صلاة جمعة تحت المطر
لا حديث في مدن الشمال هذه الأيام إلا عن موسم الأمطار الغزيرة، التي تنبت الزرع وتكشف الغش.
وبالإضافة إلى صور الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية يا حسرة، التي غرقت بسياراتها وكأنها قرية صغيرة على خط الاستواء، فإن مدينة طنجة هي الأخرى شهدت، أول أمس، ليلة استثنائية. الشارع الرئيسي أمام مطار ابن بطوطة ظل لساعات غارقا في المياه، واضطر المسافرون الذين قدموا إلى طنجة عبر الرحلات الوطنية، إلى الطيران مرة أخرى أمام المطار للوصول إلى رصيف السيارات.
كلما أمطرت في طنجة، فإن المياه تغسل واجهات البنايات المهجورة، التي كانت لها قصص مثيرة فعلا مع المطر.
قرب مسرح «سيرفانتيس» المهجور، الذي لا يزال ينتظر مصيره المجهول، ما زالت آثار بعض البنايات التي بنيت قبله واقفة تنتظر أن تنفذ عليها الأمطار حكم الهدم.
هذا المسرح الذي انتهت الأشغال به سنة 1913 ويصنف اليوم كنزا من كنوز إفريقيا الثقافية، بعد أن رفعت إسبانيا يدها عنه، شهد ركحه مسرحيات كثيرة ولحظات عفوية لفنانين عالميين، أحدهم «أنطوني كوين».
هذا الأخير الذي يجهل محبوه أنه كان مفتونا بطنجة، وأنه أتى إليها رفقة زوجته، في قمة مجده السينمائي حتى قبل أن يلعب دور «عمر المختار» و«حمزة» في فيلم «الرسالة»، وهما الفيلمان السينمائيان العالميان للمخرج الراحل مصطفى العقاد.
تزامنت هذه الأمطار الغزيرة أيضا مع عمليات ترميم المدينة القديمة في طنجة، وهي المدينة التي بنيت فوق حطام مدينة رومانية تعود إلى آلاف السنين. ولعل إعادة ترميم المنازل اليوم واستبدال الأرصفة، قد يسببان إعاقة حقيقية لحركة السكان المحليين وهم يعبرون إلى منازلهم من خلال الأزقة الضيقة، التي كانت في السابق طريقا رسميا للقناصلة والسفراء وأثرياء طنجة، الذين كانوا لا يجدون أي حرج في شراء منازل في الحي نفسه، الذي يسكنه سكان المدينة الأصليون من التجار والناس العاديين.
وبما أن أهل طنجة ألفوا هذا النوع من المطر، فإنه لا بأس أن نذكرهم بقصة نسيت رغم أنها كانت أحد أهم ما نقله مواطن أمريكي أقام في طنجة، ما بين سنتي 1893 و1905.
كان هذا الأمريكي يعمل مشرفا على المرافق في سفينة أمريكية، كانت تقوم برحلات إلى مختلف العواصم العالمية وقتها. وكان من مسؤولياته الإشراف على المشتريات الخاصة بمخازن السفينة، من أطعمة وأغراض.
وعندما توقفت السفينة في طنجة، يوم 18 دجنبر 1893 للتزود بحاجياتها من الأطعمة، وقع الأمريكي «سام شانان» في حب المدينة في ثلاثة أيام فقط، وقدم استقالته لرئيس الطاقم، وقرر البقاء في طنجة رغم أنه لم يخطط للأمر نهائيا.
يحكي هذا المغامر الذي جاب آسيا طولا وعرضا، أنه لم ير أبدا مدينة بمثل جمال طنجة. حتى أنه اكترى في البداية بيتا في قلب المدينة القديمة، وقرر زيارة كنيسة يتردد عليها الإيطاليون، أيام الآحاد.
وحدث أن عاش تجربة فريدة جدا، تتعلق بالمعتقد الديني للمسلمين، إذ إن سكان طنجة رفضوا، كما يقول، سنة 1898، أن يؤدوا صلاة الجمعة في كنيسة بسبب المطر. حيث إن المسجد في قلب المدينة كان يعرف تسربا لمياه الأمطار الغزيرة، مما جعل حالة زرابي الصلاة مزرية. وبما أن الأمطار كانت لا تتوقف عن الهطول، فإن إقامة صلاة الجمعة في تلك الظروف كانت مستحيلة.
وفكر هذا الأمريكي في فتح الكنيسة أمام المسلمين لأداء الصلاة داخلها. ورغم أنه وجد صعوبة كبيرة في إقناع المشرفين على الكنيسة الإيطالية الصغيرة، إلا أنه كان من المستحيل إقناع الإمام وسكان الحي بأداء صلاة الجمعة قرب الصليب، وهكذا أدى المسلمون صلاتهم في زقاق ضيق مغطى ببناء تقليدي، بينما كان الإمام يخطب فيهم من نافذة منزل صغير كان يقع في المرتفع. ولاحقا رأى كيف أن سكان طنجة، رغم أنهم كانوا يرتدون الجلابيب الصوفية، إلا أنهم كانوا يمشون على مهل في الشارع تحت الأمطار الغزيرة، في وقت كان الأوروبيون يراقبونها من النوافذ، أو يسمعونها قرب المدفأة.
ومن يومها، يقول «سام»، إنه فهم جيدا أن علاقة المسلمين بالمطر: عجيبة ولا يمكن أن تفسر!