ضربني الحيط
بعد عمر مديد اكتشف الدكتور عبد الله العروي، من علياء برجه العاجي، وفي كتاب يصدر قريبا يحاور فيه نفسه، أن من أكثر سلبيات الشخصية المغربية التهرب من تحمل المسؤولية وعدم الحسم، وأن ذلك يشكل الضرر الأكبر للمجتمع.
ولعل حالة عبد الإله بنكيران تعطي المثال الساطع على التهرب من تحمل المسؤولية، فهو عندما فشل في تطبيق وعوده لم يلق باللائمة على جبنه وقلة حيلته، بل ألقى باللائمة على العفاريت والتماسيح التي منعته من تحقيق وعوده.
وعوض أن يكون شجاعا ويقدم استقالته ويوفر على دافعي الضرائب راتبه السمين، فضل أن يبقى جالسا في كرسي المسؤولية دون أن يكون قادرا على شيء آخر غير الزيادة في أسعار كل شيء، وإثقال كاهل الطبقات الشعبية بالمزيد من الضرائب.
ولعل من أبرز الأمثلة على أن المغربي غير حاسم هو استمرار شيء اسمه «الانتقال الديمقراطي» إلى اليوم في المغرب منذ انطلاقه مع حكومة التناوب.
وإلى حدود الساعة لم يحسم المغاربة في شكل هذا الانتقال ومدته، فأصبح حالة سياسية دائمة، لا نحن انتقلنا إلى الديمقراطية ولا نحن بقينا في ما قبلها.
والواقع أن الناس أشكال وأنواع حرص الحاكمون عبر التاريخ على معرفة طبائعهم لتسهل عليهم سياستهم، ويذكر ابن الأثير في كتابه «الكامل» أن معاوية سأل أحد الخبراء بأحوال الأمصار الإسلامية عن طبيعة أهل كل بلد، فأجابه الخبير: «أهل المدينة أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه، وأهل الكوفة يردون جميعا ويصدرون شتى، وأهل مصر أوفى الناس بالشر وأسرعهم إلى الندامة، وأهل الشام أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم».
وقد كان الحاكمون الذين تعاقبوا على سياسة هذه الأمصار يبحثون عن الطريقة المناسبة لإحكام قبضتهم على السلطة.
ولذلك عندما صعد عبد الملك بن مروان منبر المدينة خاطب أهل المدينة مهددا: «ألا وإني لا أداري أمر هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم قناتكم، وإنكم تحفظون أعمال المهاجرين الأولين ولا تعملون مثل أعمالهم، وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه».
وهكذا، فبعض البشر، خصوصا الجهال والدهماء، يجدون في أنفسهم ميلا نحو من يضطهدهم ومن ينتصر لقاعدة «يؤخذ بالسلطان ما لا يؤخذ بالقرآن»، وهذه القاعدة طبقها النظام السياسي المغربي خلال سنوات المواجهة الدامية مع اليسار الذي كان يبحث لكي يسقط الملكية لإقامة الجمهورية أسوة بدول الجوار، فكان رد الدولة شرسا وحاسما في آن.
ونحن المغاربة عموما لدينا ميل فطري نحو التملص من تحمل المسؤولية. فالآخرون دائما هم المسؤولون، أما نحن فمجرد ضحايا أبرياء.
فعندما يعجز رئيس الحكومة عن الوفاء بوعوده فبسبب الآخرين، وعندما يفشل إدريس لشكر في الانتخابات فلأن الدولة خذلته، وعندما يفقد شباط عمودية فاس فلأن الداخلية منعت الناس من التصويت له.
ومن يتأمل خطابنا اللغوي اليومي، خصوصا في تبرير المواقف المحرجة، يستخلص أننا أفضل من يطبق مقولة سارتر «الجحيم هم الآخرون».
عندما يأتي الواحد منا إلى المطار متأخرا عن موعد إقلاع الطائرة ويضيع عليه موعد السفر، يقول إن «الطيارة دارتها بيه». وعندما يمر بمحاذاة أحد الأسلاك ويمزق له سرواله، يقول «شدني السلك». وعندما يصدم رأسه مع حائط يقول «ضربني الحيط»، وعندما يصل محطة القطار متأخرا يقول «هرب عليا التران»، ولا يعترف أبدا بأنه وصل إلى المطار أو محطة القطار متأخرا، أو أنه لم ينتبه جيدا أين يسير، أو أنه لم يحسب المسافة جيدا بينه والحائط.
إن اللغة ليست سوى وعاء تختفي داخله ثقافتنا وسلوكنا الاجتماعي الذي يعتبر أن كل ما يحدث لنا من كوارث مرتبط بالآخرين، وأننا لسنا مسؤولين عن أخطائنا مادام هناك مشجب نعلق عليه هذه الأخطاء.
وفي أغلب الشهادات والكتب التي «أفرج» عنها بعض الوزراء السابقين والمسؤولين الكبار في الدولة، والتي تتحدث عن فترة حكم الحسن الثاني ووجودهم إلى جانبه، لا نكاد نعثر على سطر واحد يخصصه هؤلاء للاعتراف بنصيبهم من المسؤولية في الأخطاء التاريخية التي يحصونها على الحسن الثاني لوحده، فتحول عهد الملك الراحل إلى شماعة لتعليق كل الأخطاء، بما فيها تلك التي اقترفها هؤلاء الوزراء والمستشارون السابقون.
والمغربي، بحكم علاقته المتشنجة مع الدولة، يعتقد أن هذه الأخيرة هي دائما سبب كل المشاكل، فإذا سقطت عمارة بسبب مهندس غشاش ومنعش عقاري جشع فبسبب الدولة، وإذا هجم الناموس على الناس في بيوتهم خلال الصيف لأن رئيس المجلس البلدي سرق ميزانية المبيدات الحشرية، فبسبب الدولة، وكأن تلك المجالس البلدية والجماعات القروية التي ذهب المواطنون إلى صناديق الاقتراع وصوتوا على أعضائها بأنفسهم لا يتحملون نصيبهم من المسؤولية.
نعم الدولة تتحمل مسؤولية ما يحدث، لكن الشعب بدوره يتحمل مسؤولية ما يحدث له. يتحمل المسؤولية بصمته عن الجرائم التي تحدث باسمه، ويتحمل المسؤولية بتواطئه مع اللصوص الذين يسرقون جيوبه، ويتحمل المسؤولية بجبنه وخوفه من الجهر بما يضره.
إذا كان هناك لصوص في البرلمان بغرفتيه فلأن الشعب أوصلهم إلى هناك، وإذا كان هناك زعماء أبديون جشعون نخاسون على رأس النقابات فلأن العمال اختاروا حملهم فوق أكتافهم إلى الأبد، وإذا كان هناك ممثلون لصوص في المجالس البلدية يدافعون عن مصالحهم أكثر مما يدافعون عن مصالح المقاطعات التي يمثلونها، فلأن المواطنين راضون بذلك وسعداء، ويكفيهم أن ممثلهم في المجلس البلدي ينظر إليهم ذات يوم وهو مار في سيارته ويتذكرهم ويلقي عليهم السلام.
نحن من نصنع جلادينا ولصوصنا وطغاتنا، وبعد ذلك نبحث لكي نلصق بهم جميع مشاكلنا وكوارثنا، مع أن الكارثة الحقيقية نحن من صنعها بأيدينا.
لذلك فما أحوجنا اليوم لإعادة قراءة كتاب مرجعي اسمه «النقد الذاتي» تنكر له حزب الاستقلال، رغم أن كاتبه هو مؤسس هذا الحزب، العلامة علال الفاسي رحمه الله. فهو درس سياسي وفكري عميق في تحمل المسؤولية وفي الجرأة على قول الأشياء والحقائق بدون خوف أو محاباة.
ويكفي أن نعرف أن علال الفاسي تحدث في «النقد الذاتي» حول التعدد في الزواج، وكان طرحه جريئا بالمقارنة مع العقليات المتحجرة في تلك الفترة، ودافع عن كون التعدد في الإسلام ليس هو الأصل وإنما الفرع، وشدد على تقنينه حفظا للمواريث وحقوق المحاجير. وهكذا فما تهلل له اليوم بعض الجمعيات النسوانية من تطبيق المدونة معتبرة إياها فتحا حداثيا مبينا سبقها إليه علال الفاسي قبل نصف قرن ودفع ثمنه من رصيده السياسي.
ليس هناك حل سحري للتقدم بالمغرب إلى الأمام. الوصفة سهلة وواضحة، على الجميع أن يتحمل مسؤوليته أمام التاريخ، في الخطأ كما في الصواب، في الرخاء كما في الشدة، في العدل كما في الظلم، في الرصاص كما في الورد.