طرائف في مفاوضات الاستوزار
مواقف ساخرة في كواليس توزيع الحقائب الوزارية وتعديلها
حسن البصري
مع اقتراب موعد الحسم في قضية التعديل الحكومي، ينتظر أغلب الوزراء مكالمة تلفونية من رئيس الحكومة سعد الدين العثماني، للإبقاء عليهم بالتشكيل الجديد أو الإطاحة بهم. بعضهم تتراقص أمام عينيه لحظة أداء اليمين الدستورية، ومنهم من شرع في ترحيل حاجياته الخاصة من مكتبه خاصة صور أفراد أسرته وصوره في حضرة الملك.
التعديل الحكومي المرتقب كان متوقعا نظرا لطبيعة الهندسة الحكومية التي لم تراع مضمون خطاب عيد العرش من العاصمة السنغالية دكار، والذي رسم فيه الملك مواصفات العناصر المطلوبة مركزا على عنصري الجدية والمسؤولية.
لكن في كل تعديل أو تشكيل هناك «بلوكاج» يرابط في الطريق يتربص بالمفاوضين يغير مسارهم، خاصة وأن أغلب الزعامات الحزبية لا تبحث عن الكفاءات بقدر ما تطرح أسماء من باب جبر الخواطر.
كلما اقترب موعد التعديل الوزاري، إلا وأصبح ذهن وقلب كل وزير مرتبطا بالهاتف الذي قد ينقل البشرى أو يحمل عبر ذبذباته الخبر المحزن. ومن النوادر التي ميزت التعديلات إصرار رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي على فتح بوابة إلكترونية لاستقبال طلبات الترشيح لمنصب وزير، وهو ما استفز الكثير من القوى السياسية في هذا البلد.
لحسن حظنا أن التعديل أو التشكيل لا يخضعان لمعيار قبلي أو ديني أو عرقي، فالمغاربة سواسية أمام الصناديق وفي كواليس المفاوضات، لا يضعون في اعتبارهم القومية والطائفية.
في هذا الملف سنتوقف عند كواليس المفاوضات السرية لتشكيل الحكومات وترميمها، وسنسلط الضوء على الجانب الخفي والطريف في اجتماعات منها ما تسرب إلى الإعلام عبر مذكرات السياسيين ومنها ما ظل في طي الكتمان.
البكاي يشترط وجود «فرانكو» في ديوانه
بعد نفي محمد الخامس إلى مدغشقر، ضحى البكاي بن امبارك الهبيل، بمنصبه كباشا لمدينة صفرو رافضا الانضمام إلى قائمة رجال السلطة المتآمرين على العرش العازفين على مقام و«نوتة» «أمنا فرنسا».
حين عاد السلطان محمد بن يوسف من منفاه اختاره رئيسا لأول حكومة وطنية بعد الاستقلال، بمباركة من المستعمر الفرنسي، سيما أن الاتصال بين البكاي ومحمد الخامس ظل قائما حين كان السلطان الراحل منفيا.
من الشروط الغريبة التي أصر عليها البكاي وألح على مناقشتها، تعيينه لرجل بركاني في ديوانه كرئيس حكومة، ويتعلق الأمر بعبد القادر بن صالح الشهير بفرانكو، الذي أصبح إمبراطور صناعة وتوزيع المياه المعدنية والمشروبات الغازية، والذي ظل يعتبر سنوات الستينات والسبعينات كواحد من أكبر أغنياء المغرب، قبل أن يورث الجاه لابنته مريم بن صالح.
اعتقد محمد الخامس أن البكاي لديه شروط تتعلق بأسماء معينه يريد استوزارها، لكن رئيس الوزراء كان له مقترح آخر، إذ قال البكاي إنه لا مانع لديه من إشراك أي اسم في تركيبته الحكومية، وأضاف: «جمعت بين صلابة الباشا والتزام العسكري وحب الوطن، مما سيعينني على تحمل أعباء الحكم مهما كانت مكونات كتيبته».
كانت مهمة البكاي صعبة، رغم أن محمد الخامس كان يدعم تجربة حكومية يحكمها رجل عسكري بامتياز، منضبط لأوامر المخزن حد الإيمان، وحين سئل عن مضاعفات تركيبة حكومية بدون رموز السياسة، قال إن «حكم صفرو لا يختلف عن حكم المغرب، معتبرا دعم محمد الخامس مظلة له».
هذه الحكومة ستسقط بعد ثلاث سنوات، وخلد البكاي للراحة بعد التقاعد وظل يتوصل بمعاشه من الجيش الفرنسي وليس من الحكومة المغربية، علما أن مبلغ المعاش يقل بكثير عن راتب الباشا. سقطت حكومة البكاي الأولى والثانية، وتبين أن جنود فرنسا ممنوعون من الصرف.
لأول مرة.. صلاحية حكومة ما بعد الانقلاب محددة زمنيا
في الوقت الذي تحدثت فيه الصحف المغربية عن انشغال كريم العمراني بإعداد تشكيلته الحكومية والتنقيب عن الوجوه القادرة على تدبير مرحلة ما بعد انقلاب الصخيرات، كان مقرب من الملك يطرق باب بيت كريم العمراني ويحمل له ورقة عليها أسماء يريد الحسن الثاني رؤيتها في لحظة التعيين الحكومي، وهو ما اضطر معه العمراني إلى إخضاع تشكيلته لتعديلات.
ألح الملك على إدراج أسماء لها حمولة أمنية، وقال للعمراني لا نريد حكومة لها برنامج سياسي نريد فريق عمل لتدبير المرحلة، بل إن ملك البلاد لم يتردد في القول خلال تصريح تلفزيوني: «لقد وفقنا الله إلى اختيار عدد من الرجال ألفنا منهم حكومتنا، وتتوفر في هؤلاء الأفراد الذين آثرت عنهم مزايا القلب والعقل، كفايات وأهليات خليقة بأن تترجم ما نتمناه».
ضمت الحكومة الجنرال محمد أوفقير، الذي أصبح وزيرا للدفاع ورقي في غضون ذلك إلى رتبة ماجور عام للقوات المسلحة الملكية، وتم تقليص عدد الحقائب بسبب الأسماء التي فرضها القصر، وأصبح الوزير الأول كريم العمراني مكلفا في نفس الوقت بالتخطيط والشؤون الاقتصادية والمالية، بعد أن كان قد كلف بوزارة الاقتصاد قبل بضعة أشهر، كما تولى وزارة الداخلية أحمد بن بوشتى، وعين عبد اللطيف الفيلالي وزيرا للخارجية، بينما برز للمرة الأولى اسم الجنرال إدريس بنعمر كوزير للبريد، وأسندت الفلاحة إلى المعطي جوريو والأشغال العمومية إلى محمد البرنوصي، وضم العمراني نقابيا دكاليا نال بصعوبة موافقة القصر وهو محمد أرسلان الجديدي، الذي عين وزيرا للشغل والشؤون الاجتماعية والتنمية والرياضة، وعين عبد القادر الصحراوي الذي انشق عن الاتحاد الوطني، وزيرا للأنباء.
عشية تعيين الحكومة ألقى الملك خطابا تحدث فيه عن ضرورة إصلاح الوضع المائل، وأكد بأن الحكومة الجديدة لم تخضع لأي مشاورات حول البرنامج الذي تعتزم تنفيذه، باستثناء ما أقره الملك ضمن أجندة زمنية حددها في عام ونصف، لكنها المرة الأولى التي تتشكل فيها حكومة يعرف مسبقا أن مدة انتدابها ستكون محدودة وذات طابع انتقالي.
باحنيني يعزز حكومته بعساكر ستكون نهايته على يد أحدهم
بدأت المفاوضات لتشكيل حكومة أحمد باحنيني في نونبر 1963، في خضم تطورات سياسية أفرزت الصراع داخل البلاد إلى تيارات ومعسكرات، بسبب استمرار تداعيات الانشقاق الذي ضرب حزب الاستقلال في العمق. كانت التعليمات التي تلقاها باحنيني واضحة، «احذر من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قيادة وأطرا وأعضاء، فالحزب يستهدف النظام».
لم يكن حظ أحمد باحنيني كبيرا، وهو يتولى مسؤوليته كوزير أول للمرة الأولى، بعد أن كان مايسترو الجهاز التنفيذي يطلق عليه رئيس الحكومة أو رئيس الوزراء، ومصدر ذلك أن أول دستور مغربي لعام 1962 نص على أن يتولى قيادة الجهاز الحكومي وزير أول.
فهم «الحاج أحمد» تعليمات القصر جيدا، وقرر تعزيزها باجتهاداته، لذلك بادر لإشراك رجال أشداء معادين للاتحاد الوطني، فقرر منح الجنرال محمد أوفقير حقيبة وزارة الداخلية للمرة الأولى، وبذلك سيتعزز حضور العساكر في التركيبة على غرار البكاي وأحرضان والمذبوح، كما تم إبعاد أحمد رضا اكديرة كوزير للخارجية ليخلفه أحمد بنهيمة في المنصب، وسيصبح عبد الهادي بوطالب وزيرا للعدل بعد أن كان وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول، وسينضاف عسكري آخر إلى وزارة الدفاع في شخص الجنرال محمد أمزيان خلفا لعسكري سابق وهو المحجوبي أحرضان الذي أسندت له حقيبة وزارة الفلاحة، أي أن وزارة باحنيني ضمت أربع قيادات عسكرية عليا.
كان من الطبيعي أن تسقط هذه الحكومة التي خرجت من خيمة القصر مائلة، وووجهت بملتمس الرقابة، وبأحداث 1963، بعد أن فضل الاتحاد الوطني خيار المعارضة الذي بلغ ذروته، بعد تقديم ملتمس للإطاحة بالحكومة بعد مرور حوالي سبعة أشهر على تنصيبها.
نجا باحنيني من ملتمس الرقابة الذي وقعه نواب الحزب الاتحادي، لكن قدرا آخر كان في انتظاره في العاشر من يوليوز 1971، حين سقط صريعا برصاص العسكريين المتورطين في المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات، والغريب أن وزيرا سابقا في البريد، هو الجنرال محمد المذبوح، سيكون وراء مقتله.
اليازغي يقدم شيكا على بياض والأموي يفشل تناوب 1996
حينما غادر عبد الرحمان اليوسفي وهو وقتها الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي إلى مدينة «كان» الفرنسية غاضبا من تدخل إدريس البصري في استحقاقات سنة 1993، على الرغم من كل الضمانات التي قدمتها الإدارة الترابية والتي وقعت حينها ميثاق شرف بمعية الأحزاب السياسية لتكون المحطة نزيهة، خلا المجال لمحمد اليازغي، الذي أصبح عمليا هو الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي. لذلك لم يرفض الدعوة التي وجهت له من قبل إخوته في حزب الاستقلال للتداول في تناوب حكومي أعلن عنه الحسن الثاني، حيث سيبادر إلى اللقاء بمحمد الديوري. انتهى اللقاء بين الزعيمين إلى أن الاتحاد الاشتراكي مع هذا التناوب، إلى درجة أن اليازغي قال للديوري إن حزب القوات الشعبية مستعد ليضع أمام حزب الاستقلال شيكا على بياض، وإنه لا يجد مانعا في أن يكون امحمد بوستة هو الوزير الأول، لأول حكومة تناوب في المغرب الحديث.
ستصل المفاوضات بين الاتحاد والاستقلال مراحل جد متقدمة. وتفعيلا للشيك على البياض، الذي تحدث عنه اليازغي، تقرر أن يعقد اجتماع خاص جدا بمنزل امحمد بوستة، يخصص لوضع اللمسات الأخيرة لهذا التناوب الذي نادى به الحسن الثاني بحضور كبار الحزبين الرئيسيين في العملية.
تحلق الجميع حول مائدة غداء في بيت الوزير الأول المفترض امحمد بوستة. وانطلق الحديث حول عدد الحقائب وأسماء الوزراء الذين يقترحهم كل حزب. وعن الأحزاب التي يمكن أن تكمل هذه الحكومة من خارج أحزاب الكتلة، التي كان حزب التقدم والاشتراكية لم يلتحق بها بعد.
ظل الجميع ينتظر وصول محمد نوبير الأموي، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي. وفجأة سيشكل حضور ابن امزاب مفاجأة غير سارة للحاضرين. فبينما كان النقاش يدور حول طبيعة الحقائب الوزارية، سينتفض الأموي في وجه محمد الوفا، الاستقلالي الذي كان من أشد المتحمسين لهذه الحكومة لذلك سيؤدي ثمن هذا الحماس الزائد مستقبلا، ليقول له، ومن خلاله للحاضرين «عن أية حقائب تتحدثون»؟
كان جواب الوفا «أن هذا الجالس أمامك»، وكان يعني امحمد بوستة، «هو الوزير الأول المرتقب». رد الأموي بعنف. «إذا كان اسمك هو محمد الوفا، وهو مشتق من الوفاء، فليس من الوفاء أن نتداول في حكومة تناوب بدون حضور عبد الرحمان اليوسفي، الكاتب الأول الحقيقي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية».
تبادل المجتمعون نظرات الاستغراب مما حدث. ولم يتأخر اليازغي في مد يده إلى حقيبته الصغيرة ليخرج منها بيان اللجنة المركزية للحزب الذي يقر بقبول فكرة التناوب التي نادى بها الحسن الثاني، ويقرأ منها الفقرة التي تؤكد على ذلك. وكعادته، لم يتأخر رد الأموي ليقول لرفيقه في الحزب «إن بيان اللجنة المركزية مع مبدأ المشاركة، ولا يحدد تفاصيلها». انفض الاجتماع عاصفا بعد أن غادر الأموي، دون أن يتناول وجبة الغداء الذي كان سيصنع تناوب سنة 1993.
أما القصر الملكي، فسيصدر بعد ذلك بلاغا يقول فيه إن مفاوضات التناوب توقفت بعد أن رفضت أحزب الكتلة أن يحافظ إدريس البصري على حقيبة وزارة الداخلية في الحكومة الجديدة. وبعد ذلك سيقول امحمد بوستة، الوزير الأول للتناوب الذي لم يكتمل، في برنامج «وجه وحدث» الذي كانت تقدمه القناة الثانية، إنه لم يكن لقادة الكتلة أي اعتراض على إدريس البصري.
عبد الله إبراهيم يشترط إعادة ممتلكات الخطابي
قبل عبد الله إبراهيم منصب رئيس الحكومة حين عرض عليه، لكنه وضع مجموعة من الشروط على طاولة المفاوضات، ومنها تمتعه بصلاحيات كاملة للعمل في كافة القطاعات الوزارية، وإعادة ممتلكات عائلة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، وتسريع إيقاع جلاء القوات الأجنبية، وتحرير الاقتصاد الوطني.
وافق الملك محمد الخامس، وفي صباح يوم الأربعاء 24 دجنبر 1958 تم تنصيب الحكومة الجديدة برئاسة عبد الله إبراهيم، والتي ضمت شخصيات استقلالية من الجناح الذي ينتمي إليه عبد الرحيم بوعبيد، كالتهامي عمار والمعطي بوعبيد، وأسماء أخرى محايدة أو محسوبة على القصر. وقد كانت الأسماء التي وضعت فوق طاولات المفاوضات غير قابلة للنقاش، كأحمد رضا اكديرة، وأحمد الغزاوي، وإدريس المحمدي، وامحمد باحنيني وأحمد العلوي، بالإضافة إلى الجنرال الكتاني والكولونيل محمد أوفقير آنذاك. ومنذ الأيام الأولى لتعيين حكومة عبد الله إبراهيم، تشكلت الحكومة الموازية، وكانت مهمتها إسقاط حكومة إبراهيم، رغم أن هذا الأخير كشف عن خطة عمل وبدأت تحقق بعضا من أهدافها، قبل أن يتم إقبارها بتخطيط من أشخاص استمدوا قوتهم من الأمير مولاي الحسن حينها… ولم تعش حكومة عبد الله ابراهيم أكثر من 20 شهرا، على الرغم من أنها فتحت أورشا هامة.
والغريب أن صفة رئيس الحكومة، التي منحت لعبد الله ابراهيم، ستسقط مباشرة بعد سقوط هذه الحكومة لتحل محلها صفة الوزير الأول، قبل أن تعود في الدستور الجديد. لذلك كان سقوطها بداية عدد من الأزمات السياسية التي ستتواصل بعد وفاة السلطان محمد الخامس ووصول الملك الحسن الثاني إلى العرش.
جلسة خمرية للتفاوض حول رئاسة الحكومة
بعد المحاولة الانقلابية الثانية، قرر الملك الحسن الثاني الانفتاح على المعارضة، ودعا إلى اجتماع حضره عبد الرحيم بوعبيد وعلال الفاسي وعبد الله ابراهيم، فقال الأخير للملك: «لقد تركنا لك ثلاث وزارات لتختار من يكون على رأسها». غضب الملك لكنه كتم غيظه، وقال: «لنعد إلى المقترح الأول، أي أن يكون الوزير الأول من خارج الكتلة وأن يشارك الاتحاد والاستقلال بوزراء في الحكومة دون رئاستها».
هكذا رد الحسن الثاني على مقترح المعارضة، وجعل قيادتها تغادر القصر وهي لا تفهم سر الدعوة، وقال القيادي الاتحادي محمد الحبابي إن عبد الرحيم بوعبيد حاول تلطيف «الأجواء عندما خاطب الملك قائلا: أنت هو كل شيء في البلد».
ظل اسم الرئيس موضوع سجال سياسي بين الأقطاب، «لقد كان الحسن الثاني يعرف أن النقاش داخل الكتلة يصب في اتجاه أن يقود أحد هؤلاء الثلاثة الحكومة، وكنت قد اقترحت أنا عبد الرحيم بوعبيد، وهو الأمر الذي لم يعترض عليه علال الفاسي وبوبكر القادري، فيما اقترح الدويري أن يكون علال الفاسي هو من يتولى رئاسة الحكومة وقد وافقه بوستة الرأي، أما المحجوب بن الصديق فلم يكن يرى أحدا أحق بهذا المنصب غير عبد الله إبراهيم»، يضيف الجبابي الذي أكد أنه قبل المحاولة الانقلابية الجوية أرسل له الحسن الثاني موفدا عن القصر اسمه الدليمي لإقناعه، كما أرسل أوفقير لإقناع علال الفاسي بالتوافق على شخصية عبد الله إبراهيم. لكن زيارة الدليمي أخذت منحى آخر إذ استحوذ الحديث عن أوفقير كل المساحات الزمنية وبدا وكأن الدليمي يشك في نواياه الانقلابية، وعلى إيقاع جلسة خمرية انتزع موفد الملك موافقة الحبابي الذي قال في تصريحات صحفية إن الجلسة امتدت إلى ساعة متأخرة وكلما نفد مخزون «الويسكي» بعث الدليمي سائقه ليزوده بقنينات أخرى.
وفي السياق نفسه أخبر إدريس السلاوي، مستشار الحسن الثاني، عبد الرحيم بوعبيد بأنه اتفق مع محمد عبد الرزاق، الذي كان نائبا للمحجوب بن الصديق في الاتحاد المغربي للشغل، على أن يكون عبد الله إبراهيم وزيرا أول، أما الدويري وبوستة فلم يقبلا بغير تعيين شخصية استقلالية في منصب الوزير الأول.
«قبلنا على مضض مقترح الحسن الثاني بأن نكون مجرد أعضاء في حكومة هو الذي يختار من يرأسها، وأوفدنا علال الفاسي وبوبكر القادري إلى الديوان الملكي، حيث التقيا بكريم العمراني، الذي كان حينها وزيرا أول، ليصدمهما بأن الملك سمى الوزير الأول وهو بصدد تشكيل الحكومة. وفي 20 نونبر 1972، أعلن الحسن الثاني حكومة برئاسة صهره أحمد عصمان»، يقول الحبابي. وجلس عصمان على كرسي رئاسة الحكومة ست سنوات وثلاثة أشهر.
أشخاص رفض الحسن الثاني استوزارهم فشطب عليهم بالأحمر
حينما عاد قطار التناوب للدوران في 1998، نجح عبد الرحمان اليوسفي في فرض صيغة غير مسبوقة في عملية اختيار وزراء الحكومة والتي كانت من قبل تدبر من قبل الحسن الثاني وبعض أقرب المقربين له. مع حكومة التناوب، نجح اليوسفي في انتزاع سلطة اختيار وزراء حكومته بمعرفته الخاصة، شريطة أن يضع الأسماء المقترحة أمام نظر الملك، الذي تردد أنه كان يحمل قلما أحمر للتشطيب على أسماء وجد أنها لا تصلح لتدبير الشأن العام.
لقد رفض اليوسفي أن يشتغل رفقة أعضاء المكتب السياسي للحزب. ولم يكن له من مبرر غير المحافظة على الكثير من السرية في اختيار أسماء الوزراء المقترحين لهذه التجربة، خصوصا وأنه لأول مرة في تاريخ الحكومات المغربية، سيضطلع الوزير الأول على المقترح بعملية الاختيار.
ظلت جل المشاورات تتم أولا في قاعة المهدي بنبركة بداخل المقر المركزي للاتحاد بحي أكدال بالرباط، قبل أن يحولها إلى بيت أحمد لحليمي ثم بوزوبع، غير أن أكبر الاختيارات كانت بالطابق الخامس لجريدة الاتحاد الاشتراكي بزنقة الأمير عبد القادر بالدار البيضاء.
في هذه القاعة، استقبل اليوسفي كل زعماء الأحزاب المغربية سواء تلك التي شاركت في حكومة التناوب، أو تلك التي لم تشارك. كما استقبل كل الوزراء الأولين السابقين من عبد الله إبراهيم، إلى كريم العمراني، وعبد اللطيف الفيلالي، وعز الدين العراقي.
واشتغل اليوسفي أولا بوضع لائحة بأسماء الوزراء المقترحين للاستوزار حيث وصل عددهم إلى سبعين. ثم وضعهم أمام الحسن الثاني، الذي تردد أنه كان يحمل قلما أحمر لكي يشطب على أسماء رفض استوزارها، أو غير حقيبتها الوزارية. وكل رهانه هو أن يرسم ملامح حكومة تكون قادرة على تخليص المغرب من سكتته القلبية اقتصاديا وسياسيا.
من الأسماء التي طالها قلم الملك الراحل محمد الوفا، الذي كان متحمسا لحكومة تناوب 1996، إضافة إلى بعض الأسماء الاستقلالية، والتي حول اتجاهها إلى العمل الدبلوماسي، إضافة إلى محمد الأشعري، الذي ظل الحسن الثاني يستحضر قصيدته الشهيرة عن الدار البيضاء في الثمانينات والتي أثارت غضب الملك الراحل. ولولا الحفاظ على توازنات الاتحاد بالنظر إلى أن الأشعري كان يحسب على تيار اليازغي، لسقط من تشكيلة حكومة التناوب، على الرغم من أنه كان قد اشترى كل أكسسوارات الحقيبة الوزارية، واختار أن ينتقل إلى بيت اليازغي لكي يرافقه يوم تنصيب الحكومة.
أما اليازغي نفسه، فقد غير الحسن الثاني مساره الوزاري. فقد كان مرشحا لحقيبة الإعلام بالنظر إلى أنه اشتغل في الصحافة وكان رئيسا للنقابة الوطنية للصحافة المغربية، قبل أن يقترح الحسن الثاني أن تؤول هذه الحقيبة للعربي المساري، الذي لم يكن حزب الاستقلال قد اقترحه للاستوزار.
وكان مصير مولاي أحمد العراقي، الذي اقترحه عبد الرحمان اليوسفي وزيرا للصحة، حيث طلب منه إعداد تقرير شامل عن الوضع الصحي، هو وزارة البيئة، لأن الحسن الثاني اقترح هذه الحقيبة على نجل علال الفاسي عبد الواحد الفاسي الفهري.
حفل «العصير» لتوديع حكومة الفيلالي
يقول عبد العزيز المسيوي الذي شغل منصبا وزاريا في حكومة عبد اللطيف الفيلالي من سنة 1995 إلى سنة 1997، وبالضبط في شهر يوليوز عندما حل الملك الحكومة: «لقد استدعينا كحكومة إلى القصر الملكي في الصخيرات، ولما دخلنا بوابة القصر، وجدنا الطاولات منمقة وعليها كل أصناف وأنواع العصير والحلويات، وقد تساءل الجميع عن السبب في ذلك، وقد سألني أعضاء من الحكومة، وضمنهم سي سعيد أمسكان وأمين الدمناتي، عن سر هذه المأدبة، فقلت لهم اليوم هو النهاية».
تبين أن الملك الحسن الثاني اختار توديع حكومته بأنواع من العصير، يضيف عبد العزيز:
«دخلنا إلى قاعة فسيحة، وتناول الملك الحسن الثاني رحمه الله الكلمة، ولم يفتح باب الإعفاء إلا عندما خاطبه الأمين العام للحكومة عبد الصادق ربيع الذي قال للملك: «لدي يا جلالة الملك جدول أعمال يتضمن الزيادة في أسعار المواد الغذائية، فرد عليه الملك الحسن الثاني بالقول: «حرام عليك، هؤلاء الناس سيخرجون لخوض غمار الانتخابات فلا تعطيهم هدية مسمومة، اترك الزيادة في أسعار المواد الاستهلاكية إلى حين اجتياز الانتخابات، حينها شعرنا بأن دورنا كوزراء قد انتهى».
التفت الملك الحسن الثاني إلى إدريس العلوي المدغري، وزير الإعلام آنذاك، وقال له: «اشكر في بلاغك الحكومة وأخبر بمغادرتها». شعر الجميع بأن نهاية المطاف قد حانت.
رفع الملك الجلسة وغادر بسرعة، «لم يودعنا أو يسلم علينا، وخرجنا من القصر وكل واحد منا ينظر إلى الآخر، ويسأله، وقد فوجئ الجميع بالقرار، وغادرنا إلى بيوتنا نترقب ماذا سيجري». وبعد ثلاثة أيام عينت الحكومة الجديدة.
«وزير التكوين المهني آنذاك، من حزب الحركة الشعبية، أذكر أن إحدى عينيه كانت زجاجية. تاه الرجل الذي كان يقود سيارته عن بيته وظل يجوب طرقات الرباط، واستقر به الأمر أخيرا إلى التوقف قرب محطة القطار والمناداة على أحد أفراد أسرته ليأتي لنجدته لأنه ظل الطريق إلى بيته».
حكومة سيدنا قدر.. مفاوضات في ليلة القدر
ارتبط اسم مزيان بلفقيه بالقصر حيث عمل مستشارا للملكين الحسن الثاني ومحمد السادس، ووصف بـ «صانع النخب السياسية»، والحال أنه كان يحول التقنوقراط إلى رجال ونساء السياسة، خاصة من خريجي مدرسة القناطر والطرق الفرنسية.
في عام 2007، وجد عباس الفاسي، الأمين العام لحزب الاستقلال، والوزير الأول المعين، نفسه في وضع عسير لإخراج حكومته إلى حيز الوجود. وفجأة، في ليلة القدر من رمضان ذلك العام، ستتشكل الحكومة وينتهي صداع رأس الفاسي.
لكن ما حدث بالضبط في تلك الليلة، سيعكس حجم نفوذ الديوان الملكي في التدخل لتصميم الحكومات، فقد راج على نطاق واسع، أن مزيان بلفقيه ومحمد المعتصم، وهما حينها من مستشاري الملك، قد سلما لعباس الفاسي قائمة بوزراء حكومته، وكانت تلك ضربة كبيرة لمحاولات تقوية الوزير الأول السياسي، سيما أن عباس الفاسي بنفسه أعلن في تصريح مسرب عن اجتماع للجنة التنفيذية لحزب الاستقلال قائلا: «هذه هي لائحة الوزراء التي سلمت لي، ولا تسألوني عن التفاصيل».
اضطر المستشاران الملكيان للرد على الفاسي، في حوار مع جريدة «الأحداث المغربية» و»أوجوردوي لومارك» وفي «الصحراء المغربية».
«اقتصر دور المستشارين خلال مسلسل تشكيل الحكومة كما تم تكليفهما بذلك من طرف جلالة الملك، على دور المبلغ الأمين لدى الوزير الأول المعين بعيدا عن أية محاولة للتأثير أو التوجيه أو التقرير بشأن المرشحين أو الأحزاب».