شوف تشوف

الرأي

طغيان الغالبية

عبد الإله بلقزيز

يعود أول استخدام لعبارة «طغيان الغالبية» إلى جون ستيوارت مِلْ: الفيلسوف والاقتصادي الإنجليزي من القرن التاسع عشر. وهو استخدمها في كتابه في الحرية في معرض نقده النموذج السياسي الديمقراطي السائد في عصره: النموذج القائم على الديمقراطية التمثيلية؛ حيث مبدأ تمثيل العدد الأكبر هو العمدة في تقرير مشروعية السلطة.
وإذ لاحظ مِلْ، في نقده، أن هذا العدد الأكبر (= أي الغالبية) لا يمثل -عمليا – إلا نسبة ضئيلة من المجتمع أو الشعب، ينتهي بعد انتخابه (= أي العدد الأكبر) إلى احتكار السلطة باسم الإرادة الشعبية والاختيار والحر، وإلى ممارسة الطغيان، وبالتالي تهديد الحقوق والحريات.
يقترب هذا المفهوم، في شحنته الإيحائية، من مفهوم آخر استخدم قبله، بسنوات معدودات، من قبل ألكسي دو توكفيل (الفيلسوف الفرنسي المعاصر له)، هو مفهوم «الاستبداد الديمقراطي» الذي وصف به النظام السياسي الذي أنجبته الثورة الفرنسية. وبصرف النظر عما كان لأفكار توكفيل من أثر ملحوظ في فلسفة مِلْ السياسية، فإن فكر الفيلسوفين الليبراليين دشن نقدا – من الموقع الليبرالي- لنموذج الدولة الوطنية الحديث (بعد نقد ماركس من موقع اشتراكي)؛ وسلط الضوء على ما يعتور كيانها وهندستها السياسية من أعطاب ومواطن خلل. وما من شك في أن موجة النقد الحاد لهذا النموذج – التي تدفقت في النصف الأول من القرن العشرين (ماكس فيبر، كارل مانهايم، هوركهايمر، أدورنو، ماركيوز، حنة أرندت…)- وجدت في تحليل توكفيل وماركس ومِل لتناقضات النظام السياسي للدولة الحديثة مرتكزا من مرتكزاتها التي بنت عليها.
ليس تزيدا في الاستنتاج أن يعود المرء بجذور هذا الموقف النقدي من النظام الديمقراطي، ومنطق التمثيلية فيه بالذات، إلى أفكار أفلاطون السياسية ومواقفه النابذة للديمقراطية كنظام حكم. صحيح أن واعزا شخصيا ونفسيا كان يكمن خلفها ويحركها؛ هو أن هذا النظام، عند أفلاطون، هو المسؤول عن محاكمة أستاذه سقراط وإعدامه. ولكن رؤية أفلاطون إلى الديمقراطية، بما هي شكل من أشكال أنظمة الحكم، لا تنفصل عن رؤيته النقدية للشعبوية والغوغائية التي اعتقد أن الديمقراطية وجه من وجوهها. وليس يعنينا، هنا، أن نضع في ميزان الفحص مدى وجاهة رأي أفلاطون أو العكس، وإنما يعنينا أن ننبه إلى أن هذا التقليد النقدي في النظر إلى الديمقراطية وغالبيتها تقليد عريق في تاريخ الفكر. وليس مستبعدا أن يكون كثير ممن حللوا أزمة النظام الديمقراطي في الغرب – بين منتصف القرن 19 ومنتصف القرن 20- تذكروا موقف أفلاطون، وإلى حد ما، موقف أرسطو وتفهموه في السياقات التاريخية الجديدة التي وجدوا أنفسهم فيها أمام مفارقات في هذا النظام.
من البين أن نظام الديمقراطية التمثيلية في الغرب، الذي مبناه على معادلة غالبية/ قلة وعلى المشروعية السياسية المتولدة من انبثاق غالبية من التصويت والاقتراع، يمكن أن يكون – حقا- نظاما مغلفا لطغيان جديد «مشروع» مختار بـ«إرادة» الناخبين (أو – للدقة – قسم منهم قد لا يتجاوز نصفهم في العادة). بل يمكن لهذا الطغيان – عند عتبة من استفحاله ومن انهيار قواعد السياسة فيه – أن يتحول إلى ديكتاتورية أو إلى كُلانية (توتاليتارية)، كما في الحالة النازية، وما ذلك إلا لأن الهندسة السياسية التي تقوم عليها الديمقراطية التمثيلية تقلص الفارق بين الديمقراطية والشعبوية وتبدد الفواصل بينهما، فتسمح للأخيرة بأن تتمظهر في صورة الديمقراطية! ما الذي تواجهه دول عدة من الغرب، اليوم، غير جنوح الشعبويات الجديدة (اليمين المتطرف) إلى حيازة السلطة من طريق الاقتراع؟ وكيف لها أن تتفادى هذا المشهد الخطير في ما تتمتع قوى اليمين العنصري المتطرف بقاعدة شعبية عريضة قادرة على حملها إلى السلطة بأدوات التمثيل؟
نعم، من الصحيح أن الديمقراطية تصحح أخطاءها، في هذا الباب، وأنها وضعت حقوق القلة أو القلات النيابية موضع تأمين، مثلما فَعلتْ – أحيانا- مبدأ التوافق في اتخاذ القرار، غير أن ذلك كله لم يكن يكفي لامتصاص مخاطر طغيان الغالبية وفرض إرادتها، باسم الإرادة الشعبية، على الرغم من ضعف القاعدة الناخبة؛ هذه التي تزيد، مع الزمن، ضعفا وضمورا. والحق أن الخروج من هذه الحلقة المفرغة – التي قد تقود دولا نحو صعود القوى الشعبوية المتطرفة – لن يحصل من غير إعادة النظر في الهندسة السياسية لنظام الديمقراطية التمثيلية؛ أي من غير العودة إلى الأساس/ الجوهر لكل نظام ديمقراطي: الفصل بين السلطات، وتركيب نموذج سياسي جديد على قاعدته يضع حدا لكل استيلاء مقنع على السلطة باسم الإرادة الشعبية. هذا وحده السبيل إلى اجتراح نظام العقلانية الديمقراطية، الذي تحدث عنه ماكس فيبر، أو نظام الديمقراطية التداولية لدى هابرماس، أو أي نظام آخر لا تتجمع فيه السلطات في يد فريق واحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى