شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

طقوس منسية من زمن الوزارات المنقرضة

مرّ منها كُتاب ودخل عبرها مخزنيون إلى التاريخ 

يونس جنوحي

«إذا كانت الوزارة اليوم أرقى مكتب يستطيع صاحب مصلحة أن يدخله، فإنها في السابق كانت مجرد «عتبة» أولى في دُرج الرحلة المتشابكة الخيوط لتبليغ المظالم، أو قضاء المصالح الإدارية.

وإذا كان الوزير اليوم يوضع في منصبه، وفق تناسب «البروفايل» مع القطاع الوزاري، أو وفق هندسة التوافق الحزبي والسياسي، فإن الوزارة في السابق كانت تُفصل على مقاس الوزير تماما كما يفصل له الخياط جلباب الوزارة».

 

طقوس مخزنية انقرضت قبل أكثر من قرن

إذا كان الوزير المغربي يحظى بمكانة اعتبارية مهمة، فإن «السُراة»، كانوا أكثر شأنا وأعمق نفوذا في دواليب أسلاك المخزن. كما أنهم مارسوا وظيفة حساسة تجاوزت اختصاصاتهم، صلاحيات الوزراء المغاربة مجتمعين.

يذكر التاريخ أن بعض هؤلاء السّراة كانوا يتحكمون في الوزراء أنفسهم، ومارسوا دورا مهما في نقل السلطة من سلطان مغربي إلى آخر.

توارثت بعض العائلات المخزنية وظائف «السراة»، حيث كانوا يتوزعون على الأقاليم، وبعضهم فعّلوا دورهم الوظيفي والمخزني مرة واحدة في حياتهم فقط، بينما آخرون منهم عاصروا أربعة سلاطين إلى أن انتهت وظيفتهم مع المولى يوسف، ولم يعد لهم أي أثر في أسلاك المخزن ووظائفه.

يقول المؤرخ المغربي عبد الرحمن بن زيدان، والذي سوف نتطرق لاحقا في هذا الملف إلى الدور الذي لعبه في التوثيق لوظائف المخزن وطقوس وصلاحيات الوزارات المغربية القديمة، متحدثا عن مناصب السراة وصلاحياتهم:

«وإذا كانت البيعات التي عرفها التاريخ في مبايعة الخلفاء والملوك والأمراء منذ الصدر الأول من الإسلام، لا تتعدى أن تكون مبايعة شفهية تخرج من الأفواه، تحتمل أن تصبح بعد حين لغوا ملفوظا، فإن بيعات المغرب الأقصى لملوكه وسلاطينه هي مبايعة بلغت أسمى الغايات وأوفى المقاصد، فلا يمكن في حالة من الأحوال يتطرق إليها وهن، أو ينكث لها موثق. حيث إنها قائمة على رأس متين (..) يبادر أهل الحل والعقد في الأمة، وذوو الحيثيات فيها، وفي ضمنهم رهط من السراة والشرفاء والأعيان والوجهاء فيذهبون توا إلى الاجتماع والإشهاد على أنفسهم أمام العدول بمبايعة الملك المطاع، وهكذا يجري في كل القبائل والمدائن، والبوادي والحواضر فلا تتخلف عن عقد البيعة في كامل القطر المغربي أية جمهرة أو فئة، ثم ينادى بذلك نداء يسمعه القريب والبعيد في صيغة الدعاء للملك الجديد، ويتلو ذلك قرع الطبول..».

من المثير أيضا أن بعض الأسماء دخلت التاريخ من بابه الواسع، بفضل محافظة أصحابها على وجودهم في واجهة السلطة، حيث استفادوا من الطقوس والأجواء العتيقة لتدبير الوزارات، حتى أن بعضهم صاروا في حُكم «المنسيين» في الوزارات، ولم يكن بقاؤهم فيها مرتبطا لا بنفوذ ولا جاه ولا غيرهما، وإنما بطقوس مخزنية معينة، لم تعصف برؤوسهم لأنهم ساروا ببساطة في الظل وابتعدوا عن الزوابع.

أحد هؤلاء هو القائد الجراري، الذي عمّر طويلا في أسلاك المخزن وتوجد رسائل مخزنية موجهة إليه، كشفت بقاءه في خدمة المخزن لسنوات طويلة. وقد سبق في «الأخبار» أن تفصلنا سابقا في سيرته ومساره، الذي يجمع بين «الغرابة» والعجائبيات.

في كتاب نادر يحمل عنوان «مجالس الانبساط»، وصف صاحبه محمد بن علي دينية، القائد محمد الجراري بأنه كان من الفضلاء والوجهاء والأعيان. في سنة 1850 كان قد ولي عاملا على الدار البيضاء، وبقي في منصبه 25 سنة. وبعدها تعين عاملا على الجديدة، وبقي عاملا عليها إلى أن وافته المنية سنة 1890. وتقول بعض المراجع التاريخية إنه لولا تقدمه في السن، وانقضاء أجله، فإن الدولة لم تكن تفكر في استبداله حتى مع تقدمه في السن، والسر لم يكن كامنا في إمساكه بزمام الأمور، بقدر ما كان راجعا إلى انتمائه إلى النواة الأولى التي شكلت خريطة المسؤولين المغاربة، ولم يكن مطروحا أبدا استبدال اسم الجراري، لأنه كان مقربا جدا من الذين كانوا يرسمون الخريطة السياسية أيام الحسن الأول، حتى قبل مجيء المهدي المنبهي إلى السلطة. ولم يكن من السليم أن تغامر وجوه السلطة في ذلك التاريخ، بتغيير أسماء مثل «الجراري» في القضاء والداخلية.

 

 

هكذا غيّرت الحماية «خريطة» تعيينات رجال المخزن

«لم أكن أفهم بعض الأمور في رسائل رجال المخزن، حيث كانوا يستعينون بعبارات من عمق الدين ويصدرون أوامر غير منطقية للذين يعملون تحت إمرتهم. مرة تحدث أحدهم عن فراغ المخزن من المال، وأجابه الآخر في رسالة بأن الله وحده سيملأ المخزن بالبركة. المعجزة وحدها كفيلة بسد الفراغ الذي تركه الوزراء الجشعون والمخازنية الفاسدون في الخزينة.

ولكي تجري حوارا أو مقابلة مع أحد رجال المخزن، فيجب أن تتوفر على خزائن من الصبر. الأشخاص المهمون محاطون بعدد كبير من المخازنية والكتاب والرسل. ولكي تخترق هذه الدائرة التي يحيط بها المسؤولون أنفسهم، فيجب أن تدفع رشاوى لكي تقابل الرجل السامي. أغلبهم فقراء، ويأخذون أجورهم سنويا، وبالتالي فإن رؤساءهم يشجعونهم بهذه الطريقة على أخذ الرشاوى، حتى يتدبرون معيشتهم الشهرية إلى أن يحين موعد الأجرة السنوي.

عندما تمتنع عن أداء رشوة لمخزني، فإنه يقول لك: «إن سيدي في الحمام. هل ستأتي لرؤيته لاحقا؟». وفي المرة المقبلة يخبرك بأن سيده «نائم»، وهكذا دواليك إلى أن ينفد صبرك. انطلاقا من حراس الباب البراني إلى الأبواب الداخلية، يجب أن تمنح رشاوى كي تبلغ هدفك، وكلما اقتربت من الهدف تزداد قيمة الرشوة».

هكذا وصف الصحافي البريطاني لاورنس هاريس رجال المخزن في مذكراته، عندما زار المغرب، قبل توقيع معاهدة الحماية بأربع سنوات فقط.

وبعد سنة 1912، تاريخ توقيع المعاهدة، تغيرت خريطة المخزن ببطء، لكنها تغيرت.

وبدل الموظفين المخزنيين الذين كانوا يحملون تقاليد دار المخزن بين أعينهم، ويضعون التقاليد المرعية نُصب أعينهم، وُلد جيل آخر من موظفي المخزن، من وزراء وكتاب ومستشارين وأعيان، تخففوا قليلا من عبء ثقل التقاليد المرعية ولم يمانعوا أن ينفتحوا على الثقافة الفرنسية وطريقة الاشتغال الإدارية العصرية، وهكذا أدخلت تعيينات كثيرة على طقوس التعيينات وأصبحت الدراسة العصرية معيارا لتفويت المناصب، التي كانت إلى وقت قريب حكرا على خريجي جامعة القرويين والدراسة العتيقة.

 

 

وزير جايل ستة ملوك والإشاعات جعلته مدينا بالوزارة لأمه

الوزير والصدر الأعظم الحاج محمد المقري، الذي تعلّم السياسة في قصر المولى الحسن الأول بفاس، قبل وفاة الأخير سنة 1894، كان أحد الوزراء المغاربة – إن لم يكن الوحيد- الذي عاش فترات الوزارة المخزنية، ثم الوزارة «الإدارية العصرية».

عندما جاء محمد المقري من مسقط رأسه في وجدة إلى فاس، لكي يتسلق جدران «دار المخزن» الشاهقة، لم يكن أبدا مثيرا للاهتمام بالنسبة لا للفرنسيين ولا للإنجليز. ولكن عندما علم الفرنسيون أن عائلته تنحدر من تلمسان، وأن جده هاجر إلى المغرب، أيام المولى محمد الرابع، تأكد لديهم أنهم أمام رجل بمسار «مخزني» غير تقليدي أبدا.

بدأ الوزير المقري حياته السياسية موظفا مخزنيا، وسرعان ما تسلق الدرجات ليصل إلى الدائرة المحيطة بالمولى الحسن الأول في القصر الملكي بفاس، وسرعان ما أصبح أيام المولى عبد الحفيظ ذا حظوة مهمة، قبل أن يُرشح في عهد المولى عبد العزيز والمولى يوسف لكي يصبح مسؤولا رفيعا في المخزن المغربي.

يدين الحاج محمد المقري بمنصبه للمولى يوسف، الذي اختاره بعد توقيع معاهدة الحماية سنة 1912، لكي يكون أحد أبرز مقربيه، فقد كان المقري في تلك السنة وزيرا فوق العادة، جايل ستة سلاطين، واشتغل مع أربعة منهم.

قيل أيضا إن محمد المقري مدين بالمكانة التي تبوأها لعمه الذي كان رجلا بارزا في جامع القرويين، بينما روايات أخرى تقول إن أمه، بأصولها الشرقية، ربطت صداقات متينة مع بيوت ونساء أثرياء فاس، وسهلت الطريق أمام ابنها لكي يلج القصر الملكي من بابه الأوسع. لكن محمد المقري يبقى عصاميا بنى نفسه بنفسه، خصوصا بعدما ربط الاتصال بالإقامة العامة الفرنسية.

عندما صار محمد المقري في منصب الصدارة العظمى، كانت له صلاحيات واسعة فوضها له السلطان مولاي يوسف. وعندما توفي الأخير بشكل مفاجئ سنة 1927، بقي محمد المقري في منصبه، واشتغل إلى جانب السلطان الشاب سيدي محمد بن يوسف، مضيفا إلى صلاحياته صلاحيات أوسع، حيث كان مكلفا بالاتصال بين القصر الملكي والإقامة العامة، واستضافة المقيم العام ليوطي ومستشاريه والوساطة بينهم وبين القصر، وصياغة طرق تفويض السلط التي بقيت في يد السلطان حتى بعد توقيع معاهدة الحماية.

في أزمة العرش سنة 1953، عندما نُفي السلطان محمد بن يوسف، لُطخ اسم المقري بتهمة التآمر والمشاركة مع الإقامة العامة والأعيان في تعويض السلطان الشرعي بابن عرفة. ورغم أن المقري نفى عن نفسه صفة مهندس الصفقة، إلا أنه نال نصيبه بعد سنة 1955 من الانتقام الشعبي، واضطر إلى ملازمة فراشه مريضا، وسنه تجاوزت المئة، وتوفي سنة 1957 واضعا نقطة النهاية لمسار سياسي جر خلاله أزيد من ستة عقود كاملة من التجارب المخزنية، واستحق عن جدارة لقب الوزير الذي اشتغل في غرف القصر الملكي، أيام كانت الوزارات موزعة على غرف تجاور قاعة السلطان، بدون مكاتب عصرية ولا أجهزة هاتف، ثم ارتمى في حضن الوزارة العصرية، حتى أنه استبدل أكثر من أربعة رؤساء دواوين وكتاب وُضعوا رهن إشارته، عندما كان يُدبر شؤون الوزارات ويتحكم في التعيينات وصياغة الظهائر السلطانية.

 

 

كاتب أدخله «الأدب» إلى الوزارة.. والتاريخ

لا يمكن الحسم في ما إن كان عبد الله الفاسي كاتبا صار وزيرا، أم وزيرا أتقن أصول الكتابة وزاح بها عن السياسة إلى الأدب وبحور الشعر.

أشهر كتابات عبد الله الفاسي، الذي وُلد سنة 1871، هي مشاهداته في رحلته إلى باريس أيام المولى عبد الحفيظ، ولولا حضوره بين أفراد الوفد المغربي لضاعت تفاصيل تلك الرحلة التاريخية ولما وصلت إلى العموم، فقد تكلف بكتابة يوميات الرحلة منذ انطلاقها إلى أوروبا، وقدمها إلى السلطان وحفظت في مخطوط إلى أن تم تحقيقه بعد استقلال المغرب، على يد د. محمد الفاسي في جامعة محمد الخامس بالرباط.

صحيح أنه كان خريجا من جامعة القرويين، لكن انتماءه إلى أسرة الفاسي عبّد الطريق أمامه نحو مهنة القضاء، وعُين قاضيا في فاس، قبل أن يسلك طريقا «مختصرا» نوعا ما نحو الوزارة.

لكن قبل أن يصير وزيرا، اشتغل عبد الله الفاسي أولا كاتبا في ديوان الوزارة. أيام كانت الوزارة مجرد غرفة مظلمة مفروشة بالفراش المغربي التقليدي، ولا وجود فيها لأي أدوات مكتبية.

أحد أكثر المناصب الوزارية التي مر منها عبد الله الفاسي حساسية، وإثارة للجدل أيضا، منصب أمين سر وزير الخارجية.

فقد اشتغل عبد الله الفاسي أيام الوزير عبد الكريم بنسليمان، أحد أشهر من مروا من وزارة الخارجية، قبل أن يتم إعفاؤه من منصبه، بحجة أنه أحد الأعلام الموروثة من أيام المولى الحسن الأول.

شهد عبد الله الفاسي ثورة المخزن ضد الأسماء المخزنية القديمة، التي حافظت على مكانها عندما انتقلت السلطة من المولى الحسن الأول إلى أصغر أبنائه المولى عبد العزيز. واعتُبروا عند مجيء المولى عبد الحفيظ سنة 1907، من الحرس القديم الذي تجب إقالته.

لكن عبد الله الفاسي كان استثناء، بل اعتُبر أحد أوفر الموظفين حظا لتبوء المناصب أيام المولى عبد الحفيظ، سيما وأنه راكم تجارب مهمة في سلك المخزن.

عندما انتقلت السلطة إلى مولاي يوسف، غادر عبد الله الفاسي حياة الوزارة في فاس، وتفرغ للكتابة، حيث أصدر عددا من الدواوين الشعرية التي جمع فيها بين التوثيق للقواعد العلمية ومواقف يعتز فيها بالعروبة، شأنه شأن المثقفين في بداية القرن العشرين، حيث اعتُبر من المتأثرين بالنزعة المشرقية. عاصر عبد الله الفاسي وصول المولى يوسف إلى السلطة، وشهد تنصيب سيدي محمد بن يوسف، وتوفي سنة 1930 تاركا خلفه إرثا حقيقيا من الأرشيف والمراسلات المخزنية التي كتب أغلبها بخط يده ودقق أخرى وصلت إليه من أرشيف الإدارات التي اشتغل فيها، عندما كان دخول الوزارة يقتضي أولا التمكن من العلوم الشرعية والفقهية.

 

 

في قلب الحياة اليومية لوزير مغربي سنة 1907

عند الحديث عن عبد الله الفاسي، يظل عالمه في الوزارة غامضا، رغم ما كتب عن نفسه ومهامه، ورغم الشهادات المحلية التي قيلت عنه.

وحده الصحافي البريطاني لاورنس هاريس، «تفنن» في وصف يوميات عبد الله الفاسي الذي كان وقتها يشتغل أمينا للسر في وزارة الخارجية المغربية، أيام المولى عبد الحفيظ. وقد حظي هذا الصحافي بفرصة لقائه، بل و«إبرام» صداقة متينة معه تطورت مما هو مهني، لترتقي إلى صداقة شخصية خلال مدة إقامة هذا الصحافي في مدينة فاس.

يقول في مذكراته «خلف الكواليس مع المولى عبد الحفيظ في فاس»، الصادرة باللغة الإنجليزية سنة 1909، والتي ننقل مقتطفا منها إلى العربية:

«وزير الشؤون الخارجية، لم يكن مقيما بفاس، لكنه كان ممثلا بكاتبه في فاس، عبد الله الفاسي، المقرب من المولى عبد العزيز، والذي كان يفترض فيه أن يكون أقوى رجال المخزن. معرفته بالقرآن الكريم كبيرة جدا وعميقة، لكنه لا يعرف أي شيء آخر. كان يمضي ساعات طوالا جالسا في مكتبه يدردش مع الكتّاب في ديوانه، وكان هذا الأمر يبعث على الضجر. المكتب الذي يجلس فيه يعد أهم مكتب، في الوقت الذي تمر فيه البلاد بأزمة خانقة، كان المكتب واسعا جدا، مساحته 12 قدما مربعا، وكان على الجهة اليمنى من دار المخزن، كان الوزير يجلس فوق حصير مفروش على أرض المكتب، يمتد إلى جميع الأركان إلى أن يلتصق بالجدران المتسخة. مكتبه عبارة عن طاولة خشبية لا يزيد علوها على 8 إنشات. كل رجل يجلب معه قلم محبرة للمداد، ويأخذها معه في نهاية اليوم.

حتى الآن، رغم كل الاحتقار والتعالي المفترض، الذي ينظر به رجال المخزن للنصارى، فإنهم يطمعون بشدة في امتلاك أشياء النصارى وأغراضهم. الساعة الذهبية هي الأغلى إطلاقا، ويرغبون في امتلاكها.

من المضحك جدا، رؤية الحاج عبد العلي بن الهاشمي، قائد القصبة، ذو الشعر الأبيض، حيث كان يتهادى في مشيته إلى فناء دار المخزن كل صباح، ويجلس القرفصاء قرب صديقه عبد الله الفاسي، وزير الخارجية. يبدو أنه يأتي من أجل النميمة، لكنني أعتقد أنه كان يأتي  بدافع الحسد بينه وبين زملائه في جهاز المخزن.

لبضع لحظات، يبدأ الرجل المسن في الثرثرة، ثم يفتح حقيبته الجلدية ببطء ويستخرج قطعة بنية اللون ويضعها أمامه. يبدأ في فتح قطعة الثوب البنية، وبعدها يزيل أربع قطع أخرى، وتظهر علبة جلدية خضراء. يفتحها بتروّ، ويخرج منها ساعة ذهبية. يتفحص الساعة بانتباه كبير، رغم أنه لا يستطيع معرفة الوقت من خلالها، في الوقت الذي كانت فيه أعين الحساد تشاهد كل حركاته. ببطء وبترو أيضا، يعيد جمع محتويات الحقيبة الصغيرة. كان الرجل يعيد العملية نفسها أربع مرات في الصباح!

كانت العملية فعالة، وكانت تثير حسد عبد الله الفاسي أيضا. دعاني الفاسي مرة إلى داره، وفي غرفة خاصة في بيته، طلب مني أن أبعث إليه ساعة ذهبية من لندن، وقال مؤكدا: «لكنها يجب أن تكون أكبر من ساعة قائد القصبة».

ولكي يظهر لك المسؤولون المغاربة مدة معرفتهم بتاريخ الأوروبيين، فإنهم، في بعض المناسبات يتطرقون إلى مواضيع تهم التاريخ الأوروبي.

في يوم من الأيام سألني عبد الله الفاسي: «هل تعرف نابليون؟ هل سبق وأن حاربته؟».

أما السكرتير الخاص به، وليوضح لي أنه عارف بالتاريخ الأوروبي فقد سألني إن كنت قد التقيت مرة بـ«أوليفر كرومويل»، مشيرا إلى أن له رأيا في الموضوع: «كرومويل كان جنديا جيدا، لكنه رجل إنجليزي سيئ، ويجب أن يودع في السجن. هل لا يزال قائدا؟»

لحسن الحظ تخلصت من مأزق الرد على تلك الأسئلة الصعبة، عندما جاء «مخزني» يناديني لكي أقابل السلطان».

 

عندما كان الوزير الأول يُسمى «العلاّف الكبير»

جاء في بحث للباحث المغربي عبد العزيز بنعبد الله، تأصيل عميق لظاهرة «العلاف الكبير»، أو المنصب الوزاري الذي كانت له ضوابط مخزنية خاصة، ورهبة تفوق بها على بقية «العلافين»، قبل أن يحملوا صفة «وزير»، أو «وزير دولة».

يقول بن عبد الله في معرض مقالة بحثية تطرق فيها إلى مفهوم العلاف الكبير:

«وكان الوزير يسمى (العلاف)، ثم أطلق عليه الميلالاي أمير آلاي التركية، وأول من تقلد هذا المنصب الذي من خصائصه الإشراف على الجيش محمد بن العربي الجامعي، المدعو الصغير، ثم الحاج المهدي المنبهي.
ولعل هذه الوزارات أحدثت في عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن، وأول من تولاها هو الحاج عبد الله بن أحمد، أخو الحاجب موسى بن أحمد، ثم تولاها في العهد الحسني خاله محمد الكبير بن العربي الجامعي، ثم أخوه محمد الصغير الجامعي، ثم سعيد بن موسى، ثم المنهي.
والعلاف الكبير ليس هو في الحقيقة وزير الحرب، لأنه لم يكن يشرف على الجيش ولا على تكوينه، وإنما كان مسؤولا عن تموين العسكر المتنقل في «الحْركات»، بعد أن يحدد السلطان مداه وشكله وذلك بصدد الأسلحة والعدد، وتنفيذ قرارات السلطان حول تعيين رؤساء الفرق وتوزيعهم على المناطق، وكذلك تدوين الجند في سجل يومي يقدم إلى السلطان، بعد التأشير وإمضاء الصدر الأعظم، كما يقوم بتأشير كل كشوف المصاريف التي يقدمها شهريا وبمناسبة الأعياد العلافون المشرفون على كل «حنطة» من حناطي موظفي القصر الملكي».

تأصيل الكلمة التي كان يوصف بها الوزراء قديما، بقدر ما يحمل بُعدا طريفا، بقدر ما يكشف أجواء الحكم، قبل قرون خلت، وعناصر القوة التي يستمد منها الوزراء سلطتهم.

المثير أيضا أن الوزراء كانوا أقل شأنا من القواد والباشوات الذين يحكمون الأقاليم باعتبارهم ممثلين للسلطان، ولم يكن ينافسهم في صلاحياتهم سوى «الخليفة السلطاني»، الذي يكون في العادة ابنا مباشرا للسلطان أو أحد إخوانه أو أبناء عمومته.

لكن في قلب الوزارات، كان الوزراء أقرب المقربين للسلطان في عواصم الحكم، ويرافقه بعضهم أثناء تنقلاته ورحلاته في الأقاليم، ويجتمعون به يوميا.

العلاف الكبير في أغلب مراحل الثورات كان يمزج بين وزارة «الحرب» وبين الوزارة الأولى، وفي بعض المحطات التاريخية كان منصب وزير الحرب أهم بكثير من منصب العلاف الكبير.

أحد أهم المؤرخين المغاربة الذين وثقوا لهذه المناصب، المؤرخ والمؤلف عبد الرحمن بن زيدان، حيث تفصل بدقة في وصف حدود صلاحيات كل منصب وزاري من المناصب القديمة، وذكر أيضا قصص استحداث بعض الوزارات وقصص انقراض أخرى. عاش عبد الرحمن بن زيدان ما بين سنتي 1878 و1946، حيث جايل المولى الحسن الأول وأبناءه من بعده، المولى عبد الحفيظ وعبد العزيز، ثم مولاي يوسف، ومن بعده محمد بن يوسف.

تحدث الكثيرون عن عبد الرحمن بن زيدان، ومدحوا مجهوده في التوثيق. قال عنه شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي: «قد أسعفني الحظ بزيارة هذه الخزانة العلوية الزيدانية، المرة بعد المرة، فكان مما يلفت النظر، زيادة على ما اقتطفته من يانع ثمارها، وأجليته من مخبئات أسرارها، أنها دائما تترقى في أوج الكمال، فكأنها الكعبة تأوي إليها أفئدة مهمات التآليف، وتحجها فطاحل العلماء، رجالا وركبانا، فليس يضاهيها في ذلك السير صاحبها بخطواته الواسعة إلى العلا والمجد».

بينما تفنن الوزير محمد با حنيني الذي درّس الملك الراحل واشتغل في المدرسة المولوية، في وصف مكتبة عبد الرحمن بن زيدان، وكتب عنها يقول:

«رأيت في هذه المكتبة العامرة من النفائس والتحف ما بهرني وزادني يقينا بما لأمتنا في مظهريها الشرقي والغربي من العظمة والرقة والأناقة، وإن رجائي العظيم، أن تسمح لي الظروف بالمقام بها الساعات المديدة والأيام الطويلة، لأتمتع كما أريد، بما تحتوي عليه من ينابيع الثقافة، وما يدر بها من أخلاق العرفان، كما أرجو الله أن ينسى في عمر صاحبها ويديمه ذخرا للعلم وحاملا لراية مؤرخي المغرب».

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى