شوف تشوف

الرأيالرئيسية

ظاهرة الحرب ومعهد بوتول

بقلم: خالص جلبي

 

وقف العالم الفرنسي «غاستون بوتول» أمام هذه الظاهرة متأملا، وكان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، وهو يتعجب من عدم وجود معاهد علمية تدرس مثل هذه الظاهرة المخيفة، التي تفترس الجنس البشري وتهدد وجوده (لِمَ تأخر الباحثون هذا التأخر الكثير عن تأسيس علم اجتماعي حقيقي للحروب (POLEMOLOGIE)؟ ولم َ لم ْ تبعث أهم ظاهرة اجتماعية أي باحث على دراسة خصائصها وجوانبها الوظيفية دراسة موضوعية؟).

من الغريب أن الأمراض العضوية البدنية أُسس لها من المخابر والمصحات والمستشفيات ما لا يحدها عدد، في حين أن هذه الظاهرة الاجتماعية المرعبة ليس لها معهد يدرس بنيتها، ويتقصى أسبابها، ويعرف وظيفتها، ويصل بالتالي إلى إيجاد مصل واق لهذا المرض المعضل والمعند. (إننا نرى منذ نصف قرن شيوع المخابر المخصصة لدراسة السرطان أو السل أو الطاعون أو الحمى الصفراء، وهي تزداد كل يوم، فلمَ لمْ تبعثْ على إيجاد أي معهد للأبحاث، تلك الحرب التي تذهب وحدها بضحايا أكثر من كل هذه المصائب مجتمعة).

يبدو أن اللامبالاة تجاه هذه الظاهرة سببها روح (الاعتياد) وليس (الدهشة) التي تبعث على الفضول والاكتشاف، فليس منا إلا وشارك أو سمع أو عانى من الحرب بقليل أو كثير؟

في عام 1971 م استطاع «غاستون بوتول» تأسيس «المعهد الفرنسي لعلم الحرب»، حيث تمت دراسة ظاهرة الحرب في أكثر من قرنين من الزمان القريب منا بين عامي (1740 – 1974) للميلاد، ووضع لها مواصفات حتى تعتبر حربا؛ فمناوشات الحدود ومقتل العشرات لا تعتبر حربا!

وهكذا تم وضع ستة شروط حتى تندرج تحت مفهوم الحرب، من مثل (أكثر من ألف قتيل، واشتراك أكثر من دولة، واستمرار أكثر من عام!)، فوجد أنه قد وقع في الفترة المذكورة 366 نزاعا مسلحا، بحيث لم تمر إلا أعوام نادرة لم يحصل فيها نزاع مسلح. وقد كلفت هذه النزاعات المريعة 85 مليون قتيل، منهم فقط 38 مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية وحدها! فأي جنون هذا، وأي عبث هذا؟

في الحرب يموت الشباب والذكور بوجه خاص، فالحرب عموما ذكورية. وبذا تندثر الطاقة الإنتاجية، ويتدمر النسيج الاجتماعي، وتذوي الأمة وتهبط طاقتها، بل وقد تؤول إلى الفناء بشكل أو آخر، فدولة مثل «الباراغواي» لم تستفق من دمار حرب سبعينيات القرن التاسع عشر حتى الآن، (تم اجتياحها من ثلاث دول متجاورة، البرازيل من الشمال، والأرجنتين من الأسفل، ومن الخاصرة الباراغواي). وألمانيا احتاجت إلى قرن كي تسترد عافيتها، واضطرت الكنيسة في كلا البلدين (المسيحيين واللذين تحرم فيهما الكنيسة تعدد الزوجات) إلى إصدار مشروع في إباحة تعدد الزوجات، لتعويض الذكور الذين هلكوا في الحرب. وخسرت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية 6.5 ملايين قتيل، وكان الخاسر الأكبر في ضحايا الحرب الأخيرة «الاتحاد السوفياتي»، حيث سقط 22 مليون قتيل على أقل التقديرات، أما في يوغسلافيا فقد سقط واحد من كل عشرة من السكان إلى القبر. فأي دمار وبؤس هذا؟

في عالم الحشرات والحيوان لم يعثر على ظاهرة الحرب، أي حشد كمية كبيرة من عناصر جنس معين، ضد عناصر أخرى من النوع نفسه، يفتك كل فريق بالآخر، بأوامر (من فوق) ما يسمى «سلسلة الأوامر CHAIN OF COMMAND»، وبأدوات تدمير رهيبة، ثم ترك الجثث بدون افتراسها! باستثناء بعض طوائف النمل وبشكل محدود، ومن أجل سرقة الغذاء والمؤونة، كما لم يعهد بشكل عام في عالم الحشرات والحيوان أن العنصر يقتل الآخر لمجرد القتل. قد تفترس سمكة أخرى للتغذية، وتطارد اللبؤة الفريسة لتأمين وجبة لعائلة الأسد، أما القتل (للقتل) فلم يعرفه سوى هذا الكائن المرعب المسمى الإنسان!

إن ما تسمى شريعة الغاب تقوم على اعتداء عنصر على آخر،  من أجل أكل لحمه، فالدافع هو الجوع، والهدف هو الغذاء للمحافظة على النوع، وليس لمجرد القتل، والموجود في الفصيل الإنساني.

وتابع الإنسان تفننه في القتل، فوصل إلى المقابر الجماعية كما كشف عام 1983 في إسبانيا عن تلك المقبرة المخبأة تحت الأرض التي ضمت الآلاف، وغرف الإعدام بالغاز، وأفران محارق الجثث بالجملة، وتبخر الإنسان بالحرارة النووية التي بلغت 100 مليون درجة مئوية!  

يبدو أن الذكور لعبوا الدور المركزي في تصنيع الحروب، وخلق مؤسستها (الجيوش) وممارستها (ساحات المعارك)، فالجيوش في العالم ذات طابع ذكوري، وهكذا فالمرأة لاعتبارات لا نفهمها على وجه الدقة هي التي بدأت بالزراعة وتوليد الحضارة، والمرأة هي التي تحمل الحياة، وتنجب الحياة، وتحافظ على الحياة، ولا تشترك في الإبادة، بل بالتعويض عن كوارث الحروب، وهي بذلك نموذج مُعدَّل عن الذكر متكيف بشكل أفضل مع الحياة في هذا الجانب؛ فالذكور هم الذين سيطروا على قيادة المجتمع، ويبدو أن التركيب العضلي وهورمون الذكورة (التستوستيرون Testosterone) كان له دور التفوق في المراحل الأولى لنشأة الحضارة، ونزلت المرأة لتكون من الطبقة (المستضعفة)، وبذا زرع الذكور (بذرة) الحرب ليحصدوا نتيجتها المُرة في ساحات القتال، وليعانوا من أهوالها المرعبة، وما زال مرض (التيتانوس = الكزاز= TETANOUS) في الذاكرة الإنسانية، من تلوث الجروح وموت المقاتلين المجروحين شر ميتة.

 

نافذة:

في عام 1971 م استطاع «غاستون بوتول» تأسيس «المعهد الفرنسي لعلم الحرب» حيث تمت دراسة ظاهرة الحرب في أكثر من قرنين من الزمان القريب منا

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى