شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

صيف 1959 الذي لن ينساه جيران «ميريكان» المغرب

اتفاق منسي سلمت بموجبه أمريكا قواعدها للملك الحسن الثاني

«ما بين سنتي 1959 و1963 كان موضوع مغادرة القوات الأمريكية للمغرب يسيل الكثير من المداد. موضوع سيادي وسياسي أيضا، خاض فيه أكثر من طرف، لكن الكلمة الفصل فيه عادت إلى الملك الراحل محمد الخامس، وبعد وفاته إلى الملك الراحل الحسن الثاني، الذي أبرم اتفاقا مع الأمريكيين حول صيغة لانسحاب أمريكي من القواعد العسكرية التي أقامها الأمريكيون في المغرب منذ سنة 1943.

عملية جلاء القوات الأمريكية كانت في إطار صداقة مغربية متينة مع واشنطن، وليس كما يتصور البعض. إذ إن الجلاء كان نتيجة تطور تلك الصداقة وليس العكس.

هذه بعض كواليس العملية وكيف تطورت من نقاش في الصحف والموائد الرسمية، إلى انسحاب فعلي على الأرض».

 

يونس جنوحي

+++++++++++++++++

 

إشاعات و«دموع» في وداع الأمريكيين

كان الحديث عن «الجلاء» الأمريكي من القواعد العسكرية التي أقامها الأمريكيون في المغرب، خلال الحرب العالمية الثانية، يسيطر على النقاش العام فور وصول الملك الراحل الحسن الثاني إلى العرش. بل كان هذا الملف من «الأوراش» الثقيلة، التي ورثها عن والده الراحل الملك محمد الخامس.

يوم 31 مارس 1960، كانت أشغال إفراغ مطار بن سليمان وتسليمه إلى المغرب، في مراحلها الأخيرة. وكانت هذه العملية في إطار إجراء بدأه الملك الراحل محمد الخامس سنة 1959، حيث اتفق مع الأمريكيين على بداية مغادرتهم للقواعد العسكرية التي أقاموها في المغرب.

لكن بوفاته، عرفت العملية بعض التأخير إلى حين وضع الملك الحسن الثاني لمساته على سياسته الخارجية، ثم استُأنفت من جديد.

كان هذا الملف، أول ملف يتعلق بالخارجية المغربية، يتناوله الملك الراحل الحسن الثاني بعد جلوسه على العرش. إذ خطب في المغاربة يخبرهم أن مفاوضاته مع الأمريكيين نتج عنها إصدار بلاغ مشترك، تقر فيه أمريكا بشكل واضح بسيادة المغرب على القواعد العسكرية التي أنشأتها فوق التراب المغربي، وعن استعداد قواتها لإطلاق عملية مغادرة للقوات الأمريكية ونقل معداتها إلى خارج المغرب، وذلك في غضون عامين فقط، أي قبل نهاية سنة 1963.

أفرغ إذن مطار بن سليمان، وبدأت أشغال إخلاء القاعدة الأمريكية في القنيطرة، والتي كانت الأهم في سلسلة «الجلاء» وتمت على مراحل، حيث أبقى الأمريكيون باتفاق مع الملك الحسن الثاني على جناح صغير داخل القاعدة، خصص كإدارة بقيت تابعة لأمريكا، لكي تتمكن عبرها من قيادة الاتصالات والتنسيق مع القواعد الأمريكية الأخرى في شمال إفريقيا وأوروبا، في إطار الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي.

بموجب الاتفاق بين الأمريكيين والملك الحسن الثاني، سُلم أيضا مطار سلا الذي كان في جزء منه تابعا للقوات الأمريكية، بالإضافة إلى مركز في البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من منطقة السعيدية، كان عبارة عن إدارة صغيرة لتسيير الرادارات التي زرعها الأمريكيون في جبل طارق، لتعقب الملاحة البحرية وحركات الصواريخ، وربط الاتصالات مع القواعد في أوروبا.

كما سلم الأمريكيون إلى المغرب مركزا في منطقة بلقصيري، كان مخصصا لمراقبة أجهزة الرادار.

وفي هذا الإطار أفرغت أيضا مخازن لمعدات الطائرات، وهو ما نتجت عنه كارثة زيوت مكناس المسمومة سنة 1959. إذ إن الأمريكيين لم يكونوا صارمين في اتباع إجراءات السلامة، أثناء التخلص من بعض المواد الكيماوية، وكميات الزيت التالفة المخصصة لصيانة محركات الطائرات الأمريكية، وهو ما نتج عنه تسربها إلى السوق بواسطة مضاربين همهم الربح السريع، لكي تتسبب في واحدة من أخطر عمليات التسمم الجماعي في القرن العشرين.

بعد انتهاء جل مراحل هذا الإجلاء الذي بدأ منذ سنة 1959 إلى 1963، كان أغلب الأمريكيين الذين غادروا المغرب متأثرين جدا لمغادرتهم تلك المنشآت العسكرية التي أقاموها في المغرب منذ سنة 1943، وكان منهم من يدينون بمسارهم العسكري البارز لتلك القواعد التي أنشئت في المغرب، وظلوا يحفظون ذكريات طيبة عن المغرب والمغاربة.

ذكريات منسية لأمريكيي مدينة القنيطرة

حدث مرة أن إدارة القاعدة الأمريكية في القنيطرة، أمرت ضباطها وعائلاتهم ألا يغادروا القاعدة سنة 1953 صوب مدينة الرباط، بسبب أحداث توتر في المدينة على إثر مظاهرات ضد السياسة الفرنسية في المغرب. وأرادت إدارة القاعدة العسكرية الأمريكية حماية رعاياها الأمريكيين، لكن اتضح أن تطبيق القرار كان شبه مستحيل، نظرا لارتباط الأمريكيين بمدينة القنيطرة ونواحيها، تطور في مرات كثيرة إلى درجة الصداقة مع مسؤولين وعائلات مغربية.

بالإضافة إلى أن جيران القاعدة الأمريكية نواحي القنيطرة كانت حياتهم مرتبطة أساسا بتلك القاعدة، وتأثرت المدينة كثيرا بمعالم الحياة الأمريكية، من موسيقى وسينما وحتى على مستوى العادات وتداول بعض العبارات باللغة الإنجليزية، على عكس المدن الأخرى القريبة، خصوصا الرباط والدار البيضاء، التي تأثرت كثيرا بالثقافة الفرنسية.

هذا «الامتياز» الذي عرفه محيط القاعدة الأمريكية، جعل العاملين فيها يربطون علاقة وطيدة مع المغاربة منذ الأربعينيات.

إذ إن باشا مراكش الشهير، الباشا الكلاوي، كان صديقا حميما لأبرز مسؤولي القاعدة الأمريكية وكان يدعوهم إلى زيارته ويتبادل معهم الهدايا، ويأتون إليه من القنيطرة إلى مراكش، رغم صعوبة الطريق وقتها، لكي يحظوا باستجمام واحتفالات على الطريقة المغربية.

إلا أن أكثر ما تداوله سكان محيط القاعدة الأمريكية، أثناء جلساتهم، ما يتعلق بالسلع الأمريكية التي كانت تغادر أسوار القاعدة، لكي تصل إلى أيادي بعض المحظوظين.

معدات من قبيل أجهزة الراديو المتطورة وآلات الموسيقى، بالإضافة إلى أدوات الترفيه، وصولا إلى المشروبات الكحولية، والتي كانت مرغوبة وقتها بحكم أنها لم تكن متداولة، عكس الماركات الفرنسية التي غزت المطاعم الفرنسية بالمغرب.

وهذا يجر إلى موضوع التهريب، الذي اتُهم مغاربة كثر بالتعاطي له مع بعض موظفي القاعدة الأمريكية في القنيطرة ومحيطها، ومسؤولين آخرين.

إذ في بداية خمسينيات القرن الماضي دائما، خلال موجة استقرار القوات الأمريكية في مدينة القنيطرة، أصبح للأمريكيين مقر كبير تتوافد عليه السلع الأمريكية من ملابس ومواد استهلاكية وترفيهية، وكان بعض الضباط وصغار الموظفين الأمريكيين العاملين في القاعدة العسكرية بالقنيطرة قد تواطؤوا مع تجار مغاربة، لتمكينهم من السلع الأمريكية بأثمنة تفضيلية لبيعها في المغرب.

النتيجة كانت أن بعض التجار راكموا ثروات خيالية، جراء عمليات التهريب التي كانت تتم عبر إرشاء بعض موظفي القاعدة الأمريكية، ليتولوا تسويق السلع التي كانت موجهة في الأساس إلى القاعدة، لكي تباع في الأسواق المغربية دون أداء أي ضرائب لصالح الدولة.

وصل الأمر حد إثارة اسم «القاعدة الأمريكية» في ملف ثقيل يتعلق بمؤامرة يوليوز 1963، والتي تُوبع فيها قياديون من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حيث اتُهموا بمحاولة توفير السلاح واستهداف الأمن العام، وأثناء التحقيق معهم قبل المحاكمة الشهيرة التي استمرت أطوارها طيلة صيف وخريف تلك السنة، أثيرت القاعدة الأمريكية، حيث ركزت الأسئلة على فرضية تهريب بعض الأسلحة من القاعدة وبيعها إلى أعضاء سابقين في المقاومة المغربية، لاستعمالها في «المؤامرة»، لكن دعائم هذه الفرضية لم تكن قوية.

ولم تكن تلك المرة الأولى من نوعها، إذ إن المحكمة الفرنسية قبل الاستقلال وجهت التهمة نفسها إلى مقاومين مغاربة وحامت الأسئلة التي وجهت إلى المتهمين، أثناء التحقيق معهم، حول فرضية حصولهم على الأسلحة من القاعدة الأمريكية، بسبب انتشار إشاعات عن ممارسة بعض صغار موظفي القاعدة الأمريكية للتهريب، وبيع معدات وسلع من داخل القاعدة إلى المغاربة.

سر صداقة عسكرية مع أمريكا بدأت في شاطئ الدار البيضاء و«فضالة»

المغرب أول دولة اعترفت باستقلال الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1776، ومنذ أكثر من قرنين احتضن المغرب، بالضبط في مدينة طنجة، أول تمثيلية دبلوماسية خارج تراب أمريكا يرفرف فوقها العلم الأمريكي بعد استقلال البلاد، وأطلق عليها اسم «المفوضية الأمريكية في طنجة».

هذه الصداقة المغربية الأمريكية عادت إلى الواجهة، خلال الإنزال الأمريكي الشهير الذي حسم نتيجة الحرب العالمية الثانية لصالح الحلفاء.

تدخل رئيس الوزراء البريطاني وقتها، «وينستون تشرشل»، لكي يتواصل مع الملك الراحل محمد الخامس لعقد ما عرف لاحقا بلقاء أنفا التاريخي، والذي جر العلاقات المغربية الفرنسية نحو الأسوأ، لكنه مهد لاحقا لتوطيد الصداقة بين المغرب والولايات المتحدة.

كيف بدأت إذن هذه الصداقة العسكرية المغربية الأمريكية؟

سبق وأن أفردنا في «الأخبار» ملفا كاملا، في أكثر من مناسبة، تناول عملية الإنزال العسكري الأمريكي في الشواطئ المغربية سنة 1943. وهذه العملية عرفت لاحقا بـ«طورش» وهو الاسم العسكري الذي أطلقه الأمريكيون والبريطانيون في نونبر سنة 1942 على عملية إنزال القوات العسكرية الأمريكية على سواحل المغرب، عبر 4 نقاط هي الدار البيضاء والمحمدية «فضالة»، بالإضافة إلى القنيطرة والمهدية. كان التخطيط لعملية الإنزال قد بدأ قبل أشهر، خصوصا وأن أمريكا كانت قد تلقت في أواخر سنة 1941 ضربة موجعة من اليابان، عندما قصفت قواتها في «بيرل هاربور»، لتعلن أمريكا انضمامها إلى الحلفاء في الحرب العالمية الثانية للانتقام.

بحسب الوثائق الجديدة المتوفرة في الموضوع، فإن بعض كوادر الجيش الأمريكي رأوا في المغرب واجهة مهمة للإنزال، ولم يوافقوا على الطرح البريطاني الذي اقترح عليهم القيام بالعملية في مضيق جبل طارق. كان الدافع جغرافيا بالدرجة الأولى، لكنه كان يخفي في طياته كثيرا من السياسة.

في الرباط، كان الملك الراحل محمد الخامس يراقب ما يروج بصمت، وهو يطلع على الصحف وما يدور في الصحافة الأجنبية من أخبار عن تأزم الأمور في أوروبا. حتى فرنسا، لم تعد مفزعة بالقوة التي كانت عليها سنة 1912. لم تعد تبطش بالقوة نفسها، كما أن الخناق على محمد الخامس، بخصوص توقيع الظهائر، وهو الأمر الذي رفضه مرارا، لم يعد ضيقا كما كان في السابق. فرنسا مشغولة بهزائمها في الحرب على يد قوات هتلر. لذلك كان التقارب الأمريكي المغربي في هذا الباب مثمرا، حتى أن الوثائق ذاتها تحدثت عن عملية تجميع شامل للمعطيات عن المغرب، بقصد دراسة التعاون في مجال القواعد العسكرية التي كانت أمريكا تخطط لها للانفتاح عسكريا. تلقى المغرب، شهرين وبضعة أيام بعد عملية الإنزال التي تمت بنجاح، تطمينات مباشرة من الرئيس الأمريكي روزفلت الذي حل بنفسه في المغرب، برفقة رئيس الوزراء البريطاني تشرشل، والذي سيصبح صديقا فوق العادة للمغرب ومفتونا بسحر مراكش التي أعجب بها. جاء الاثنان إلى المغرب والتقيا الملك محمد الخامس، مرفوقا بولي العهد وقتها الأمير مولاي الحسن، وبقيت فرنسا يقظة تراقب التجمع من بعيد، وهي تعلم يقينا أن هيمنتها على المغرب قد عرفت منعطفا مهما، سيما وأن صحف اليوم الموالي تحدثت عن وعد أمريكي بمساعدة المغرب للتخلص من الهيمنة العسكرية الفرنسية.

«القواعد العسكرية الأمريكية» على طاولة عشاء الملك محمد الخامس

أكثر ما كان يثير غضب السوفياتيين في المغرب، وجود قواعد عسكرية أمريكية، خصوصا قاعدة القنيطرة التي كانت تتميز بمواصفات دولية سبقت عصرها بكثير، حيث إنها كانت من أكثر القواعد العسكرية أهمية في شمال إفريقيا، بعد الحرب العالمية الثانية.

عندما عاد الملك الراحل محمد الخامس من المنفى سنة 1955، وبدأت أولى إشارات الانفراج في الأزمة المغربية الفرنسية تلوح في الأفق، حتى بدأ السؤال عن موعد رحيل القوات الأمريكية من المغرب.

«جلاء الأمريكيين»، هو العنوان الذي اختارته الصحافة المقربة من الحركة الوطنية، لكي تتناول موضوع مستقبل القواعد العسكرية الأمريكية في المغرب.

النخب المغربية، كانت تراكم صداقات متينة مع شخصيات فرنسية، لكن أعضاء الحركة الوطنية كانوا يضغطون ويطالبون بضرورة إخلاء الجيش الفرنسي لقواعده في المغرب، لكي يكون الاستقلال عن فرنسا مكتملا.

بينما كان الأمريكيون يحظون بتقدير كبير، بحكم العلاقات الودية التي تربط بين المغرب والولايات المتحدة، وأيضا لأن وجود تلك القواعد لم يكن له أي سند سياسي للتدخل مستقبلا في القرار المغربي بعد مارس 1956، تاريخ توقيع الحكومة المغربية لوثيقة الاستقلال رسميا عن فرنسا.

وقتها، كان الملك محمد الخامس يستقبل وفود المهنئين من داخل المغرب وخارجه. وحدث، حسب ما أشارت إليه وثائق الخارجية الأمريكية التي تعود لشهر شتنبر سنة 1958، أن الملك الراحل محمد الخامس استقبل في القصر الملكي وفدا من الوطنيين المغاربة، على خلفية الصراع حول الحكومة، وكان الوزير بلافريج، الذي أسندت إليه مهمة قيادة الحكومة بعد تجربة البكاي الأولى والثانية، يوجد تحت ضغط من قيادات حزبه، حزب الاستقلال، لكي يضع ملف جلاء القوات الأمريكية على طاولة الملك الراحل محمد الخامس.

خلال ذلك العشاء، فاتح عبد الله إبراهيم الملك محمد الخامس في الأمر، وكان هذا الموضوع أثقل من أن تتحمله طاولة العشاء، لكن الملك الراحل كان منفتحا على مطالب الحكومة، خصوصا أن حزب الاستقلال كان يحظى في حكومة 1958 بأغلبية مريحة جدا.

كان كل من علال الفاسي وعبد الرحيم بوعبيد يقودان تلك الحملة السرية ضد القواعد الأمريكية في المغرب، بحكم أن القواعد الفرنسية كان مصيرها معروفا منذ مارس في السنة نفسها. إذ كتبت صحافة حزب الاستقلال وقتها تؤكد أن فرنسا بدأت إجراءات ترحيل عشرة آلاف جندي فرنسي من المغرب، وتسليم القواعد والثكنات إلى المغاربة. بينما لوحت صحافة الحزب ذاته، ومعها منابر وطنية أخرى كانت تصدر خلال النصف الأخير من الخمسينيات، بموضوع القواعد الأمريكية.

أصبح موضوع هذه القواعد على لسان الوطنيين المغاربة، ونقطة مهمة في اجتماعاتهم. ولعب ولي العهد الأمير مولاي الحسن وقتها دورا كبيرا في ربط الاتصال بين القصر الملكي بالرباط، والبيت الأبيض في واشنطن، لتدبير مستقبل تلك القواعد العسكرية فوق التراب المغربي، بعد حصول المغرب على الاستقلال. ولم يكن الأمريكيون ممانعين في تدبير مستقبل ملف تلك القواعد، سيما أنها كانت قائمة في المغرب منذ سنة 1943، بعد أن بُنيت مباشرة بعد إنزال القوات الأمريكية، قبل ذلك بسنة. على خلفية مشاركة القوات الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، وكانت حكومة الولايات المتحدة تدبر وقتها ملف قواعدها خارج التراب الأمريكي بعد انتهاء الحرب. لذلك لم يكن صعبا التوصل إلى اتفاق سنة 1963، عندما تم تفكيك قاعدة النواصر وتسليم جزء كبير من قاعدة القنيطرة الشهيرة إلى القوات الجوية المغربية.

كان الملك محمد الخامس قد بدأ الملف مع الأمريكيين سنة 1958، لكن وفاته نقلت الملف إلى الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1961، وهو الذي أشرف على رحيل الأمريكيين الذين أبقوا على قاعدة صغيرة جدا، بحكم التطورات الدولية وقتها، خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. ولم تكن القاعدة المتبقية نشطة أبدا، بل كانت مخصصة فقط لربط الاتصالات وصيانة الرادارات، التي كانت مثبتة في شمال المغرب وفي الجنوب الإسباني.

 

عبد الله إبراهيم.. رجل أحرقه ملف القواعد الأمريكية

عندما وصل عبد الله إبراهيم إلى منصب الوزير الأول، كان ملف القواعد الأمريكية في المغرب ساخنا.

التيار اليساري داخل حزب الاستقلال سنة 1959، قبيل الانشقاق بقليل وولادة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كان يرفض كل ما هو «رأسمالي». إذ إن أغلب الموالين لعبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة ومحمد الفقيه البصري وعبد الرحمن اليوسفي، كانت جميع أفكارهم يسارية وثورية، وكانوا معجبين بالتجارب العربية التي كانت معادية لموقف الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما جعل ملف إجلاء القوات الأمريكية من المغرب يتخذ منعطفا مهما، بعد وصول عبد الله إبراهيم إلى منصب الوزير الأول يوم 24 دجنبر 1958، وهو الوقت الذي كان فيه النقاش حول هذه القواعد قد بدأ فعلا.

وعندما وقع ما أسماه الاتحاديون وقتها انقلابا على حكومة عبد الله إبراهيم، في ماي 1960، كانت تجربة حكومة عبد الله إبراهيم قد انتهت، لكن ملف إخلاء الأمريكيين لقواعدهم كان لا يزال نشيطا.

وهذه الجزئية التاريخية مهمة جدا، وتكشف إلى أي حد كان ملف إجلاء الأمريكيين للقواعد مسألة وقت فقط، ونتيجة اتفاق بين الملك الراحل الحسن الثاني والبيت الأبيض، ولم يكن بسبب ضغوطات سياسية.

صحيفة «ماروك موند» التي كانت تصدر في المغرب أواخر الخمسينيات، نشرت مقالا أثار وقتها ردود فعل متباينة، إلا أنه كان مقالا مهما. تساءل المقال، الذي نُشر في شتنبر 1958 عن مستقبل القواعد الأمريكية في المغرب، وتناول بالتحليل حركة وزارة الخارجية الأمريكية في التعامل مع ملف قواعدها الجوية والعسكرية في الخارج، خصوصا في أوروبا، ورجح المقال أن تصبح القواعد الموجودة في المغرب غير مهمة في المستقبل.

وهو ما لم يرق لأصدقاء عبد الله إبراهيم، الذين كانوا يرون في الملف امتحانا لمواقفهم السياسية، خصوصا أن عبد الله إبراهيم كان صديقا لعدد من الشخصيات الثورية، سواء في المشرق العربي أو على المستوى الدولي. إذ إن صداقة عبد الله إبراهيم مع رمز الثورة في أمريكا اللاتينية، تشي غيفارا، واستقباله له في المغرب، كلها كانت تغني الأمريكيين عن أي محاولة لجمع معلومات ما عن عبد الله إبراهيم. إذ كان توجهه واضحا، ورغبته في تبني موضوع إخلاء القواعد العسكرية الأمريكية في المغرب واضحة.

هذا الانتصار السياسي لم يُكتب لعبد الله إبراهيم، لأن علاقة الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب كانت أعمق من أن ترجها ولاية حكومية، أسيل الكثير من المداد بشأنها. وهو ما

ظهر جليا، عندما أشرف الملك الراحل الحسن الثاني بنفسه سنة 1963 على تسلم القواعد الأمريكية، التي فككت ونُقلت معداتها إلى القواعد التي أبقت عليها الولايات المتحدة في أوروبا، سيما في ألمانيا الغربية، حيث كان السوفياتيون العدو الأكبر لأمريكا وقتها، يبعدون بكيلومترات فقط. بينما بقيت بعض القوات الأمريكية مقيمة في المغرب، في إطار اتفاق التعاون العسكري المبرم بين البلدين، والذي زودت أمريكا الرباط بموجبه بمعدات متطورة للغاية، أغنت الملك الراحل الحسن الثاني عن اقتناء معدات عسكرية من الاتحاد السوفياتي.

27 Mar 1963, Washington, DC, USA — President and Mrs. Kennedy were hosts tonight at State dinner in honor of King Hassan II of Morocco at the White House. Shown prior to the dinner, front row, are left to right: King Hassan II; The Chief Executive; The First Lady; Prince Noulay Abdallah, the King’s brother; and Princess Lalla Nesha, the king’s sister. Back row; Maj. Gen. Chester V. Clifton, USA; Mrs. Angier Biddle Duke, wife of the Chief of Protocol; Brig. Gen. Godfrey T. McHugh, USAF; Mrs. Dean Rusk; Captain Tazewell Shepard, USN; and Secretary of State Dean Rusk. — Image by © Bettmann/CORBIS

 

عندما عاد ملف القواعد الأمريكية إلى الواجهة بعد انقلاب 1972

الملك الراحل محمد الخامس زار الولايات المتحدة الأمريكية بعد الاستقلال، في زيارة وصفها الإعلام الأمريكي بالتاريخية. وقرأها العالم على أنها بداية صداقة «عصرية» بين البلدين، مباشرة بعد استقلال المغرب سنة 1956.

وفي أواخر مارس سنة 1963، زار الملك الحسن الثاني الولايات المتحدة في زيارة استضافه فيها الرئيس كينيدي بحفاوة كبيرة، وكانت تلك الزيارة في سياق إخلاء القواعد الأمريكية في المغرب. وبدا واضحا أن علاقة كينيدي بالملك الراحل الحسن الثاني، كانت في أفضل حالاتها.

وحتى بعد تدبير إخلاء القواعد الأمريكية بقيت المساعدات التي تصل من واشنطن على حالها، بالإضافة إلى استفادة المغرب من الاتفاقيات السابقة مع وزارة الدفاع الأمريكية.

لكن بعد انقلاب صيف 1972،الذي كان استثنائيا بكل المقاييس، توصل الملك الراحل الحسن الثاني بإفادات مصدرها الاتحاد السوفياتي، تقول إن الأمريكيين كانوا يعرفون بأمر انقلاب «البوينغ»، الذي قاده الجنرال أوفقير بعد أن أصبح صديقا لمسؤولين في القاعدة الجوية بالقنيطرة، أبرزهم أمقران واكويرة، والتي تسلمها المغرب من الولايات المتحدة الأمريكية بعد إخلاء 1963.

كان صعبا إثبات عدم علم الأمريكيين بالمخطط الذي تم تحت سقف القاعدة الأمريكية التي يسيرها المغاربة، لكن جزءا منها بقي محفوظا للقوات الأمريكية، لكن ثبت في التحقيقات أن الأمريكيين لم يكونوا يتحكمون نهائيا لا في التداريب ولا في مواعد إطلاق الطائرات التي تسلمها المغرب من الولايات المتحدة.

اضطر الرئيس الأمريكي وقتها إلى إرسال نائبه السيد «أگنو»، بعد انقلاب 1972، لكي يوضح للملك الراحل الحسن الثاني أن حكومة الولايات المتحدة لم يكن لديها أي علم نهائيا بما كان يحاك ضده. رغم أن الطائرات التي استهدفت حياة الملك الحسن الثاني، انطلقت من القاعدة الجوية التي تسلمها المغرب من أمريكا، قبل تسع سنوات من الانقلاب.

في النهاية، لم يعر الملك الراحل اهتماما لتلك الرواية، خصوصا وأن السفير الأمريكي كان حاضرا في القصر الملكي، أثناء وقوع انقلاب الصخيرات سنة 1971، وكانت السفارة الأمريكية في الرباط أول تمثيلية دبلوماسية أجنبية في المغرب بادرت إلى مساندة الملك الحسن الثاني، وتهنئته بعد فشل المحاولة الانقلابية.

محاولة استغلال جلاء القوات العسكرية الأمريكية من المغرب، والذي بدأ سنة 1959 واختتم سنة 1963، لافتعال أزمة بين المغرب والولايات المتحدة، لم تنجح، لأن البلدين كانت تربطهما اتفاقيات عسكرية مهمة بعد زيارة الملك الحسن الثاني إلى واشنطن في مارس 1963، وجاءت بعدها اتفاقيات أخرى على المستوى العسكري، عززت أسطول القوات المسلحة الملكية المغربية على المستوى البري والجوي، إلى أن صارت تعتبر اليوم من أكثر الجيوش استجابة لمعايير التداريب المشتركة مع «المارينز» الأمريكي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى