صناعة التطرف (2/2)
كان وزير الداخلية الراحل إدريس البصري يعلم ما يجري، في عدد من البلدان الأوربية، وخصوصا بلجيكا، من تحركات لمن سيصبحون في ما بعد متابعين بقانون الإرهاب، لكنه ترك الأمور تسير في ذلك الاتجاه لحساباته الخاصة، خصوصا حساباته السرية مع فرنسا التي احتضنته في أيامه الأخيرة جزاء له على تفانيه في خدمتها، فتكونت نواة ما نراه اليوم من شيعة المغرب، والذين هم في غالبيتهم شيعة مخترقون رغم ولائهم الظاهري لإيران فهم يظلون الفزاعة التي يمكن رفعها أمام السلفية والصوفية، وهذه تركة ملتهبة أخرى من تركات البصري التي فخخ بها المشهد الديني.
بلعيرج لم يكن يوما رجلا متدينا، كما أنه لم يكن أبدا رجلا عاديا، ولا شك أنه يصعب تحديد ولائه لجهة معينة، لكنه يبقى غير بريء من الكثير من الأمور، والمؤذي في قصته أنه في ملفه ساق الكثير من الأبرياء إلى السجن، مثلما فعل حسن الخطاب عندما كان يفتي بإباحة دم المسؤولين المغاربة، والفيزازي الذي كان يخطب في جالية أوربا ويطالبها بسرقة البنوك وإرسال الأموال إلى المجاهدين، والحدوشي الذي كان يكفر ديمقراطية الأحزاب وباقي المؤسسات، وغيرهم من الشيوخ الذين ذهب في «جرتهم» الآلاف من الشباب المغربي، سواء في السجون أو في ساحات الاقتتال بسوريا ومختلف مناطق النزاع عبر العالم.
وفي الأخير ماذا يخسر هؤلاء الشيوخ عندما يغادرون أسوار السجون تاركين خلفهم ضحايا أفكارهم وفتاويهم، يخسرون جملة واحدة «كنا مخطئين».
بلجيكا التي تعيش اليوم حالة حظر التجول بسبب التهديدات الإرهابية، تكتشف الوجه الأكثر رعبا لذلك الوحش الذي تربى بين أحضانها، وإذا سكنت في بروكسيل فإنك حتما قد تكون يوما ما صافحت رجلا قد يتبين في ما بعد أنه لص أو مهرب أو حتى إرهابي، والأكيد أنك سوف تكون قد سلمت أو تبادلت الابتسامة، دون أن تدري، مع مئات المخبرين، بعضهم ترقى إلى أن وصل رتبة عليا في سلم «تاشكامت».
لذلك عندما اعتقل بلعيرج ووضع في السجن قامت القيامة داخل الأجهزة البلجيكية، وحاولت الدولة البلجيكية إخراجه بجميع الوسائل، في محاولة منها لإظهار أنها لا تتخلى عن عملائها، وذهب الأمر إلى حد توتر العلاقات البلجيكية- المغربية، إلى درجة اضطر معها ملك بلجيكا لزيارة المغرب لتهدئة الأوضاع. وها هو الملك البلجيكي ذاته يلجأ إلى المغرب اليوم لكي يطلب من الملك مساعدة بلجيكا أمنيا لحمايتها من ضربات الانتحاريين.
لا يزال بلعيرج في السجن، لكن الكثيرين من ضحاياه وضحايا غيره لا يزالون أيضا فيه، ومنهم من قضى مدته وخرج، ومنهم شخص كان نابغة في الصيدلة وكان أول مغربي يحصل على الشهادة العليا في التحليلات الطبية منذ افتتاح الشعبة في جامعة بروكسيل الحرة في الستينات، بل وحصل على الرتبة الثانية في فوجه، رغم عنصرية الجامعة.
إنه نموذج للمغربي العادي الذي يؤدي صلواته، متزوج وله أبناء ولا علاقة له بـ«الصداع» لا من قريب ولا من بعيد، قرر العودة إلى البلاد واستطاع أن يدير مشروع مختبر وصيدلية بنجاح، فكان يستورد آخر ما وصلت إليه منتجات المختبرات، وكان يتصدى لبعض المختبرات وشركات الأدوية المغربية المعروفة بغشها.
في هذه الآونة انتقل إلى الاستثمار في العقار، وكان كعادته يتحرى الجودة والانضباط، فأراد إنشاء عمارة بمواصفات صحية جيدة وبأثمان معقولة، لكن المال كان يعوزه فصار يبحث عن شريك.
هنا سيقترف غلطة العمر بعدما سيتصل بصديق مشترك يدير صيدلية في حي ذي كثافة مغاربية في بروكسيل، وكان هذا الصديق يعرف أخا لبلعيرج كان يأتي لأخذ أدويته عنده حيث كان مصابا بالسرطان، فحدثه عن صديقه ومشروعه العقاري، فوافق ذلك رغبة بلعيرج في الاستثمار في العقار، وبعد لقاءين أو ثلاثة وتوقيع العقود أرسل بلعيرج بدفعات من المال وبدأ البناء في الورش وتم في أحسن الظروف.
بيعت جميع الشقق إلا واحدة، حيث اتصل بلعيرج بالرجل وطلب منه أن يتركها له. وظلت كذلك مدة ثلاثة أشهر أو يزيد، وكان أثناء ذلك يتردد عليها أحدهم بصفته صديقا لبلعيرج.
اتصل الشريك ببلعيرج وطلب منه تصفية المشروع وإنهاء أمر هذه الشقة، وهو ما كان بالفعل وأخذ كلٌ أرباحه وانصرف إلى حال سبيله.
بعد أشهر من انفجار قضية بلعيرج قبضت الشرطة على صديق بلعيرج الذي كان يسكن الشقة وسألته أين كان يقيم، فجاءت عند الصيدلي بصفته مسؤولا عن المشروع، فاعتقل وقضى حوالي عامين في سجن سلا دون أن يعرض على المحكمة.
سنتان من عمره قضاهما في سجن سلا على ذمة التحقيق مع المجرمين وقطاع الطرق، وفي الأخير أطلق سراحه لغياب أي دليل يدينه.
أمثال هؤلاء الضحايا الذين يقودهم سوء حظهم ليكونوا في طريق هؤلاء المشايخ والمخبرين الدوليين المزدوجين كثر، لكن أكثرهم خطورة هم أولئك الذين يتعرضون لغسيل دماغ منظم من طرف من يعتبرون أنفسهم مشايخ وسلطا دينية ومراجع روحية، ليكتشفوا في الأخير أن هؤلاء المشايخ اعتذروا عن مواقفهم واعترفوا بأنهم كانوا مخطئين في حق وطنهم، فيصابون بالإحباط وهم يندبون حظهم في السجون، فيما مشايخهم الذين ربوا البطون يتجولون بالطائرات حول العواصم العالمية وينشرون صور «غزواتهم» السياحية على صفحاتهم الفيسبوكية، مبشرين بمشاريعهم الحزبية المستقبلية، هم الذين ظلوا يرددون أن الأحزاب كفر والانتخابات رجس من عمل الشيطان، فسبحان مبدل الأحوال.