده قبل أن يتعرف عليها الجمهور، بل إن ملاحظاتها كانت تجد لديه مساحة من التفهم، سيما حين يتعلق الأمر بمقاطع غزلية تحتاج لشيء من التقليم.
لكن زوجة الحسين تختلف عن كثير من زوجات الفنانين، ونادرا ما ترافقه في أسفاره الخارجية والداخلية، بل إنها لم تتردد على المعهد البلدي للموسيقى في مكناس الذي كان زوجها مدرسا فيه لفن الملحون، وقيل إنه من النادر أن تحضر سهراته حتى في مدينة مكناس.
لعبت عائشة دورا كبيرا في تتبع المسار الفني لزوجها، وكانت تمده برأيها حين يتعلق الأمر بصنعة الغناء انطلاقا من التسجيل على الأسطوانات، ثم الشرائط الإذاعية وصولا إلى الكاسيط، قبل أن تعايش معه النقلة المتمثلة في البث التلفزي الملون بدلا عن الأسود والأبيض، ثم مرحلة الشريط المدمج وبعده «الفيديو كليب».
أصبحت عائشة زوجة نجم، ورافقته في رحلته إلى الديار المقدسة، وساعدته بالاهتمام الكلي بشؤون البيت، بينما انشغل التولالي بـ«هاجس تطوير وتحديث الأداء إنشادا وعزفا، ومن ثم انخرط لهذه الغاية في العمل الجمعوي بمفهومه الواسع لتحقيق الاتصال بالأجيال الناشئة من طلبة المعاهد والكليات والأندية الثقافية»، كما يقول رفيق دربه الباحث محمد صقلي في كتابه «الأغنية المغربية أسئلتها وإشكالاتها».
ورغم أن البعض عاتب الحسين على بعض أغانيه التي تندرج في سياق المديح التكسبي، فإن زوجته ظلت ترفض هذا العتاب، معتبرة قصيدة «لالة غيثة» التي كتب أبياتها الشاعر الشيخ إدريس بن علي، مجرد قصة مشابهة لعلاقة زنيبر بزوجته غيثة، دون أن تستوحي القصيدة أبياتها من العلاقة الرومانسية التي جمعت إبراهيم بغيثة، رغم أن الحسين التولالي غناها في أكثر من مناسبة بحضور إبراهيم وزوجته، واعتبر مطلعها «قولو للالة غيثة آمولاتي.. جود بوصالك على العشيق»، إهداء للزوجين اللذين يعتبران هذه الأغنية «ماركة» مسجلة باسمهما. لكن زوجة التولالي حظيت بنصيب من غنائه حين أنشد لها أغنية «خلخال عويشة» الأشبه بالإهداء، قبل أن يوارى جثمانه الثرى في 7 دجنبر 1998 بمكناس، عن عمر يناهز 74 سنة، تاركا وراءه إرثا فنيا كبيرا تم جمعه من طرف وزارة الثقافة في حلة أنيقة. وبعد مرور 16 سنة على وفاته، جرى تكريم زوجته بأثر رجعي في مهرجان عيساوة بمكناس.