حسن البصري
لا توجد مهمة في القصر تتطلب التكتم وحفظ أسرار الأذواق الغذائية أكثر من مهمة «طباخ الملك»، لذا أصبح مصطلح «المطبخ الداخلي» عنوانا للأسرار. من هذا المنطلق يحمل الطباخ عبء التكتم أولا، وهم فهم الأذواق وتبعات أي هفوة حتى ولو تعلقت بمقادير زائدة. لكن دوره يتجاوز ذلك بكثير، إذ يتحول إلى سفير من خلال ترويج وجبات محلية لضيوف القصر الأجانب.
صحيح أن طباخ القصر يخضع أكثر من غيره لمراقبة صارمة أمنية تارة وصحية تارة أخرى، لكن عنصر الثقة هو الذي يمنحه هامشا أكبر للإبداع، دون أن يتجاوز الخطوط المسموح بها داخل مطبخ لا ينتج الوجبات فقط، بل يساهم في تيسير ابتلاع القرارات السياسية وانسيابها بكل اللذة المأمولة.
يتبادل طباخو القصور بعض الأسرار المتعلقة بعادات الرؤساء الغذائية، كالأطباق التي لا يحبها الضيف الزعيم الفلاني وتلك التي يطلبها ضيف آخر، بل يتداولون في ما بينهم خفايا مطبخ ليس ككل المطابخ. وهم يعملون بمبدأ مهني ثابت: «السياسة تقسم الزعماء، لكن مأدبة جيدة تجمعهم».
في هذا الملف سنقتحم مطبخ القصر، ونتوقف عند عالم تلفه الأسرار من خلال ملوك وسلاطين كان لهم ولع خاص بفنون الطبخ، لم يترددوا في ولوج المطبخ وتفقد أحواله ومناقشة الطباخين في أدق تخصصاتهم. كما سنسلط الضوء على بعض الوقائع الطريفة في محيط يهتم بالذوق، أبطاله ملوك وأمراء وطباخون، ونستعرض بعض الحكايات التي كان مجرد تسريبها في زمن الحسن الثاني، إدانة بإفشاء أسرار الدولة.
الكلاوي يهدي طباخه لمحمد الخامس
حلت عائلة النكير بمدينة مراكش في بداية القرن الماضي، قادمة من تافيلالت. اشتهر عمر النكير الأب بأطباقه الشهية، خاصة إتقانه لبعض الأطباق المراكشية كـ«الطنجية»، حينها عمل الباشا التهامي الكلاوي على استقطابه وضمه إلى طباخيه، مع تكليفه بمرافقة هذا الأخير لنزهات الصيد، التي كان يقوم بها الباشا صحبة الفرنسيين للغابات المجاورة قصد صيد الطرائد.
نسج التهامي علاقات عمودية وأفقية مع كثير من رجال السياسة والفن والثقافة والرياضة، وكان قصره يعرف جلبة شبه يومية، إذ لا يمر نجم في سماء مراكش دون أن يستضيفه التهامي ويكرم وفادته. لقد كانت للرجل شبكة علاقات واسعة أشبه بالموزاييك الإنساني، على حد تعبير المؤرخ الإسباني رامير سانتا ماريا، الذي قال عن الكلاوي إن «كرم الضيوف الأكابر يسكنه»، فأقام في قصره موائد عديدة لشخصيات من كل العوالم، أكثرها ترددا وينستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، الذي تبادل معه الزيارات وعاش معه حلو ومر السياسة، وكارول الثاني، ولي عهد رومانيا، والجنرال دوغول، وشارلي شابلن، وعدد كبير من ضيوف مراكش، الذين كان يجد متعة في استضافتهم حول موائده.
يقول عبد الصادق الكلاوي، في كتابه عن والده التهامي، إن «التفنن في الوجبات الغذائية يصل ذروته عند الباشا، صحيح أنه في الضيافات الكبرى التي قد تبلغ المائة شخص يسهر على تشكيل مضامين المائدة بحرص كبير أيضا، غير أن جودة ورفعة العشاءات الصغرى تكون أكبر». حين يستضيف الكلاوي ضيوفا من العيار الثقيل، فإنه يريد أن يسمع تنويها بالوجبة، ويتفنن في شد الإعجاب بالطبق، وبين الفينة والأخرى يقدم ابتكارا غذائيا لإحدى طبخاته، «وحين يغدو الباشا معرضا للمديح والإطراء من الجميع، ينادي على الطباخة عائشة والطباخ النكير ويجازيهما أمام المتحلقين حول المائدة، وهما يحنيان رأسيهما حشمة في حضرة الباشا».
لكن الأهم عند التهامي هو حديث الأكل، إذ غالبا ما كان يعالج العديد من القضايا أثناء تناول الوجبات الغذائية، وهو ما أسر به لأبنائه، حين يردد على مسامعهم: «أنجح المفاوضات تتم حول مائدة الأكل، وليس في صالونات المؤتمرات».
كان النكير الذي استقدمه التهامي من محل لبيع الوجبات بالقرب من ساحة جامع الفنا، من أبرز الطباخين في قصر الكلاوي، فأحاله هذا الأخير على محمد الخامس، ليشتغل طباخا لدى المغفور له، وسيستمر على هذه الحال في عهد الحسن الثاني، إلى أن ضم ابنه مصطفى إلى طاقم مطبخ القصر، بعد أن بدأت الشيخوخة ومظاهر التعب والمرض تتسلل إلى جسده بحكم سنه.
الطباخ النكير: الحسن الثاني كان عاشقا لكسكس «سبع خضاري»
لم يكن للملك الحسن الثاني طباخ وحيد، ولم يكن لمطبخ الملك تنظيم يعتمد على شخص واحد، لكن مصطفى النكير كان واحدا من أبرز الوجوه التي وضعت بصمتها على مائدة ملك ملحاح، حين يتعلق الأمر بالمائدة.
ينحدر مصطفى من مدينة مراكش، وكان صديقا لمؤنس الحسن الثاني، ابن مراكش محمد بينبين، الذي سهل له دخول القصر والإشراف على جزء من وجبات الملك، حيث كانت أولى خطواته من قصر حدائق أكدال بمراكش، قبل أن تتسع رقعة مسؤولياته. بل إن الحسن الثاني دعا النكير إلى تنظيم ساحة مصغرة لساحة جامع الفنا في قصر مراكش، بكل ما تحمله من محطات لتخصصات غذائية، فضلا عن فقرات للفرجة، ويستدعى لها أبرز نجوم ساحة المدينة التاريخية.
أصبح النكير طباخا رئيسيا في الإقامة الشتوية للملك بمدينة مراكش، بعدما رحل طباخ أساسي، وابتداء من سنة 1983 شرع النكير في مهامه كعنصر في المطبخ المغربي للقصر، لكن البداية اعترتها بعض الصعوبات، إلا أن مصطفى يصر على دخوله مطبخ القصر قبل هذا التاريخ، وتحديدا بعد انقلاب الصخيرات.
«كان الملك قد أوصاني بأن أحافظ له على مخ كبش عيد الأضحى، لكنني التحقت بعائلتي لقضاء العيد تاركا الوصية لمساعدي، الذي لم يلتزم بالتعليمات، واكتفى بوضع رأس الخروف على مائدة الملك خاليا من قطعة المخ»، يحكي محمد النكير عن موقف لا ينساه، مضيفا أن الحسن الثاني كان مفتونا بأكل لسان الخروف والأذنين، وأنه لم يكن يتردد في التعبير عن ملاحظاته وانتقاداته للطباخين مباشرة بعد أخذ وجباته، سلبا وإيجابا، فضلا عن افتتانه بالكسكس «سبع خضاري».
يؤكد الطباخ على ملاحظات الملك، التي لا يتردد في قولها أمام ضيوفه، ويتذكر أنه سبق أن وضع خروفا مشويا على مائدة الحسن الثاني، وبدأ الخادم في تقطيعه إلى قطع ليضعها على أطباق ضيوف الملك، فما كان من الملك بعد إنهاء الوجبة إلا أن توجه إلى النكير لينصحه بتقطيع الخروف مباشرة بعد شيه بالمنشار الكهربائي، وإعادة شيه ليتجمع قليلا، فيسهل تقطيعه أمام الضيوف تلافيا لتطاير بعض الأجزاء الصغرى على لباس الضيوف.
حتى في سفرياته، فإن الملك كان يصر على أن يرافقه طاقم المطبخ الشعبي، بل إن الوجبات التقليدية ظلت حاضرة في رحلات الصيد، حيث يحرص على تفقد الأكلات قبل أن توضع على الموائد.
أحمد بنهيمة.. طباخ للقصر بتخصص أسماك وفواكه البحر
يبدو أن التخصص كان العنوان الأبرز داخل محيط مطبخ القصر الملكي، فمصطفى النكير المراكشي هو الطباخ المفضل لدى الملك الراحل الحسن الثاني، كلما عشق المشوي والرؤوس المبخرة والطنجية التي تبقى تخصصا مراكشيا صرفا. كما كان الملك يحرص على أن تكون هذه الوجبات المحلية حاضرة على موائد ضيوفه، لكن الملك الحسن الثاني لا يستسيغ أكل السمك إلا من يد الطباخ المسفيوي أحمد بنهيمة.
خلافا للطباخ المراكشي، فإن الطباخ العبدي ظل بعيدا عن الأضواء، على الرغم من علاقته العائلية بأسرة بنهيمة التي أنجبت وزيرين وسفيرا، وهو من مواليد حاضرة عبدة سنة 1927، وعرف في مسقط رأسه بالمدينة القديمة لآسفي بلقب «ولد المحتسب»، عاش طفولته بين المسيد في درب القوس والبحر، حيث يشهد له رفاقه بعشقه لصيد الأسماك وطهيها.
تقول بعض الروايات إن محمد بنهيمة الوزير كان وراء إلحاق ابن عمومته بمطبخ القصر، وهو من اقترحه على الحسن الثاني، بينما ذهب البعض إلى أن هذا الأخير أعجب بطبق سمك أعده الطباخ المسفيوي، فسأل عن الأنامل التي أعدته، فكان أول لقاء بين الملك والطباخ الذي سينضم إلى طاقم مطبخ القصر، حيث سيعهد إليه بالوجبات البحرية، أما الرواية الأكثر مصداقية فهي التي تؤكد على دور ابن آسفي البديع الكراوي، المشرف السابق على أمن القصر وسفريات الحسن الثاني، والذي كان وراء إدخاله بوابة القصر.
ومن الطرائف التي تروى عنه أن الملك الحسن الثاني أعجب ذات مرة بأكلة السمك التي أعدها أحمد بنهيمة، حين كان على متن السفينة المغربية مراكش التي يقودها أحد أبناء مدينة آسفي المدعو أبو السرور، ما جعل الملك ينوه بالقائد وبالطباخ.
توفي أحمد بنهيمة سنة 1994، بعد حياة حافلة بالعطاء، مات وهو يحمل الكثير من الوقائع التي تستحق أن تروى.
محمد الصقيلي.. الطباخ الدبلوماسي
يختلف محمد الصقيلي عن باقي الطباخين الذين تمكنوا من خيوط الحرفة عن طريق الموهبة والممارسة، فقد درس فنون الطبخ في أكبر معاهد الولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن ينفتح على مدارس الطبخ العالمي ويصبح ملما بأنواع الأطباق العالمية. ثم ينتهي به المطاف في مراكش، حيث أضحى صاحب أشهر مطاعم المغرب «لالة الياقوت»، المصنف عالميا من أشهر المطاعم والذي تردد عليه الحسن الثاني وضيوفه، حين يفضل كسر روتين الأكل في موائد القصر. يسمى بالطباخ الدبلوماسي، لاشتغاله في وزارة الخارجية خلال عهد امحمد بوستة، الذي يقتسم معه الانتماء لمراكش.
نجح الصقيلي في اختيار أفضل الوجبات الغذائية التي اعتاد تقديمها في بلاط الملوك، واعتاد أصدقاء الملك الراحل الحسن الثاني على الذهاب إلى مطعم الصقيلي، لذلك سموه بطباخ الملك. لكن وعلى الرغم من تكوينه في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن مطبخ هذا المطعم ظل يقدم أطباقا مغربية أيضا على غرار «لبريوات» و«التكتوكة» و«السفوف» وغيرها من الأطباق.
وكشف محمد الصقيلي، في حوار صحفي عن سر وصفه بطباخ البلاط، وقال: «لعل ما يميز هذا المطعم هو الاستقبال الجميل الذي يحظى به زوار المطعم، حيث يتم استقبالك بالشاي المغربي المنعنع وأنت تستمع إلى موسيقى مغربية أصيلة، في هدوء تام يضفي عليه صوت النافورة بقلب المدينة القديمة سكينة لا تخطر على بال، ثم سرعان ما يقدمون لك أطباق مشكلة من المقبلات المغربية». ويضيف محمد الصقيلي أنه كان يراعي ذوق الملك الحسن الثاني، الذي يصر على أن يتضمن الطبق أحسن الخضروات والفواكه الطازجة، مع حضور «السفرجل»، والكسكس بسبع خضر، قبل أن يتوج بالـ«البسطيلة الفاسية».
الملك محمد السادس يستمتع بطريقة «غوكشيا» في رش الملح
نشر الطاهي التركي الشهير «نصرت غوكشيا»، صورة جمعته بالملك محمد السادس على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام»، حين زار العاهل المغربي مطعم نصرت في مدينة دبي بالإمارات العربية المتحدة، وكتب عليها: «شكرا للملك محمد السادس الذي زارني اليوم».
وعبر نصرت عن امتنانه للملك، واعتبر الزيارة تزكية للمكانة التي يحظى بها المطعم لدى كبار زعماء العالم وكذا مشاهير السياسة والفن والرياضة. كما حرص الطباخ التركي على تقديم وجبات تركية على شرف الضيف الاستثنائي، وقام بوضع الملح بطريقته الشهيرة، التي مكنته من نيل لقب «حبيب الملح»، فضلا عن طريقته المميزة في تقطيع اللحوم وإعدادها، وبالأخص طريقته الغريبة في رش الملح، التي صارت حركة يقلدها الكثيرون.
وكشف «الشيف» الشهير عن قائمة الأطعمة التي يحضرها وسلسلة مطاعمه عبر العالم، وظهر العاهل المغربي بإطلالة غير رسمية مرتديا «تيشيرت» أسود اللون، مع سروال مخطط باللون الأبيض والأسود، ونظارة شمسية، فيما ظهر الطاهي التركي بإطلالته المعروفة بقميصه الأبيض والنظارة السوداء الدائرية.
وقال الطاهي التركي الشهير «نصرت غوكيتشا»، إن أكلاته تجتذب الكثير من مشاهير العالم، من نجوم السينما والفن والرياضة، وليس المشاهير فقط، بل أيضا ملوك ورؤساء العديد من الدول، فبعد استضافته للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بن الحسين وزوجته الملكة رانيا العبد الله، حيث التقطا برفقته عددا من الصور، واستضافته لكل من الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، ومحمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبو ظبي، والوليد بن طلال، بالإضافة إلى النجم السينمائي العالمي ليوناردو ديكابريو، وعدد من نجوم الرياضة مثل سامي الجابر، نجم الكرة السعودية السابق، والألماني مسعود أوزيل، لاعب نادي أرسنال الإنجليزي، وأسطورة كرة المضرب السويسري روجر فيدرير، حتى أن النجمة العالمية «ريهانا» كانت قد ظهرت وهي ترتدي قميصا عليه صورة غوكشيا بحركته الشهيرة، مكتوب عليه «حبيب الملح».
عندما استقطب القصر طباخي فندق «مرحبا»
يعتبر فندق «مرحبا» أول منشأة فندقية في الجديدة، ويرجع تاريخ بنائها لسنة 1952، بتصميم من مهندس إسباني اختار له شكل سفينة لقربه من شاطئ البحر أولا، ولأن الجهة المالكة هي شركة «باكي» الفرنسية، التي كانت تمتلك سفنا تجارية ترسو بميناء الجديدة، ليكون أول مؤسسة فندقية عصرية بالجديدة تليق بأعيانها وضيوفها والوافدين الأجانب عليها.
وبعد تدشينه قام الملك محمد الخامس بزيارة هذه المعلمة، وظل يتوقف في هذا الفندق لتناول وجبات الأسماك وهو في طريقه إلى قصره في الواليدية. وفي 1963، أمضى فيه الملك الراحل الحسن الثاني ليلة وهو في طريقه إلى مدينة آسفي، ويقال إن الملك تلقى مكالمة حول تسرب جنود جزائريين إلى التراب المغربي وهو في فندق «مرحبا» عام 1963، ليعود إلى الرباط على وجه السرعة.
يقول عبد الله غيتومي، الباحث في تاريخ الجديدة، إن الحسن الثاني أعجب كثيرا بطريقة طهي الأطعمة التي قدمت له أثناء مقامه بـ«مرحبا»، وأمر بالتعرف على «الشيف» الذي برعت يداه في حضرة صاحب الملك، وهو الطباخ السوسي لحسن الجوهري، ابن تافراوت، ومعه طاقم من الطباخين المهرة ضمنهم، سعيد الشنيوي، الذين أمر الملك بنقلهم جميعا للاشتغال بمختلف القصور الملكية.
ويضيف غيتومي أن «الشيف لحسن الجوهري هو من تولى الإشراف على كل الأكلات التي قدمت إلى المدعوين لحفل زفاف الأمير مولاي عبد الله في 1964، كما أن سعيد الشنيوي كان طباخا للملك محمد السادس بقصر سلا، لما كان وليا للعهد».
الآن وقد أغلق «مرحبا» أبوابه بصفة نهائية ودخلت مرحلة تصفيته ردهات المحاكم، وظلت تراوح مكانها إلى حد الآن، وامتدت له أيادي العابثين الذين سرقوا كل تجهيزاته وحولوه إلى خراب وأطلال شاهدة على الزمن الجميل للجديدة، فإن جيل الخمسينات ما زال يذكر أمهر طباخي هذا الفندق الذين غابت أخبارهم.
رحال السولامي.. قصة كفاح ممون حفلات القصر
في بداية الأربعينات حل الفتى رحال بالدار البيضاء قادما من العمق الرحماني، وتحديدا منطقة سيدي رحال. بدأ عمله مساعدا في فرن بالمدينة وبائعا للحلويات، استقل عن الفرن وبدأ بيع الحلوى والحليب في دكان بعرصة فتيح في المدينة القديمة.
لم يقتصر على بيع المأكولات والمشروبات، بل كان يتاجر في «ياغورت» بالمستشفيات، ويحمل على كتفيه صندوق المشروبات ويبيعها في بوسكورة، وهو يمتطي دراجة هوائية. قصة النجاح بدأت حين اشترى رحال منزلا في درب التازي المهجور، تحول البيت المهمل إلى سكن وقاعة للحفلات، قبل أن يتوسع المشروع ويصبح سطح المنزل مخصصا لإعداد الوجبات.
في هذا المنزل عقدت الكثير من الشخصيات قرانها، وفيه تم ختان شخصيات المجتمع البيضاوي، من الوزير أحمد العراقي إلى بطل سباق الدراجات النجاري، مرورا برجال السياسة والفكر وضباط في سلك الأمن. بموازاة مع ذلك كان يتنافس من أجل موطئ قدم لبيع الأكلات الجاهزة بالمعرض الدولي للدار البيضاء، في منافسة شرسة مع العياشي «الكاتشور»، الذي كان يتقاسم معه المهنة نفسها.
نجح رحال في مسعاه وأضحى ممون حفلات القصر الملكي بدون منازع، بل إن الرجل سجل حضوره القوي في المؤتمرات العربية والقارية والعالمية التي كان يحتضنها المغرب، سيما في عهد الملك الحسن الثاني. سطع نجم رجال في مؤتمر منظمة التجارة العالمية بمراكش في 15 أبريل 1994، حين استطاع توفير الوجبات الغذائية لضيوف الحسن الثاني، الذي كان يحرص على الإشراف على أدق تفاصيل ترتيبات إعالة الضيوف، وقال ابنه عبد الواحد إن الملك كان يباغتهم بزياراته المفاجئة إلى المطبخ، ويقف على حجم الاستعداد للحدث العالمي.
حصل رحال على وسام ملكي، وبعد وفاته استكمل أبناؤه المسار بالجدية نفسها، حيث تم توشيح ابنه عبد الكريم السولامي، بوسام العرش من درجة ضابط سنة 2008 في السينغال، كما وشح الرئيس المالي ممون الحفلات بوسام من درجة قائد تكريما له على المجهودات التي بذلها في الإعداد اللوجيستيكي لحفل العشاء الرسمي، الذي أقامه الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا، على شرف زعماء ورؤساء الدول، الذين حضروا حفل تنصيبه بالعاصمة باماكو.
طباخ الملك يتدخل لتحديد موعد نهائي كأس العرش
في سنة 1979 كان فريق شباب المحمدية لكرة القدم يستعد لخوض المباراة النهائية لكأس العرش أمام الوداد الرياضي، في مباراة نهائية قادرة على منح الجماهير الفرجة المتوخاة بالنظر إلى قيمة العناصر الودادية والفضالية. ازداد قلق مدربي الوداد البطاش والخلفي، وأيضا مدرب شباب المحمدية عبد القادر الخميري، بعدما علموا بأن الملعب الشرفي لن يكون جاهزا لاستقبال المباراة النهائية، وبالتالي فإن المباراة ستدور في الملعب الشرفي لسطات.
انتقل فريق شباب المحمدية إلى مدينة إفران لإجراء تداريب مغلقة استعدادا للحدث الرياضي الكبير، وأقامت البعثة في مركز اصطياف تابع لشركة التبغ، كان المدرب عبد القادر الخميري غير مرتاح لخوض المباراة في مدينة سطات، وصادف وجود فريق الشباب في إفران وجود الملك الحسن الثاني في المدينة ذاتها، التي كان يقضي بها جزءا كبيرا من عطله الصيفية والشتوية، بل إن مقر إقامة فريق مدينة الزهور لا يبعد إلا بأمتار عن القصر، وهو ما ساهم في لقاء بالصدفة بين المدرب الخميري ورئيس طباخي الملك الراحل، ولأن بين الرجلين صداقة قديمة وهو ما جعل عبد القادر يكشف له عن القلق الذي يسيطر عليه من جراء برمجة نهائي كأس العرش، حينها أكد الطباخ أنه سيبلغ الملك هواجس الخميري، بحكم معرفة الملك الراحل بالمدرب الذي كانت تربطه علاقة صداقة قوية مع الأمير مولاي عبد الله، وتردد طويلا في إقحامه في هذا الموضوع. وبفضل تدخل الطباخ توصل مقر إقامة فريق شباب المحمدية بمكالمة هاتفية من الملك شخصيا للمدرب الخميري، تدعوه للمثول بين يديه.
أبدى الملك موافقته على إجراء المباراة في مدينة الدار البيضاء، وعلى الفور أعطى الحسن الثاني تعليماته لوزير الرياضة من أجل تسريع وتيرة الأشغال، ملغيا مقترح الجامعة بنقل النهائي إلى ملعب سطات. بل إن الملك قرر أن تكون مواجهة المحمدية والوداد بمثابة مباراة لتدشين الملعب والتخلص من اسمه القديم «سطاد دونور»، ليحمل اسم محمد الخامس.
«مول أتاي».. رجل برتبة وزير مهمته إعداد كؤوس الشاي
كان هذا الرجل الذي اشتهر في عهد المولى سليمان، من ركائز القصر الملكي بفاس. اشتهر اسمه لدى الفرنسيين سنة 1817، عندما شارك في اجتماع استقبل فيه المولى سليمان وفدا فرنسيا. وانتبه هؤلاء الفرنسيون إلى أن الرجل الذي يوجد ضمن ممثلي السلطان بل ومرافقيه في سفره، لم يكن في الحقيقة سوى «خادم» سابقا في القصر. وكان ينتمي بالضبط إلى فرقة «أصحاب أتاي»، كما يعرفهم مؤرخو البلاط، الذين شرحوا بالتفصيل وظائف مختلف فرق خدمة سلاطين الدولة العلوية.
وظيفة معد «براريد الشاي»، كانت تتمثل في الإشراف على تجهيزات إعداد الشاي في جلسات السلطان واستقبالاته والمناسبات الدينية والوطنية، سواء داخل القصر الملكي بمختلف أجنحته أو في سفريات الملك.
اسمه الحقيقي أحمد بن مبارك، وهو جد الحاجب الملكي «باحماد» الذي اشتهر مع السلطان المولى الحسن الأول، وكان باحماد يتضايق، حسب ما نقله عنه الكثيرون إذا سمع أحدا ينعت جده بـ«مول أتاي»، وكان يفضل أن يوصف بسيدي أحمد بن مبارك، رغم أنه كان في الأصل من عبيد البخاري، الذين تم اختيارهم أساسا للحجابة وخدمة السلطان بجناحه الخاص داخل القصر الملكي.
غادر «مول أتاي» الحياة العسكرية، ودخل إلى السياسة من باب الخدمة داخل القصر، أو بالأحرى من صفة «الوصيف»، الذي كان من صلاحياته تنظيم استقبالات السلطان للوزراء، ولم يكن أحد ليستطيع الدخول إلى قاعة العرش بدون إذن من الحاجب.
ولعل أبرز المراجع التي تحدثت عن سيرة الرجل في التاريخ المغربي، نجد «معلمة المغرب» لصاحبها أحمد التوفيق. يقول: «إن أحمد بن مبارك من عبيد البخاري، سوسي الأصل، برز كوصيف مرموق في عهد السلطان مولاي سليمان، وتدرج في السلم العسكري إلى الرتب السياسية، شأنه في ذلك شأن من ظهروا من أهله طيلة قرن من الزمن. كان هو وأبوه مبارك من وصفاء السلطان سيدي محمد بن عبد الله، وفوتهما لابنه مولاي سليمان».
والمثير أن «مول أتاي» هذا، سبق له توجيه رسائل رسمية إلى عدد من القناصلة الأجانب ممثلي الحكومات الأجنبية في المغرب، خصوصا القنصل الفرنسي الذي استقر لفترة بطنجة، والمثير أيضا أنه كان يوقع تلك الرسائل بطابع من القصر الملكي، ويلقب نفسه بـ«وصيف المقام العالي بالله»، وليس الوزير.
توفي أحمد بن مبارك سنة 1819، وتبين بعد وفاته أنه لا يملك ثمن كفن، فأمر السلطان مولاي سليمان بالتكلف بجنازته وقضى عنه دينا عجز عن تسديده لصاحبه قيد حياته، أي إنه مات فقيرا في النهاية، رغم أنه مارس صلاحيات وزارية.
في عهد الحسن الثاني عاد «مول أتاي» إلى القصر، بل إنه رقى القائم على شؤونه بالقصر الملكي إلى درجة قائد (قائد البراد أو قائد أتاي).