كيف تنشأ المعرفة، أو بكلمة أدق كيف نبني المعرفة؟
والجواب كما كان تركيب الدماغ كذلك هي طبيعة المعرفة، أي بالأبعاد الثلاثية، أو لنقول إنها بالعمق والسطح، وهذه تحتاج إلى دورات، بحيث تخرج في النهاية نسيجا معرفيا، فكما تفعل النساء مع نسج الصوف بإبرتين، بحيث يخرج في النهاية الكنزة أو القميص من الصوف يغطي الصدر، فإن المعامل عملت الشيء نفسه من أجل إنتاج القماش، فثوب القماش هو خيطان متضافرة بالطول والعرض، ولو تمعن أحدنا في القماش للاحظ وجود مثل هذا التضافر من الخيطان. الآن لنتصور الشيء ذاته مع خيطان المعرفة ولله المثل الأعلى، وهذه هي الثقافة، فهي خيطان من معرفة موسوعية، وهذا هو الفرق بين الثقافة والاختصاص، فالطبيب مثلي لو بقي في حقل الطب لما أدرك العمق الفلسفي في الطب. ولكن اشتغالي بحقول معرفية أخرى جعلني أضع كتابي «حوار الطب والفلسفة»، أو «الوصايا العشر في الجراحة»، أو «التقدم العلمي والإيمان»، أو «العصر الجديد للطب»، فكلها جاءت من بركة الدراسات الموسوعية المعمقة. وكما كان الإنسان خليطا من الغرائز والعواطف والأفكار كذلك كان النسيج الفكري، فوجب رفده دوما بما يجعله في أبهى حلة. كذلك فإن الحياة ليست طبا وفيزياء فقط، بل هي تضافر لكم هائل من الأشياء. والقرآن يقول عن علم الله إنه عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ثم ينطلق في الوصف فيقول؛ وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين. وهنا نرى تباينات وانطلاقات معرفية منوعة، تنقل الفكر في سباحة من الخيال اللانهائي، دليلا على مصدر الكتاب. وفي هذا جاء شرح جميل ينصح بقراءته في ظلال القرآن عند شرح هذه الآية، وإدخال عنصر ميكانيكا الكم في مفهوم العقلية الغيبية والعقلية العلمية. وهو بحث يحتاج أن تكتب فيه مقالة مستقلة. ثم إن متعة العلم هي بهذا التشابك المعرفي، وأنا أتفهم من ملل الأطباء وأصحاب المهن من عملهم لفقدهم هذا العمق الموسوعي، ولذا جرت عادتي في الاجتماع بصاحب أي فرع معرفي أن أسأله عن فنه، فيتعجب ويسترسل، وكان قبل ذلك عييا، بل إنني أحرص على إنطاق كل العقول في المجلس، وتحرير الأتباع من سيطرة قوادهم، فينطلق لسانهم من عقال. وهو ما حدث معي في جلسة فكرية في مدينة بركان بالمغرب، عندما اجتمعنا مع رجل علم فاضل، ولكننا لو تركنا له الحبل على الغارب، لاستولى على البحث والحديث والمجلس، وهو مضرة له ولمن جلس له، كما أن من حسن الضيافة الاستماع إلى الضيف؛ فهذا من الكرم غير المباشر. وهذه أمور تحدث من غير قصد وبنية ممتازة سليمة. والرجل كما يقول الجاحظ عن أبي شمرة، إنه كان قد اعتاد على التحدث لقوم لا يناقشونه حتى فاجأه النظّام، فكان إذا تحدث كأنه آلة مسجلة، كلام يخرج من صدع صخرة، ذلك أن فلسفته كانت تقوم على أن الفكرة تؤثر بما فيها بدون استخدام مؤثرات الصوت وحركات الرأس واليدين ونبرة الصوت وقسمات الوجه. فلما بدأ النظام في نقاشه قفز من مجلسه وبدأ يخبط على فخذي النظام، والتلامذة مذهولون من تصرف الشيخ. وهناك قوم ليس عندهم قدرة الإصغاء، والاستفادة من الآخرين، فوجب إنطاق المجلس، وتحويل المجلس إلى نقاش جماعي مفيد، وكان درسا عمليا للجميع.
ومنه يجب تأسيس المعرفة بشكل شامل مؤسس بالعمق والسطح، فيجب تلقيح الدماغ كما هو في إدخال المواد الأساسية للجسم؛ وهي ست؛ من الماء والبروتينات والنشويات والدسم والأملاح والعناصر المعدنية والفيتامينات، ذلك أن الجسم معظمه ماء، وفي القرآن «وجعلنا من الماء كل شيء حي». أما البروتينات فهي لبناء العضلات، والدسم للشحم في الدماغ، والمعادن للدم، والكربوهيدرات للطاقة مثل السكر والخبز، هذا في العموم. أما الفيتامينات فهي عناصر بكميات جدا ضئيلة، ولكنها تمنح التوازن للجسم بفعالياته المختلفة، وهي أكثر من عشرة، ولسنا هنا في شرح درس طبي، أو محاضرة في البيولوجيا، ولكنه تسخير العلوم للعمق الفلسفي للأشياء، فهكذا بنيت الحياة. وهذا الموضوع شغل عقول فلاسفة اليونان قديما عن طبيعة العالم، ومما يتركب، فذهبت مذاهب بين أن أصل كل شيء هو الماء كما قال به (طاليس B.C 624 – 546)، أو أن أصل كل شيء هو الهواء على مذهب (أناكسامينيس B.C 585 – 528) وكلاهما عاش في القرن الخامس والسادس قبل الميلاد، أما (أناكسيماندر 546- 610 B.C) فقال إن هناك حقيقة أولية يتشكل منها كل شيء، ويعود كل شيء في النهاية إليها! أما فيثاغوراس فهو أبو الدقة الرياضية، وأن الكون هو فقط لغة أرقام علينا أن نستوعبها بما فيها الشعر والحب والموسيقى! ولكن تزلزل حين قال له تلميذه: فأين الدقة في الرقم (3.1414141) في العلاقة بين محيط الدائرة والقطر؟ ويقال إن هذا كلف التلميذ حياته! ومن قال بالعناصر الأربعة، أي أن الوجود وأي موجود هو في النهاية مزيج من أربعة عناصر هي الهواء والماء والتراب والنار، ولكن ديموقريطس قال بالمبدأ الذري فكان سباقا في رحلة العقل أكثر من ألفي سنة، حتى أثبت أوتو هان نظريته وضدها بإمكانية انشطار الذرة، ومنها جاءت الطاقة والسلاح النووي، هذا رزقنا ماله من نفاد. وذهب هرقليطس، صاحب مبدأ الصيرورة والحرب، أن النار هي الشيء الوحيد الذي لا يتغير، وعليه فقد ألقى نفسه في النهاية في بركان إتنا وأنهى حياته بشكل درامي، ليثبت آراءه بهذه الطريقة الفاجعة.
نافذة:
كما كان الإنسان خليطا من الغرائز والعواطف والأفكار كذلك كان النسيج الفكري فوجب رفده دوما بما يجعله في أبهى حلة