صلاة التراويح هي ثماني ركعات، هكذا ورد في الحديث الصحيح، لكن ما جرى أنه زيد فيها. في مدينتي التي نشأت فيها القامشلي كانوا يصلون عشرين ركعة، وهي كذلك في كثير من مساجد المسلمين، مع أن الحديث الصحيح ينص على أن رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم ما زاد على ثماني ركعات في رمضان وغيره. وهذه الزيادة في الصلاة أذكر أن آخرين رفعوها إلى 36 ركعة أيضا، ربما كان من فعلها الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز من خلفاء بني أمية.
أنا شخصيا كنت أصلي في الناس إماما وقارئا، اخترنا لصلاتنا مكانا خاصا في سوق قديم بمدينة دمشق، أيام الدراسة الجامعية، هو سوق مدحت باشا وهو من مخلفات التراث التركي. كان الحضور شبابا جامعيين، وفي ما أذكر أن راشد الغنوشي التونسي صلى خلفي ولم انتبه إليه يومها، أو ربما لم يصرح بنفسه عن ذلك. كانت الصلاة طويلة تستغرق قريبا من ثلاث ساعات، كنا نستريح بين الركعتين والركعتين، ونتناول بالحديث ما جاء من آيات أو ما سوف يأتي من آيات. كنا نصلي ثماني ركعات، ونعتمد قرآن الحفاظ وهو غير المعتمد من مصاحف في المغرب. حتى أنني في المسجد القريب مني في مدينة الجديدة، حيث استقررت فيها، ومنحت إقامة عشر سنوات لم أشاهد إلا مصاحف (ورش)، ولم أجد النسخة التي أعرفها.
ميزة قرآن الحفاظ العثماني أن كل صفحة تنتهي بآية، فلا تقفز الآية إلى الصفحة المقابلة وهو ما هو موجود في المصاحف المغربية. يسمى أيضا مصحف الحفاظ، ويتكون من 15 سطرا في العادة، بحيث ينتهي مصحف الحفاظ بآية في نهاية الصفحة. وهذا يعني أن الجزء مكون من عشرين صفحة، وهذا يعني في صلاتنا أن نقرأ خمس صفحات في كل ركعة، أي ورقتين ونصف الورقة. كان الجو روحانيا عابقا، فإذا انتهينا من الصلاة ختمناها بالوتر في ثلاث ركعات، ثم نجلس فنتحدث بأفكار السورة، وكان يتحفنا أحد الإخوة بعرض سينمائي أحيانا عن بعض ما ورد في الصلاة، وفي زيارة لجودت سعيد المفكر كان يتحدث للشباب عن كثير من أفكار الحداثة.
المهم في صلاة التراويح ليس الهذرمة والقراءة السريعة. ومن أعجب ما أتذكر أن إماما مصريا جاءنا أيام الوحدة الناصرية، فصلى بنا، فإذا قرأ آية مثل (والنجم إذا هوى)، هوى هو إلى الأرض في حرص عجيب لإنهاء صلاة يريد أن يخلص منها ويرتاح، بل رأيت صلاة عجيبة من نقر كنقر الديك، كأن القوم في ماراثون للمفاصل والركب. صليت خلف الكثير فلاحظت حرصهم على قراءة جزء يومي، وهو ليس بالضرورة أن يتم في جو من السرعة وعدم التركيز والخشوع؛ فإذا أضيفت إليها تخمة الأكل كانت الصلاة عذابا.
ومما لاحظت من خصال المغاربة الجميلة فيهم أيضا رمضان، فهم يفطرون على القليل، ثم يصلون، فإذا فرغوا من التراويح أكلوا ما تحتاجه أبدانهم من فيض الطعام، أهمية عدم الإثقال أنه مريح في الصلاة. ومن الأشياء الجميلة في لغتهم استخدام كلمة روضة للمقبرة، أو أن تلبس الأرملة البياض وليس السواد، وكثير من كلماتهم أصلية عربية، مثل الحوت ونسميه السمك، أو عن الكلب أنه يلهث وكلها من معين القرآن.
سألني أخ زوجتي المغربي في فرنسا ماذا يصلي؟ نصحته بأن لا يبدأ بـ«البقرة»، السورة الطويلة، بل قصار السور. ونصيحتي لقرائي الشيء نفسه، اعتماد الأجزاء الثلاثة الأخيرة من القرآن، أي الجزء 27 من سورة «الذاريات» حتى «الحديد»، وقبلها كل من سورة «الحجرات»، حيث القوانين الأخلاقية، ثم سورة «قاف» التي تنهي جدل الموت والحياة. وبعد ذلك الجزء 29 من سورة «الملك» حتى نهاية الجزء بسورة «الإنسان» (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا). أما الجزء الثلاثون الموسيقي، فهو نغم إلهي. من سورة «النبأ» حتى المعوذات الثلاث. قرأت، قبل يومين، (إن للمتقين مفازا) من آخر سورة «النبأ»، فتذكرت ذلك المنام وأنا معتقل في سجن المزة الرهيب، حيث رأيت في المنام هذه الآيات، فجاء الفرج في اليوم التالي.
أكرر ليس من الضروري قراءة الكثير بغير تركيز ووعي، وهو ما يفعله الناس عموما، والتركيز أنه لا بد من قراءة جزء ولو بدون أي تركيز. أنا حاليا أصلي مع زوجتي في البيت، فأتمتع بقراءة بطيئة متملية واعية، تذكرني بالآية (إن ناشئة الليل كانت أشد وطئا وأقوم قيلا). إنني بهذه القراءة المتأنية أجد خشوعا وحضورا، وكأنني أقرأ القرآن مجددا، بل تتحرك ذكريات الشباب حين بدأت في حفظ القرآن، فأفهم الجديد من معين الآيات.
ومن غريب ما أجد أن الناس في رمضان يحتشدون في المساجد، فأضحك وأقول يبدو أن الله يحضر في رمضان ليختفي بعده، وهو معكم أينما كنتم. لنقول إنه تقليد جيد، ولكن الكثير مما نفعله يبقى ميتا. ليس فقط مشاهد احتشاد الناس في المساجد في رمضان، أيضا مظاهر الحج والعمرة، حيث تتعلق قلوب الناس بذلك المكان، ولكن الطقوس عموما تبقى ميتة، ما لم يتم إحياء المعنى. ومنه ذكر القرآن أنه أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون. وهو أمر مكرر جدا أن أهل الجنة لا يسمعون لغوا ولا تأثيما. وهو حقيقة أمر شاق أن يعتاد الإنسان التخلص من الأمرين، لغو الكلام أو الخوض في آثام يعلمها أو يجهلها، ومنه افتتحت سورة «الفاتحة» التي نقرأها 17 مرة في اليوم، أن الناس ثلاثة أنواع، الواضح، سواء التقي أو الكافر، أو الصنف المتقلب المتذبذب المنافق.
ولافت للنظر أن آيات التقي كانت أربعا وكانت آيات الكافر اثنتين، أما المنافق فاحتاج 13 آية من أجل وضع المنافق تحت الضوء، و(إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار). يبقى السؤال هل يراجع أحدنا نفسه أن يكون قد تخلص من خصال النفاق، ولعل أهمها الكذب وإخلاف المواعد.
خالص جلبي