بقلم: خالص جلبي
نشأت في الغرب مؤسسات لا عنفية عريقة. وحاليا هناك من يضع قواميس كاملة لهذا الحقل المعرفي، بعدما نما كاتجاه و«كوكب» كامل بإحداثيات مغايرة. فالفرق بين اللاعنف والعنف كالفرق بين الأرض والمريخ: فالغازات في كل من الكوكبين مختلفة، والضغط فيهما متباين، وجو المريخ «برَّاد» حرارته 60 درجة تحت الصفر، والأرض فيها حقول مغناطيسية تسمح بوجود الحياة وتحفظها، بينما المريخ كوكب ميت. بالمثل، ثقافة العنف موت وقتل، وثقافة اللاعنف حياة وسلام ووئام وحب. فكأن الاثنتين آدم والشيطان: فثقافة السلام روح وريحان وجنةُ نعيم، وثقافة العنف «من مارج من نار، فبأي آلاء ربكما تكذِّبان؟» (سورة «الرحمن»- الآيتان: 15- 16).
وفي المقال سوف أحاول استعراض أهم الأفكار المتعلقة بهذا المذهب القائل: «ولا تقولوا لِمَن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا» (سورة «النساء»- الآية: 94). إن استعدادنا لوضع يدنا في يد من يؤمن بالسلام، ولو لم يستقبل الكعبة يوما، مقابل وضع يدنا في يد من يؤمن بالقتل، ولو حج كل سنة وقام الليل وصام الدهر، نابعان من أن الثاني سوف يضحي غدا بنا – فلا أمان معه ومنه! – بينما من يؤمن بالسلام فلا خوف منه، ولن يؤذي أحدا، مهما اعتقد وأيا كان ما يدين به – وهي فكرة مزلزلة للأصوليين، ولكنها مذهب السلاميين: وهذا هو الإسلام صدقا وعدلا.
إن أول تساؤل وجهته الملائكةُ لحظة خلق الإنسان عن جدوى وجود هذا الكائن «القاتل»، هو: «أتجعل فيها مَن يُفسِد فيها ويسفك الدماء؟» (سورة «البقرة»- الآية: 30) فلم تسأل: «أتجعل فيها مَن يكفر بك»، بل سألت: «أتجعل فيها مَن يقتل» – وهذا يعني أن مسألة العنف واللاعنف مسألة وجودية.
أول قضية جريمة قتل حدثت على الأرض، على ما جاء في القرآن، وقعت بين ولدَي آدم، حيث قال الأول: «لأقتلنَّك» (سورة «المائدة»- الآية: 27)، بينما قال الثاني: «لئن بسطتَ إليَّ يدَكَ لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليكَ لأقتلكَ إني أخاف الله رب العالمين» (الآية: 28). ومن هذه القصة تتولد تلقائيا طريقتان لحل المشكلات: طريقة من يهدد ويقتل، وطريقة من لا يهدد، ولا يخاف التهديد، ولا يمد يده بالقتل، ولا يدافع عن نفسه أمام القتل؛ أي أن هناك مذهبين في العالم: الدموي والسلامي.
وهذا يعني أن مسألة العنف واللاعنف هي مسألة التاريخ. «فالحرب أبو التاريخ»، بحسب هيراقليطس؛ ومن يطالع التاريخ على امتداد أكثر من ثلاثة آلاف سنة، منذ عُرِفَت الكتابة في صحف إبراهيم وموسى، يصل إلى رقم إحصائي مخيف مفاده أن كل 13 سنة من التاريخ سادت فيها الحرب تُقابلها سنةٌ واحدة من السلام، كما اكتشفها غاستون بوتول الذي درس ظاهرة الحرب، فهل هذا قدر إنساني، أم هي ثقافة؟
وبحسب تحليل الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، فإن انتقال الإنسان من الغابة إلى الدولة كان خيارا ذا اتجاه واحد: من الفوضى إلى الطغيان – وهو خيار بين أمرين أحلاهما مر؛ إذ لم يكن السلام ممكنا بين الناس في الغابة، كما لم يستتب السلام بين الدول حتى اليوم. وبحسب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، فإن «المجتمع» للإنسان يشكل ضرورة لسببين: الغذاء والدفاع. وهو يقول عن الغذاء إن رغيف
الخبز يحتاج إلى صناعات لا نهائية على شكل شبكة من التخصصات؛ وهذا غير ممكن من دون وجود «العمران»، أي المجتمع الإنساني. لولا مجتمع المدينة لما تشكلت الحضارة: فالحضارة ظاهرة نشأت «تحت السقوف». وهذا قاده إلى فهم ضرورة وجود المجتمع؛ إذ من دون وجود المجتمع لم يوجد الإنسان. ولا «ينطق» الإنسان إلا بوجوده مع بشر أمثاله.
وبحسب المفكر الجزائري مالك بن نبي، فإن المجتمع للإنسان يعني نقل الإنسان عبر معادلتين، بيولوجية وثقافية: الأولى تعني الفرد، والثانية تعني الشخص المتكيف اجتماعيا. والدراسات الأنثروبولوجية أكدت أن المجتمع للإنسان يعني نقله من البهيمية إلى جعله بشرا سويا. فالطفل الذي يولد في الغابة ويحافظ على وجوده لا يزيد على ذئب، بل هو «أضل سبيلا» (سورة «الفرقان»- الآية: 44)، يقف على رتبة حيوانية أدنى من الحيوان. أكد هذا بيتر فارب في كتابه «بنو الإنسان»، بناء على تجربة الطبيب الفرنسي إيتار على صبي أفيرون المتوحش، الذي أخرج قصته إلى السينما المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو.
ولكن مشكلة خروج الإنسان من الغابة ودخوله المجتمع جعلته مثل الفأر الذي استأجر لنفسه مصيدة، فخرج من فوضى الغابة ليقع في قبضة طغيان الدولة – كمن «هرب من الدلف إلى تحت المزراب»، على حد قول المثل السوري. ولم يكن من هذا بد، كما ذكرنا ذلك خلال الأفكار السابقة. لقد كانت الدولة ومجتمع المدينة ميزة رائعة من جانب، ومصيدة وورطة كبرى من جانب آخر.
وصراع الأفراد بين بعضهم يحصل بفعل التنافسات، ولكنها أحيانا حسب حجم السلطة تفضي إلى الحرب. فالحروب هي ظاهرة صراع الدول أو تفككها، كما رأينا في أجزاء شتى من العالم، آخرها رأيناها في أوكرانيا وقطاع غزة. بينما يرجع صراع الأفراد إلى تركيب الدماغ، فدماغ أحدنا مركب من ثلاثة طوابق: أعلاه الدماغ الحديث، وعمره نصف مليون سنة؛ أما الدماغان السفلي والمتوسط – وهما مسؤولان عن المراكز الحيوية والعواطف – فعمرهما أكثر من مائة مليون سنة منذ أن تشكلت الزواحف والبرمائيات التي هي السلالات الأولى للحياة، وبينهما قدر من التفاهم والوئام. وبذلك فإن دماغ أحدنا هو في الواقع ثلاثة أدمغة وليس واحدا، تتعامل بثلاث لغات ومن دون ترجمان! والانسجام موجود بين الدماغين السفلي والمتوسط منذ مائة مليون سنة، خلافا للدماغ الجديد، المتشكل منذ نصف مليون سنة فقط وغير المنسجم والمتفاهم مع الدماغين الآخرين. سنة الله في خلقه وهلك هنالك المبطلون.
نافذة:
ثقافة العنف موت وقتل وثقافة اللاعنف حياة وسلام ووئام وحب فكأن الاثنتين آدم والشيطان فثقافة السلام روح وريحان وجنةُ نعيم وثقافة العنف من مارج من نار