صدام المصالح (3/2)
كل المعطيات الاقتصادية التي جاء بها مقال مجلة «الفورين بوليسي»، بخصوص المغرب صحيحة، فالمؤشرات مقلقة بالفعل، والمغرب على أبواب الإفلاس ويعول على المطر في الموسم المقبل للحصول على ثلاث نقط في النمو وتحقيق الاكتفاء.
الغريب أن كاتب المقال، الذي يطالب الملك بمنح سلطاته لرئيس الحكومة، لم ينتبه إلى أن من قاد البلاد طيلة الأربع سنوات الأخيرة إلى هذا المطب المالي والاقتصادي ليس شخصا آخر سوى رئيس الحكومة نفسه.
ففي عهد رئيس الحكومة ارتفعت نسبة البيع بالمزاد العلني، أي «الدلالة»، بعشرين بالمائة مقارنة بالسنة الماضية، بحيث خلال ستة أشهر تمت سبعة آلاف بيع بالمزاد العلني.
أما حالات التصفية القضائية للشركات والمقاولات فقد وصلت إلى ستة آلاف مقاولة تمت تصفيتها، دون الحديث عن 37 ألف مقاولة مهددة بالإفلاس في أية لحظة.
وتبقى الجريمة الكبرى، التي ارتكبها رئيس الحكومة في حق المغرب، هي إغراقه في الديون وتسليمه فريسة سهلة لوحوش البنوك العالمية، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
إن رئيس الحكومة، الذي تنصح «الفورين بوليسي» الملك بتسليمه سلطاته قبل فوات الأوان، من أجل إنقاذ البلاد من الفوضى، هو نفسه من يقود البلاد نحو الفوضى بسياساته العمومية الخرقاء والمتهورة.
هذا ما يدفعنا في نهاية المطاف إلى التساؤل عن الأجندة الحقيقية التي يشتغل لحسابها رئيس الحكومة، فالظاهر أنه يهيئ على مهل الظروف الاقتصادية لانفجار اجتماعي وشيك يقذف به إلى الواجهة من جديد، ويعطيه الطاقة لفرض شروط استثنائية لضمان السلم الاجتماعي وعدم النزول إلى الشوارع، فقد سبق لرئيس الحكومة أن حذر من أنه في المرة المقبلة إذا تحرك الشارع فإنه لن يضمن لهم البقاء في بيته.
وبعيدا شيئا ما عن التهييج الانتخابي عبر الفيسبوك، الذي تجندت له اليوم كتائب العدالة والتنمية لتلميع صورة الحزب وشيطنة معارضيه، سنطرح أسئلة أكثر خطورة على هذه التجربة الأولى من نوعها، التي يقطعها المغرب مع حكومة تدعي أنها إسلامية.
والسؤال المحوري هو هل لهذه التجربة علاقة مع أجندات خارجية هي اليوم بصدد إعادة تشكيل الخارطة السياسية بجهة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، وهي للذكر جهة غنية جدا اسمها قطر، وجهة فاصلة بين معسكرين لم ينفضا بعد من صراعهما القديم الذي يتجدد كل 50 سنة اسمها تركيا، وجهة طاعنة في التخلف وسهلة التمطيط والتحكم عن بعد.
سؤالنا عن علاقة حكومة الإسلاميين بالخارج تبرره معطيات كثيرة، إذ لم يعد يسمح لحكومة عربية اليوم أن تغرد خارج سرب المتصارعين إقليميا، فقد وجدنا تقاطب الإمارات العربية والسعودية مع قطر في مصر وسوريا واليمن، وتقاطب روسيا والصين وإيران مع المعسكر الغربي في باقي مناطق الدول العربية، ووصول هذا التقاطب إلى المغرب بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، ودول مجلس التعاون الخليجي مع إيران وروسيا، وهي تقاطبات كبيرة لا يمكن بوجودها أن ننفي أن المغرب وحكومته خارجها، خصوصا في المراحل القليلة الماضية حيث وصل التقاطب ذروته.
حكومة بنكيران تجد راحة كبيرة في التموقع مع قطر وتركيا وإخوان مصر، وهو التموقع الذي دلت عليه مجموعة متواترة من الأحداث والسلوكيات السياسية للعدالة والتنمية المغربية، فهناك بعثات كوادر الحزب من وإلى قطر بشكل منتظم، بحيث إذا تم الرجوع لكشوفات سجلات مغادرات المطار والطيران وحجوزات السفر وفنادق الإقامة، سنجد أن حركية الحزب نحو قطر وتركيا نشيطة بشكل مباشر، من خلال أنشطة قادة الحزب هناك وبشكل غير مباشر من خلال أنشطة جمعيات الطلاب المغاربة هناك وأنشطة نوادي الاستثمار والاقتصاد.
هذا الفعل الدبلوماسي للإخوان المسلمين بالمغرب، المتوازي مع الأجندة العالمية للإخوان المسلمين المدعومين من الرأسمال القطري، تم تعطيله مؤقتا في أول تصادم دبلوماسي مع العربية السعودية، إثر أنشطة موازية قام بها سعد الدين العثماني مع الإخوان المسلمين المصريين، في إطار مهام رسمية خصوصا بالكويت، وهو تصادم كلف الحزب التخلي بسرعة عن حقيبة الخارجية والتضحية السريعة بسعد الدين العثماني.
المراكز البحثية القطرية، أو الممولة من طرف قطر، وهي مراكز صنع قرارات جيوسياسية أكثر من كونها مراكز بحث تربط علاقات متينة مع «أنتلجنسيا» الحزب وكوادره المكلفين بالعلاقات الخارجية والإعلام، وهي علاقات تم تتويجها بتقديم منح سخية للأساتذة المقربين وبتنظيم لقاءات تأطير واستقطاب من تنشيط قطري، كمحاضرات عزمي بشارة ومقالاته ومحاضرات طارق رمضان ولقاءاته الطلابية، وهما للذكر مديرا مركزين للبحث من تمويل قطري حصري، بل وتمادى التطبيع مع قطر لدرجة أصبحت حكومة العدالة والتنمية تسمح بانتقال فيلق من الأساتذة للإشراف على إجراء امتحانات في الدوحة لزوجة حاكم قطر المسجلة بالجامعة المغربية.
الخطير ليس في أن تربط الحكومة المغربية الإسلامية علاقاتها العلمية والاقتصادية والجيوسياسية مع دول بحد ذاتها، لكن الأخطر هو أن يكرر الحزب نفس سلوكيات التحكم هناك ويجربها هنا، حيث استوعب الحزب دروسا أعطت أكلها مثلا مع تركيا وحزب العدالة والتنمية هناك.
مثل درس العفو عن الأموال المهربة وإدخال الرساميل الهاربة، حتى يتمكن الحزب من فتح بوابة استثمارية قوية لمشاريعه والممولين الجدد له. الشيء نفسه قام به أردوغان بمجرد اعتلائه كرسي الرئاسة، حيث اجتمع لمدة 5 أيام مسترسلة مع كبار المليارديرات الأتراك الهاربين لروسيا والأناضول، وهم كبار المتحكمين في تجارة السلاح والأفيون المستقرين بروسيا، وهو الاجتماع الذي بيض فيه الرئيس التركي الذمم الجنائية لهؤلاء الأباطرة الذين لم يترددوا في العودة إلى تركيا وضخ أموالهم الطائلة في مجالات السياحة والعقار والخدمات.
الشيء نفسه قام به الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي، عندما أعفى ما بذمة آل ساوريس وآل طلعت وميلود الشعبي من كل المتابعات الجبائية وفتح صفحة جديدة في التعاقد مع النظام الحاكم الجديد.
حزب العدالة والتنمية، وكأي تلميذ نجيب، هو الآخر قلد النهج نفسه من خلال حركة «عفا الله عما سلف» وجالس كبار رجال الأعمال ومدراء البنوك في المغرب من أجل منحهم صكوكا جدية في الغفران الضريبي مقابل تقويم وتقوية مشاريع الحزب وتجذره.
يراهن الحزب الحاكم على القوة الإيديولوجية التي يستند عليها، من خلال تعزيز قدرات الحركات الإيديولوجية الموالية له وكسب ود الحركات القريبة منه، فالجامعات اليوم هي معاقله في الاستقطاب والتأطير والتعبئة. ولم ير الحزب مانعا في تسليم حقيبة التربية الوطنية، الثقيلة تدبيريا، لوزير تكنوقراطي طاعن في السن، لكنه أصر على الاحتفاظ بحقيبة التعليم العالي مع كل الحقائب التي تدور في فلكها.
ويدرك الحزب الحاكم أن ملف التعليم العالي ملف استراتيجي بالنسبة إليه، ليس لكونه مجالا في تطوير البحث العلمي بل لكونه مجالا استراتيجيا في التحكم الإيديولوجي عبر الجامعة، التي تعد خزانه البشري الحيوي.
ومقابل الجامعة، هناك سوق الكتاب الذي انتعش من ناحية الإنتاج «النظري الوهابي» وسوق «السلك الثالث» الذي يحشد جماهير طلابية غفيرة مناصرة، من دون إغفال المناداة على المفكرين «النجوم» كعزمي بشارة وطارق رمضان الذي حطم الأرقام القياسية في المحاضرات بالرباط والدار البيضاء بين 2012 و2014، مع زيادة كبيرة للطلبة المريدين واستهداف ذكي لطلبة المعاهد العليا العمومية والخاصة في التسيير والتجارة والتدبير، لأن كل حزب لديه مشروع التحكم ينوع في الفئات المنتمية له وخصوصا فئات شباب الطبقات الوسطى.
يجتهد الحزب الحاكم في التنزيل المحكم، ليس للدستور، بل لجيوش الموالين في أسلاك الإدارة ومراكز القرار، بحيث تبين للمتتبعين كيف أن العدالة والتنمية موه الجميع في الأول وادعى أنه لا يركض نحو مناصب المسؤولية الإدارية، وليست لديه مطامح التوسع فيها. لكن بعد نكوص انتباه المتتبعين، بدأ يزرع مواليه من خريجي الجامعات في أسلاك الإدارة بعد مباريات إدماج تشوبها شكوك كثيرة، ويزرع مريديه في مناصب القرار الإداري بسرعة جنونية.
الحزب الذي يقود الحكومة يسارع الزمن لتمرير أخطر المراسيم في باب الوظيفة العمومية، ألا وهو مرسوم تنقيل كوادر ومتصرفي الإدارات العمومية، وهو مرسوم ببهارات حزبية قوية، حيث سيمكن في الآن نفسه من «جلاء وإبعاد» المعارضين وتقريب المريدين والموالين بجرة قلم بسيطة وبقرارات إدارية داخلية سهلة.
بوادر التحكم بدأت خلال الانتخابات الأخيرة للجان متساوية الأعضاء، والتي بوأت نقابة العدالة والتنمية مكانة متقدمة جدا في انتخابات هي اليوم موضع شكوك العديد من النقابات، أولها نقابة حزب الاستقلال ونقابة الاتحاد الاشتراكي بشطريها، والآن المنظمة الديمقراطية للشغل تقف وقفة احتجاجية أمام البرلمان متهمة القطاعات المنظمة للعملية الانتخابية، أي الوظيفة العمومية، بالتزوير لصالح نقابة يتيم.
وتبقى المراهنة على التواصل الجماهيري، بدل المؤسساتي المتحكم فيه، الهدف الأسمى لمصطفى الخلفي وزير الاتصال والراعي الحزبي لسياسة إخضاع الإعلام والصحافة المستقلة، وما تجاوز وزير الاتصال لمؤسسة وكالة المغرب العربي للأنباء وفتحه حسابات على الفايسبوك إلا دليل على أن العدالة والتنمية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما خنق التواصل التفاعلي، كما فعل أردوغان ومرسي، وهو ما لم يجرؤ أحد منهم على فعله، وإما الانفتاح على بوابات التفاعل في الأنترنيت مع العمل على استقطاب الفاعلين الكبار فيه، واستعمال المال العام لشراء صمت المواقع الإخبارية البارزة لضمان دعمها أو حيادها على الأقل.