طبيعة الكون الذي نعيش فيه
بقلم: خالص جلبي
الكون مبني من مادة وحياة، في تفاعل بينهما، فمن الميت يخرج الحي، والحي بدوره ينقلب مع الوقت إلى ميت (يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي). هذه الحافة أو العتبة من تحول المادة إلى حياة أعيت العلماء وما زالت، وربما يمثل الفيروس أحد أكبر تجليات انقلاب المادة إلى حياة وبالعكس، فتحت ضوء المجاهر الإلكترونية المكبرة عشرات الآلاف من المرات، نحدق في هذا الفيروس المدهش، وهو يلبس ساعةً معطف الأحياء فيتجول؛ فيضرب أو يهرب، أو يقلب هيئته مثل لاعبي السيرك في احتفالات تنكرية لانهاية لها، بين لص مستخف بالليل، أو متسول سارب بالنهار، أو غني مستكبر، وتارة أخرى يهمد فيصبح في مثل هيئة الأفعى في السبات الشتوي، أو يتحول إلى بلورات مثل الملح والسكر.
الفيروس يقفز من عتبة الموت إلى الحياة وبالعكس
الفيروس يقفز عتبة الموت إلى الحياة فيأخذ أهم سماتها من التكاثر والحركة والتغير، أو ينقلب إلى المادة الميتة فيتبلور مثل أي معدن ميت! يعتبر الفيروس أدق كائن حي، وأشده عنادا، وأكثره تغييرا في طبيعته، فحين أفلحت اللقاحات والمعالجات ضد البكتيريا، التي هي طبقة أعلى منه في سلم الكائنات، فشلت عنده، مع أنه أصغر حجما، ولكن أخبث وأدهى وأمر.
أين بدأت الحياة على ظهر الأرض؟ في أي مكان؟ متى بدأت؟ كيف تطورت؟ متى ظهر الإنسان؟ متى بدأت الثقافة؟
مؤتمر (أورليان ORLEAN) حول فرضيات نشأة الحياة
في فرنسا في يوليوز من صيف عام 1996 م، احتشدت مظاهرة ضخمة من العلماء، تضم اختصاصات شتى؛ من البيولوجيين، وعلماء الأحياء الدقيقة (الميكروبولوجيين) وعلماء المناخ، وطبقات الأرض، والأنثروبولوجيين، والأركيولوجيين، والتاريخ القديم، بل والفلسفة والأديان المقارنة، كلها تبحث في محاولة أعمق لفهم كيفية نشأة الحياة على ظهر الأرض.
وهناك اتجاهان فرضا نفسيهما منذ فترة طويلة، حول تفسير سيناريو وجود الحياة وتشكلها، ويمثلهما اثنان من حملة جائزة نوبل للعلوم، الأول بلجيكي هو (كريستيان دو دوف CHRISTIAN DE DUVE)، والثاني فرنسي هو (جاك مونو JACQUES MONOD) كل منهما يحتل قطبا مواجها للآخر، وكل منهما يمثل تيارا رئيسيا يسود الأجواء العلمية حتى الآن.
يقول الأول بفكرة (ضرورة وحتمية نشأة الحياة)، فالكون مبرمج نحو هدف إفراز الحياة والذكاء. والثاني بأن وجودنا يرجع إلى محض صدفة سعيدة لا أكثر؛ فلو أعدنا شريط الحياة السينمائي لبدايته، ثم أعدنا عرضه، لن نتوقع ماذا سنرى فالمفاجأة أكبر من كل تخيل. وبرز تيار ثالث مختلف عنهما دشنه عالم أمريكي باليونتولوجي هو (ستيفان جي جود STEPHAN GAY GOULD) توصل فيه إلى أمرين:
ـ فكرة الانفجار البيولوجي العظيم (BIOLOGICAL BIG BANG THEORY) في ما يشبه الموازاة لفكرة الانفجار الكوسمولوجي العظيم. وفكرة (البرمجة وضرورة نشأة الحياة من خلال قناة تلعب فيها الصدفة دورا هامشيا)، وهو يقترب بذلك من المبدأ الإنساني (HUMAN PRINCIPLE)، الذي يرى أن الكون خلق كرحم لولادة الإنسان، فهو معد لاستقباله، ويرى (جود) أن هناك إمكانية حدوثه في أماكن أخرى خارج نطاق الكرة الأرضية.
نظرية الضرورة (NECESSITY)
يرى هذا الفريق الذي يمثله البلجيكي (كريستيان دو دوف) أن الكون يجب أن تتشكل فيه الحياة كأمر لازب لا محيص عنه ولا محيد، وفق قوانينه الخاصة، فالكون يمشي من الأبسط إلى المعقد، ومن المادة إلى الحياة، (ومن الحياة إلى الروح في النشأة الأخرى)، ومن الكائنات وحيدة الخلية إلى الكائنات عديدة الخلايا، ومن الكائنات العادية إلى الذكاء الإنساني، في رحلة لا تعرف التوقف أو الاستقالة، الحيد أو الكلالة. إذا لم توجد الحياة على وجه الأرض فيجب أن توجد في مكان ثان، وهذا يعني أن بقايا الحياة التي اكتشفت في المريخ هي تحصيل حاصل، وليس فيها أي ضرب من المفاجأة. وعندما توجد الظروف المواتية فإن الحياة تتخلق، وفق قوانين محكمة تسيطر على الوجود، وهي تدفع بالحياة من رحمها لتظهر بشكل أو آخر. وتنبني على هذه الفكرة عدة أفكار لاحقة: فالأرض ليست المحطة النهائية للحياة، وشكل الحياة على الأرض ليس أيضا الشكل النهائي، كما أن الحياة على الأرض نفسها ليست خاتمة المطاف ونهاية المشوار؛ فهذه ثلاث أفكار خطيرة تأخذ بعضها برقاب بعض. ويمكن أن توجد الحياة في كواكب أخرى بكل بساطة، طالما كانت الحياة أشد مكرا وأمضى باعا في التشكل، ويمكن أن توجد أشكال أخرى من الحياة. كما اقترح كارل ساغان أنه لا يشترط أن تكون من أشكالنا التي تعتمد الماء والكربون، بل يمكن أن تستخدم مذيبا آخر غير الماء مثل حمض الفلور، ولكنه ـ على حد تعبير ساغان ـ يميل بشدة إلى الشكل الأرضي كشكل مقبول للحياة (وجعلنا من الماء كل شيء حي)، كما أن أشكالنا نفسها ليست نهائية باتجاهين، في ما مضى وما سيأتي؛ ورحلة الحياة لا تعرف التوقف أو الاستراحة، ويزيد في الخلق ما يشاء … ويخلق ما لا تعلمون… وخلقكم أطوارا…. ولتركبن طبقا عن طبق.
أشكالنا قد يهاجمها التغير، كما أن هناك أشكالا أخرى من الكائنات العجيبة ظهرت على وجه البسيطة وانقرضت، وليس نموذج الديناصورات العملاقة التي اختفت من وجه البسيطة قبل 65 مليون سنة، أو حتى آخر شكل إنساني من نموذج (إنسان نياندرتال NEANDERTAL) الذي عاش وعمر الأرض حتى قبل 30 ألف سنة، واجتمع أجدادنا به واختفى بالكلية، ولا يستبعد أن يكون أجدادنا قد اشتبكوا معه واستأصلوه من الوجود. ولعل كلمة الغول الموجودة في كل التراث الإنساني تمثل تعبيرا عن بقايا ذلك الإنسان الآخر، الذي قضينا عليه واستأصلنا شأفته، وربما كان من (الكانيباليزم Cannibalism) من صنف أكلة لحوم البشر، فكان يفترس أطفالنا لا ندري. فالكون يقوم على التنافس، وليس الحيوانات فقط هي التي طورت مخالبها وأسنانها ومناقيرها وقرونها، فالإنسان فاق الجميع في الفتك والقتل والإبادة، وعظة التاريخ في هذا مخيفة مروعة.
نظرية المصادفة (ACCIDENTAL)
ويمثل هذه النظرية (جاك مونود)، حيث يعتبر أن الحياة تعود إلى محض صدفة سعيدة لا أكثر، فليس هناك في الحياة ما يفترض ويجبر ويدفع باتجاه حياة من نوع خاص، فلو أخذنا شريط الحياة وحاولنا ـ بفرض خيالي ـ أن نلفه إلى الخلف، ثم ندفع الحياة مرة أخرى للتشكل، فليس من الضروري أن تتدافع موجات الحياة فتخرج نفس ما أخرجت حتى الآن، وقد تمضي بسياق مختلف تماما، ولعل الكائنات العجيبة التي نصادفها في التاريخ الطبيعي تروي لنا تجارب ومصادفات وأشكال تعود إلى محض الصدفة في تشكلها، فالطبيعة كانت تعمل بدون توقف بتجارب على إنتاج أشكال لانهائية من الحياة، مثل الحيوان الزاحف (فيفاكسيا WIWAXIA) حيث بقيت بصماته على الحجارة تروي لنا قصة حيوان قميء مثل الخرشوف بفم كبير وأذرع اصطياد، أو الحيوان الآخر من نوع (أوبابينا OPABINA) مخلوق بخمس عيون منتصبة وخرطوم شفاط ينتهي بمقص حاد، كأنها حيوانات من كوكب آخر، أو استعراض مدهش تقوم به الطبيعة للخلاب والأسطوري والرائع والعجيب، في معرض تتكاثر فيه هذه الكائنات إلى أجل مسمى. كان العلم حتى فترة قصيرة يميل إلى الأخذ بهذه النظرية باعتبارها تُشَكل تفردا للإنسان، حتى كانت صدمة حجر المريخ.
صدمة حجر المريخ والترجيح الجديد
والجديد الذي جاء به حجر المريخ هو إعادة ترجيح نظرية الضرورة، والعلماء الآن يعكفون على تجارب غاية في الإثارة، ففي جامعة كاليفورنيا في سان دييغو يعكف العلماء على تقليد تشكل الجزيئات الأولية، لبنات الوجود الأولى، التي بنيت منها الحياة في مستوى الكيمياء، في حين يعكف العالم (ألبرت إيشنموزر ALBERT ESCHENMOSER) على تجربة إنتاج الأحماض النووية، تحت تأثير مضخة كمبيوتر موجهة للعمل، على أمل دفعها لتضاعف نفسها فتنتج مثيلاتها، فنكون قد أمسكنا بأعقد مفاتيح الطبيعة، وكل هذا يصنع اليوم بجرأة وإصرار وحماس، باعتبار أن مفتاح التحول إلى الحياة هو تشكل الأحماض النووية، أما الآخر السويسري في زيوريخ (بيير لويجي لويزي PIER LUIGI LUISI) من علماء الكيمياء الحيوية، فهو عاكف على تجارب مذهلة حول إنتاج أغلفة الخلايا من المواد الشحمية، التي تتكور بملامستها الماء، فتخلق غلافا حافظا للمادة الوراثية، واجتماع المادة الوراثية مع الأغلفة الشحمية يقود إلى إنتاج خلية صناعيا، وتجاوز المادة الرمادية بين الموت والحياة.
إن الخبير الأمريكي في علم بيولوجيا الشواذ (فرانك دريك FRANK DRAKE) يرى أن النماذج الإرشادية (PARADIGMES) في فهمنا لكيفية نشأة الحياة تعاني من انقلاب كامل، كما ذهب إلى ذلك صاحب كتاب (بنية الثورات العلمية) طوماس كون، فعندما يدخل العلم في نفق استعصاء أمام ظاهرة بعينها، يحدث تراكم نوعي مفاجئ في انقلاب المفاهيم تفسر ما مر وتضم الجديد المحير إلى أحشائها، بانتظار قلبة أخرى وهكذا.
تجارب (لويزي LUISI) لإنتاج الخلايا
قام (بيير لويجي لويزي) بتجارب سباقة طليعية (PIONER) لاختراق حقل معرفي جديد، فعمد تحت المجهر إلى وضع أسلاك في غاية النحافة، بأدق من أرفع شعرة، ثم عمد فعلق على (حبل الغسيل) هذا المجهري قطرات من الشحم، الذي ينبض تحت وزنه المعلق في الفضاء، ثم وبإبرة نحيفة جدا، حقنَ مقدار أجزاء من المليار من الغرام من البروتينات في هذه البالونة الشحمية، فحصل الذي توقعه؛ فهو من خبرته أن دفع الشحم بتماس الماء يجعله يتكور كالجيب المنفوخ، وهنا عندما زاد انتفاخ البالونة بدأت في الانقسام ما يشبه الانشطار الذري بدون توقف، فامتلأت قارورة الاختبار بكريات شحمية لانهاية لها، وهذا الشيء حصل بالرتابة نفسها، عندما حقن كرة الشحم هذه ببروتينات نواة الخلية، أي الحامض النووي (المادة الوراثية). ويفرك يديه العالم السويسري فرحا بما وصل إليه ويقول: «أمامنا الآن وضع المادة الجينية في حوض مع كرات الشحم ثم علينا الانتظار، فعندما يقتحم الحامض النووي الغلاف الشحمي، ويتولى القيادة (الكوماندو) داخل الغلاف، يكون عمليا قد بدأت الخلية الأولى في التشكل، التي ستضاعف مادتها وتصبح خليتين وهكذا، ويكون دينامو (موتور) الحياة قد أصبح طوع بناننا بهذه الكيفية». ولكن يعقب العالم السويسري بتواضع وحذر لأنه يعرف دهاء الحياة وتملصها من التفسيرات الدوغمائية فيقول: «ولكن هل هذه هي الحياة؟ في تقديري: لا….. فليست هناك عتبة حادة بين الموت والحياة»، ما يسميها العلماء المنطقة الرمادية، بل هناك تدرج في الخلق وطورا بعد طور وطبقا عن طبق.