بقلم: خالص جلبي
بعد بحث موضوع السكر في الخلية، هناك سر مهم أيضا استطاع العلم الحديث أن يكشف عنه، وخاصة بعد اختراع المجهر الإلكتروني، وهذا السر هو في تكوين البروتين الخلوي، لأننا كنا قد ذكرنا أن الغشاء الخلوي لا يسمح بدخول البروتينات إلى داخل الخلية؛ فكيف إذن يتكون البروتين الخلوي اعتمادا على إمكانيات الخلية وحدها، خاصة وأن بعض الخلايا في الجسم تقوم بتركيب هرمونات هي في غاية التعقيد، كما في هرمون الأنسولين من خلايا بيتا في جزر لانغرهانس من المعثكلة (البنكرياس) أو التيروكسين من خلايا الغدة الدرقية، أو هرمون النمو من الفص الأمامي من الغدة النخامية، أو التستوستيرون وهو هرمون جنسي عند الذكور من خلايا ليديغ في الخصية، حقا إن الأمر يدعو إلى الدهشة، خاصة وأن الغشاء الخلوي لا يسمح بدخول الذرات البروتينية المعقدة، فكيف يحدث الأمر إذن هنا؟
حتى يمكن أن نفهم الإجابة بشكل دقيق وصحيح لا بد من فهم شيئين، أولا ما هو البروتين وكيف يتكون أصلا؟ وثانيا من الذي يكونه داخل الخلية، التي ما زلنا حتى الآن نبحث بعض أسرارها الغامضة المحيرة؟
إن المواد البروتينية ومنها اللحم هي عبارة عن اجتماع مجموعة ضخمة من الأحماض الأمينية، والحمض الأميني هو عبارة عن اجتماع حمض وأمين كما هو اسمه، والحمض معروف، والأمين هو الذي يوجد في تركيبه ذرة آزوت مع ذرتين من الهيدروجين، وصفاته معاكسة للحمض، أي تميل إلى القلوية، وهكذا فإن الحمض الأميني يحمل خاصيتين؛ خاصية الحموضة والقلوية، وهي ميزة هامة له، وهذا شيء بسيط في أول البحث، ولكن كيف تتكون البروتينات المعقدة؟ خاصة وأن عدد الأحماض الأمينية كثير، والأعقد هو اجتماع الأحماض الأمينية بشكل إذا اختلف قليلا عن الآخر؛ فإن هذا يعطي مركبا يختلف كل الاختلاف عن المركب الأول، حتى أن تبديل بعض الذرات في المركب نفسه يقلب المركّب رأسا على عقب. إن السر في هذا يعود إلى سر الحياة في الخلية، الذي هو النواة، حيث يستقر مركز الرئاسة والإدارة وتنظيم الأمور هناك، وهو ما كشف العلم الحديث عنه؛ فلنسمع طرفا من هذا النبأ العظيم؟
بعد الجهود المضنية الشاقة التي رافقت اختراع المجهر الإلكتروني، والبحث عن أسرار الخلية، وجدوا أن الخلية لا يمكن أن تعيش بدون نواة؛ فقالوا إن سر الحياة هو في النواة، فبدؤوا يدرسون النواة، وهناك في النواة تبينوا وجود أجسام غريبة لم يعيروها في أول الأمر انتباها كبيرا، ولكن مع متابعة البحث والدرس وجدوا أن هذه الأشكال ثابتة، كما أنها في كل انقسام خلوي عندما تنشطر الخلية إلى نصفين تتولد منها خليتان جديدتان، بحيث إن الخلية البنت تشبه الأم الأصلية تماما، وجدوا أن لهذا الانقسام علاقة بهذه الموجودات داخل النواة، حيث إنها تنقسم إلى صنفين مع كل انشطار خلوي، ووجدوا أنها تتلون بالأصباغ بشدة فسموها الصبغيات، ولكن مع متابعة البحث والجهد تبين للعلماء أن هذه الصبغيات لها دور كبير في الوراثة، حيث إن الصفات الوراثية تكمن في هذه الصبغيات، وحيث تنتقل من الآباء إلى الأبناء والأحفاد من خلالها، وتبين للعلماء أن هذا الأمر ثابت في كل الأنواع الموجودة من الأحياء النباتية أو الحيوانية أو حتى الإنسان بالذات.
وهنا يتساءل المرء، ولكن أين تقبع هذه الصفات الوراثية في خلية لا ترى إلا بالمجهر؟ لون الشعر والعينين، طول القامة، لحن الصوت، قسمات الوجه، شكل المشية، المزاج، تشكيل العظام والعضلات، شكل الأصابع والأظافر، استطالة الأنف، فتحة العينين، أهداب الأجفان، استدارة الصدر، المفاصل، الهرمونات، الأخلاط، الغدد، الزمر الدموية، الأمراض الوراثية، شكل الجمجمة إلخ).. كلها أسرار من الأسرار التي لا يعرف العلم عنها حتى الآن إلا القليل، وما لنا نستعجل فلنسمع الحديث إلى الآخر!
يقول العلماء: إن هذه الصبغيات هي الأساس في الوراثة، ولكن ما هو تركيبها يا ترى؟ وبدأ البحث المضني حتى استطاعوا أن يتعرفوا – ليس فقط على تركيب هذه الصبغيات – بل توصلوا إلى إثبات أن هذه الصبغيات لها ما يشابهها في التركيب أيضا في داخل الخلية.. وجدوا أن الصبغي مكون من اجتماع حمض فوسفور وسكر خماسي (أي فيه خمس ذرات فحم وهو سكر الريبوز، ولذا سمي المركب بالحمض الريبي النووي منقوص الأكسجين DNA)، بالإضافة إلى مركب عضوي آزوتي؛ فأطلق على هذا المركب الثلاثي الحمض الريبي النووي، واختصارا سمي بـ د.ن.آ D. N. A، ووجد أن هذا الحمض يشبه السلم فيه عمودان يربط بينهما درج، ولكن هذا السلم ليس مستقيما، بل هو ملفوف على نفسه، بحيث إننا لو جعلناه على استقامة واحدة وربطنا العمودين ببعضهما لامتد هذا الحمض خارج النواة مسافة متر ونصف. كما وجد أن هناك أحماضا تتشابه في الخلية، ولكن لها ميزة تختلف عن ميزة الأول من ناحية تركيب ذرة الأكسجين فقط فيه فسمي R. N. A ر. ن. آ، ووجد من هذا الأخير ثلاثة أنواع في الخلية الواحدة (تذكر لقاح كورونا من أحد الثلاثة من هذا الحمض).
والآن بعد هذه المقدمة لنعرف كيف يتم تركيب البروتين في هيولي الخلية (المادة التي تحيط بالنواة وتقع ما بين النواة والغشاء الخلوي تسمى بالهيولي الخلوية)، لقد وجد أن في هيولي الخلية الواحدة ما يقرب من 500 ألف جسيم ريبي، أي من النوع الأخير الذي شرحناه، بالإضافة إلى 500 مصورة حيوية (مرت سابقا وستشرح لاحقا)، بالإضافة إلى 500 مليون ذرة أنزيمية! والأهم لقد استطاع العلماء أن يتعرفوا وبالجهود المضنية طبعا أن الحمض د. ن. آ D. N. A يشبه الأستاذ الذي يعطي المعلومات لتلاميذه لكي يقوموا بأمر ما، وإذا بالحمض الثاني ر. ن. آ R. N. A ينطلق من النواة كالرسول الذي يحمل رسالة هامة، وهناك يقترب من الجسيمات الريبية في الهيولي (نوع من أنواع ر. ن. آ الثلاثة) ويهمس لها سرا في أن تقوم بعمل ما، وهنا يتحرك طرف ثالث في القضية وهو النوع الثالث من الحمض ر. ن. آ R. N. A ويسمى بالناقل والمنحل، فينادي الأحماض الأمينية أن هلمي إليَّ.. فتجتمع إليه لتسمع ماذا سيقول لها، وهنا يضعها تحت تصرفه، ثم يبدأ ليصفها بشكل فني دقيق ماهر وكأنه أعقل العقلاء حتى يبني منها البروتين الذي يناصبه، أو الهرمون الذي يريد إطلاقه (أو صناعة اللقاح) فمن علَّمه يا ترى كل هذا؟
نافذة:
بعد الجهود المضنية الشاقة التي رافقت اختراع المجهر الإلكتروني والبحث عن أسرار الخلية وجدوا أن الخلية لا يمكن أن تعيش بدون نواة فقالوا إن سر الحياة هو في النواة