خالد فتحي
في ما يشبه تخليدا لليوبيل الفضي لحرب أكتوبر 73، نفذت حماس أكبر عملية خداع استراتيجي، حين تكامنت لمدة طويلة، ثم فجأة انبعثت طوفانا جارفا سحب من إسرائيل امتياز المباغتة، وانتزع منها، وفي صدمة غير مسبوقة لتل أبيب، احتكار تحديد زمان ومكان المعركة. لقد بدت إسرائيل أمام كل الأنظار منهكة مرتبكة، بل لعلها فقدت للأبد صورة القوة والجبروت التي كانت توهم بها العالم عن نفسها.
لا مجال بطبيعة الحال للموازنة بين إسرائيل وحماس عسكريا ولوجيستكيا وتكنولوجيا، ولكن الحرب خدعة أيضا، وهي حين تكون ذات عمق حضاري لا تقاس بالأسلحة فقط. فالفلسطينيون لا يحاربون بالعتاد، وإنما يقاتلون عن عقيدة وقناعة بأنهم على الحق.
ثبت الآن أن إسرائيل قد لا تقوى أبدا على حرب غير نظامية، بل إن مفاهيم المواجهة وقواعد الاشتباك تبدلت جذريا مع هذا القيام الفلسطيني..
لم يعد مجديا لإسرائيل أن تطور أسلحتها ضد شعب فرض عليها أسلوبه في القتال، فما سيسعفها فعلا هو أن تطور فهمها وتتحول في فكرها وإيديولوجيتها وتقطع مع دوغمائيتها وأصوليتها.
إسرائيل في مأزق حقيقي، ومصيبتها أنه يحدث لها هذا الانكسار في لحظة عصيبة من تاريخها تعرف فيها انقساما داخليا حادا يهددها وجوديا.
إسرائيل انهزمت أو في طريقها لأن تنهزم نفسيا، تلكؤها في إيجاد حل لفلسطين جعل سرديتها تتحطم. وها هي الآن أمام حقائق جديدة، ولا مناص لها من إنهاء الاحتلال، إذ يتعين عليها أن تفهم، وبسرعة أنه لا يوجد سلام مقابل لا شيء. وعليها باختصار أن تعترف بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته وعاصمتها القدس.
إن الحرب الحقيقية التي ستواجهها إسرائيل ستبدأ بعد أن تضع عملية طوفان الأقصى أوزارها، وستدور بداخلها، حين ستصبح وجها لوجه مع الأسئلة الحارقة والوجودية لمواطنيها الذين فقدوا شعورهم بالأمان. ومن المرجح أنهم أن الكثيرين منهم سيسارعون للهجرة من جديد، ليبحثوا عن مناطق أخرى في العالم تمنحهم الاستقرار، ومن المؤكد أن الباقين منهم سيطرحون بدورهم على كيانهم السؤال الآتي: إلى أين نحن سائرون؟ وقد يجبرونه على أن يرى أمن إسرائيل من خلال إنصاف الفلسطينيين، فركود الملف الفلسطيني ليس أبدا في مصلحة بقاء إسرائيل.
تأثير هذه الحرب سيفعل فعله على المدى الطويل، وسيجعل إسرائيل إذا لم تمارس نقدا ذاتيا لمسارها منذ 48 وحتى قبل 48، تتآكل حتما من الداخل، وتتنازع أمرها في ما بينها.
سيكون هناك بالتأكيد ما بعد 7 أكتوبر 2023؛ اجتياح لغزة طلبا للثأر، رغبة في استئصال حماس، اشتعال جبهات أخرى.. أو نزوع إلى الصواب وإقرار لحل الدولتين..
ومن المحتمل أن الفلسطينيين صاروا في موقع قوة، فطوفان الأقصى زودهم بأوراق جديدة، في سياق يرونه واعدا لتحرير الأسرى وإجبار إسرائيل على التفاوض الجدي من أجل السلام. ومن المحتمل أيضا أن تشتغل آلة الإعلام الغربية الرهيبة وتحمل فلسطين جريرة البدء بالعنف أو بالحرب، وقد بدأنا نرى مقارنات يقيمها هذا الإعلام بين 7 أكتوبر و11 شتنبر. وهنا سيكون لورقة الأسرى دور كبير في تطور الأمور.
ومع ذلك، فهذه الحرب قد تؤدي إلى انخراط عربي وإسلامي متكامل ومختلف بشأن فلسطين. ولربما سترسم واقعا جيواستراتيجيا جديدا بالشرق الأوسط وفي العالم الذي قد ينتبه أخيرا إلى أن لا أحد يستبسل ويضحي ويستشهد بهذا الشكل، إلا إذا كان صاحب قضية عادلة.