صورة المعلم في الإعلام العمومي المغربي لا يمكن فصلها عن صورته في الثقافة الشعبية، إذا سلَّمنا جدلا بأن هذا الإعلام العمومي فعلا يعكس ثقافة المجتمع المغربي، ويجسد هوية المجتمع المغربي بصدق. وحتى لو سلَّمنا جدلا بهذه الفرضية، فإن المصداقية في الإعلام العمومي، سواء من خلال البرامج أو الإعلانات أو الأفلام والمسلسلات وغيرها من المواد التلفزيونية، لا تقتضي دائما رسم صورة صادقة لواقع فاسد من شأنه تكريس ثقافة رديئة وفكر سخيف عند المتلقي، بل المصداقية تتعدى نقل تلك الصورة البئيسة كما هي إلى محاولة الارتقاء بوعي المجتمع وبناء الفكر المجتمعي المنشود.
أمام الإساءات المتكررة لصورة المعلم/المربي بالقنوات العمومية الرسمية، دعنا نسائل أصحاب القرار والمسؤولين عن البرامج التلفزيونية في رمضان بضعة أسئلة تؤرق المشتغلين بالحقل التربوي:
ــ ضمن أية غاية من بين هذه الغايات المذكورة سلفا يمكن إدراج السلسلة الكوميدية «ولاد إيزة» التي تعرضها القناة المغربية الأولى في شهر فضيل: ضمن غاية تحقيق الجمال أم تحقيق الخير أم تحقيق المنفعة العامة للمجتمع؟
ــ ماذا حققت تلك السلسلة وهي تحكي مغامرات امرأة أرملة بالبادية مع زوجتَيْ ابنيها، أحدهما معلم، غير استهداف المعلم والسخرية من رمز من رموز الشرف والبناء في المجتمع؟ هل هذه هي مواصفات المعلمين المغاربة بالقرية الذين درستم على أيديهم، ويعود لهم الفضل في وصولكم إلى مناصبكم؟ أليس هناك معلمون مخلصون ومميزون يقدمون نماذج مضيئة، ويقومون بدورهم على أكمل وجه ويولون الناشئة كل العناية والاهتمام؟
ــ ثم هَبْ أن الصورة البئيسة التي ظهر بها المعلم «علي» في «سلسلة ولاد إيزة» مُمْتَثِلَةٌ تماما لصورة المعلم في واقعنا المغربي، وأن شخصية «علي» تحاكي شخصية حقيقية لمعلم في الواقع الاجتماعي، فهل المطلوب من الأعمال الفنية عند تناولها للمعلم أو أي رمز من رموز الإصلاح والبناء، هو الحفاظ على هذه الصورة البئيسة وترسيخها في البيئة الثقافية دون تطوير للمحتوى، أم المطلوب رؤية فنية تجاوزية تنتقد أداء المعلم مثلا، لكنها لا تُبَخِّسُ دوره ولا تتجرأ على التقليل من شأنه أمام عموم المشاهدين، تارة بنعته بالمعتوه وتارة بوصفه بـ«لاصق في الدولة»، وتارة بتصويره بمظهر مثير للشفقة في لباسه وهيئته، وتقديمه للجمهور بشخصية ضعيفة، قليل الحيلة، مما يجعله يحتمي بزوجته أو أمه في أغلب الأحوال لجلب مصالحه والدفاع عن حقوقه؟
ــ كيف نريد لهذا الجيل أن يَشُبُّ على احترام المعلم وهو يراه بهذه الصورة المُجَفِّلة؟ هل سيتعلق الجيل الناشئ بمهنة التعليم وهو يرى أن التعليم بات ملجأ للفاشلين في صورة هذا المعلم؟
ــ لماذا تسعى مثل هذه السلسلة وغيرها من الأعمال الفنية في رمضان إلى تحطيم صورة المربي عند الناشئة، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تحبيب شخصية «الكاطورز» لهم في مسلسل «بين القصور» الذي يعرض بالقناة الثانية، وتقديمه لهم كأنه «بروفايل» جديد لشاب منحرف لا تكاد تخلو قطعة في جسده من الوشم، لكنه مرحب به في محيطه وقدوة يحتذى به في مجتمعه رغم أنه يمثل محور الشر كله في المسلسل، بدليل أن فتيات الحي تعلقن به وصرن يتخاصمن في ما بينهن للظفر بحبه. وهو ما حصل بالضبط مع صورة «الشيخة» (عفا الله عنا جميعا) في مسلسل «المكتوب» الذي عُرض في السنة الماضية بالقناة الثانية، وتقديمها في بعدها الإنساني النبيل وإظهارها بمظهر المرأة التي مهما اختلفتَ معها في انحرافها فإنها تفرض عليك احترامها بمعاملتها الطيبة وعلاقاتها الإنسانية المميزة في محيطها، مع تعمد إخفاء الوجه الآخر القبيح والمتمثل في بيع الجسد ومناكر الليالي الحمراء، حتى يتعاطف معها الجمهور المغربي ولا تبقى في عينه رمزا للانحراف والضلال؟
ــ وأخيرا وليس آخرا، هل يستطيع المسؤولون عن الإعلام العمومي بالقناة الأولى والقناة الثانية السماح بمرور سلسلة كوميدية في قادم الأيام، تتهكم مثلا على رجال الدولة أو القضاة أو رجال السلطة (مع خالص مودتنا واحترامنا لكل هذه الرموز والشخصيات) بالدرجة نفسها التي تم التهكم بها على مربي الأجيال؟
إن ترويج محتوى معين عبر الإعلام العمومي في وقت الذروة (ذروة المشاهدة) في رمضان، لا يمكنه أن يكون بريئا مهما أحسنا النية في الحكم على هذا المحتوى، ومهما حاولنا إبعاد تهمة الاستهداف عنه. كما أن ترويج هذا المحتوى في دقائق ليس هو الترويج له في شهر كامل، وليس هو نفسه في سنة أو سنوات كما يحصل مع القصص التي تطرحها المسلسلات المدبلجة، خاصة في ظل الطابع التبسيطي لمحتوى السلسلات الكوميدية أو المسلسلات المدبلجة، والذي عادة ما يستقطب شريحة كبيرة من المشاهدين في القرية والمدينة على حد سواء، نظرا لارتفاع نسبة الأمية في مجتمعنا، ونظرا للهبوط الكبير في المستوى الثقافي وانتقالنا إلى مجتمعات تقرأ بأذنها وتُشَكِّل ثقافتها بالسمع، ويتحكم الإعلام في صناعة وعيها عن طريق استهلاك الصورة النمطية الواحدة.
وتكمن خطورة هذا الترويج لصورة المعلم البئيسة على المدى المتوسط والبعيد في القنوات العمومية الرسمية في ما يلي:
ــ الربط الآلي والتلقائي عند الجمهور المستهلك بين الصورة البصرية البئيسة للمعلم في الإعلام وبين صورته في الواقع، حتى يصبح المعلم مَعَرَّة في مجتمعه، وتصبح مهنة معلم مُنَفِّرة في الثقافة الشعبية ولا جاذبية لها في نفوس الطلاب الباحثين عن وظيفة؛
ــ إسقاط القدوات الحقيقية من عين المتلقي من خلال التشهير المتواصل بالمعلمين ورجال الدين والتقليل من شأنهم؛
ــ تقليص العلاقة الحميمية بين الطلاب والمعلم في ظل تجريده من هيبته وصلاحياته؛ وهذا ما يفسر تجرؤ أجيال اليوم على الآباء والمعلمين والعلماء والفقهاء واحتقارهم لهم؛
ــ المساهمة في رسم ملمح آخر من ملامح الحياة المادية للمجتمع، وتكريس ثقافة النظر إلى الشخص من خلال جيبه وليس لتدينه أو قيمه وأخلاقه، حيث يُراد للناس أن يزنوا المعلمَ بميزان مادي صِرْف بعيدا عن دوره الكبير في التغيير وفي بناء العقول؛
ــ إنتاج نسخ متشابهة من المتلقين (ومنهم تلاميذ وطلاب) تفكر وتتذوق وتستدل بطريقة شبه موحدة، عن طريق التحكم البطيء والتدريجي في قناعات الجمهور وعواطفهم ووجهات نظرهم حول المربين ورجال التعليم؛
ــ إفراغ هذا الشهر الفضيل من أبعاده التربوية المتمثلة في التربية على الأخلاق والقيم، ومنها الإحسان إلى أهل المعروف والخير وعلى رأسهم المعلم عن طريق الإيحاء السلبي في تربية النشء؛
ــ التصالح مع جميع أشكال الانحطاط والتفاهة في الأعمال الفنية، والقبول بأي محتوى فني ـ مهما كان رديئا ـ مادام يضحك الجمهور…
لقد بات الفرق واضحا للعيان بين معلم الأمس ومعلم اليوم، ولم يعد المعلم يحظى بالتقدير والاحترام اللازمين كما كان أيام الزمن الجميل، حين كانت للمعلم هيبته في صفوف تلاميذه بحيث لا يستطيع أحد ذكر اسمه حافيا في غيبته دون تجميله بعبارة «سي فلان»، ولا يتجرأ أن يشرب الماء والمعلم ينظر إليه تقديرا له وتبجيلا؛ وحين كانت لمهنة التعليم جاذبية كبيرة في صفوف الحالمين بوظيفة إيمانا منهم بأهمية المعلم ونبل رسالته، وتصديقا منهم بأن بناء المجتمعات ونهضتها يقوم على كاهل المعلم..