«طاحت الصمعة علقوا الحجام»
مثير للسخرية والقرف أن تتحدث السلطات الجزائرية عن تدخل أشقاء في إذكاء التوتر الذي عرفته غرداية. ليس فقط لأن البحث عن مشجب لتعليق أزمتها الداخلية وراء توجيه الاتهامات للآخرين، ولكن لأن الجزائر نفسها ضالعة في سياسة إذكاء الفتن ودعم التوجهات الانفصالية.
إذا لم يكن إقامة معسكرات إيواء الانفصاليين على أراض واقعة تحت النفوذ الجزائري، وإذا لم يكن صرف المال العام الجزائري على تحركات الانفصاليين المؤطرين من طرف الجيش والاستخبارات الجزائرية، وإذا لم يكن الإمعان في معاكسة الوحدة الترابية للمغرب. إذا لم يكن كل هذا أو غيره ترجمة حرفية لمفهوم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، فماذا يسمى هذا السلوك الشاذ في العلاقات الدولية؟
لا تخفي الجزائر سرا أو علنا أنها تدعم انفصاليي بوليساريو. فقط تغلف ذلك بكليشيهات ما تراه دفاعا عن مبدأ حق تقرير المصير، لكنها حين يصل ظهرها إلى الجدار في سياق مطالب جماعية لفئات من الشعب الجزائري حول تقرير المصير تتهم الآخرين، مع أن كافة المعطيات على الأرض تشير إلى استشراء الغليان والتذمر، خصوصا من طرف القبائل التي تئن تحت وطأة الفقر والتهميش والحرمان، في بلد ظل إلى وقت قريب يفاخر بتراكم مداخيله من العملة الصعبة، ما يطرح السؤال: إن لم تكن هذه المداخيل تصرف من أجل التنمية ورفع مظاهر الحيف والقهر عن فئات الشعب الجزائري المحرومة فلماذا تصلح إذن؟
الكل يعرف أنها تصلح للاغتناء غير المشروع، كما تحدثت عنها تقارير دولية ومطبوعات انتشرت على نطاق واسع، تعرض إلى نزيف الثروة الجزائرية في اقتناء الإقامات الفاخرة في العواصم الأوروبية وتكديس الأموال في المصارف الأجبية، إضافة إلى صرف ذات المداخيل على الحركات الانفصالية الرامية إلى زعزعة أمن واستقرار المنطقة بأسرها.
من البديهي أن أوضاعا بهذه التعقيدات لا يمكن أن ينجم عنها إلا المزيد من اليأس والتذمر وخيبة الأمل. وليس اندلاع أحداث غرداية في شكل صراعات عرقية ومذهبية غير التعبير الواضح عن نفاد صبر الشعب الجزائري حيال تصرفات سلطاته الحاكمة. وقد عرفت مدن وأقاليم جنوب وشرق الجزائر انتفاضات متتالية، جسدت في جوهرها مظاهر الأزمة الخانقة التي تجتازها البلاد. وعوض أن يسأل الوزير الأول الجزائري عبد المالك سلال عما فعلته حكومته لإنقاذ الجزائر من تدهور أوضاعها الاقتصادية والسياسية، راح يكيل الاتهامات إلى الخارج. وكأن هذا «الخارج» هو الذي يدير الشؤون العامة في الجزائر.
سياسة الإنحاء باللوم على الآخرين ليست جديدة، فعلى امتداد أزمات جزائرية ذات طابع بنيوي، احتمت الجزائر بمنطق رمي الكرة خارج ملعبها، ما يفسر كيف أنها سخرت آليات وسياسات وإمكانات لخلق عدو وهمي إلى جوارها الشرقي. أليست الجزائر هي من روج في وقت سابق لأطروحة أن المغرب يصدر إليها الطماطم الفاسدة، علما أنها تستوردها من بلدان أوروبية؟ وكان يكفيها مشقة ذلك أن تلتفت إلى سياستها الزراعية التي انهارت.
أليست الجزائر هي من اتهمت جهات خارجية بتصدير التطرف الذي كان في عمقه «صناعة جزائرية» قبل أن تتمدد التنظيمات الإرهابية وتتخذ لها عناوين وأسماء وزعامات. علما أن الأصل في محنتها تلك كان سياسيا، نجم عن الإجهاز على المسلسل الديمقراطي في بداياته؟
أليست الجزائر هي من يتبنى سياسة تلغيم كافة محاولات المصالحات الوطنية التي تجري إلى جوارها، طمعا في أن يكون لها الدور المحوري، مع أن أحدا لا ينازع في شرعية أي مبادرات في حال كانت تتوخى مساعدة دول الجوار الإفريقي والمغاربة في التغلب على أزمات وصعوبات وخلافات وصراعات؟
أحداث غرداية المؤسفة وغيرها من القلائل والصراعات التي وصلت إلى حد الإفراط في استخدام العنف لم تأت من فراغ. إنها ابن شرعي لممارسات سياسية بنيت على الإقصاء والتهميش وعدم الاعتراف بحقوق الهوية وشروط التعددية. لكن الأخطر فيها أنها تزج بالجزائر إلى أتون صراعات مذهبية ولغوية وعرقية. والمثال الذي تقدمه بلدان عربية استشرت فيها مثل هذه النزعات كفيل بفتح العيون على المخاطر المحدقة بوحدة البلاد.
لا أحد يرغب في نقل العدوى إلى الجزائر، لأن استقرارها وأمنها ووحدتها يعزز استقرار وأمن كافة دول الجوار. غير أن المسؤولية في التصدي لهذه النزعات تقع على عاتق الحكومة الجزائرية المدعوة إلى إجراء إصلاحات جوهرية. وكيفما كان الحال، فإن الصورة التي تقدمها من خلال الإصرار على دعم التوجهات الانفصالية التي تمثلها جبهة بوليساريو، إنما تشجع مناطق جزائرية على الانتفاضة ضد السلطات المركزية.
هذا هو الجانب الغائب في المقاربة الجزائرية، أما اتهاماتها لبلد شقيق، فهي من قبيل تلازمات المثل المغربي القائل «طاحت الصمعة علقوا الحجام».
أليس كذلك يا سيد سلال؟