المهدي مبروك
تذكر الإحصائيات أن عدد المهاجرين الذين وصلوا من تونس إلى الشواطئ الإيطالية، عبر مختلف الطرق البحرية والبرية ربما تجاوز ثلاثين ألفا، بينهم نساء وأطفال، في سابقة هي الأولى من نوعها لم تعرف تونس لها مثيلا، قبل الثورة أو بعدها. فاقت هذه الموجة تلك التي اندلعت بُعَيد الثورة، حيث ناهز عدد المهاجرين آنذاك 25 ألفا. وتؤكد منظمات دولية عديدة، ومنها المفوضية العليا للاجئين، أن عدد الضحايا، سواء الذين غرقوا أو الذين ثبتت وفاتهم، وعُثر على جثثهم تطفو أو ألقتها الأمواج على الشواطئ، تجاوز ثلاثة آلاف في عرض البحر الأبيض المتوسط.
اتخذت ردود الأفعال التي شهدتها مدينة جرجيس بتونس، إثر غرق مركب كان عليه ما يناهز العشرين ضحية منحىً آخر، قد يكون الخطأ الإداري الذي ارتكبته السلطات الصحية والأمنية، حين دفنت الجثث التي عُثر عليها في مقبرة حديقة أفريقيا (مقبرة الضحايا الأجانب)، التي عُرفت عند الأهالي بمقبرة الغرباء، القطرة التي أفاضت الكأس. غضب الأهالي من أخطاء الدفن التي رافقت المأساة، وتأخر السلطات في البحث عن الناجين المحتملين والمفقودين وصمتها الرهيب، إذ هي العوامل التي دفعت إلى الاحتجاج الذي ظل يتحرك في أفق محلي قبلي بحت، ولم يرتق إلى احتجاج وطني يشد إلى قضايا كبرى. رفض فاعلون محليون عديدون ما يسمونها توظيفات سياسية محتملة لتحركاتهم، وظلوا يوجهونها ضمن ذاك الأفق. لم تطرح القضية ضمن أفق وطني مواطني، أي إخفاق السلطات في حل معضلات الشباب وتوفير الشغل والكرامة لهم، وهي شعارات استغلها قيس سعيّد، من أجل تحريك الغضب واستثماره في تحريك طيف واسع مساند له.
لا شيء تحقق من تلك الآمال التي علقها بعضهم عليه، بل تؤكد كل المؤشرات أن خلاف ذلك يحدث بشكل عبثي. كان سعيّد يرفض التعامل مع صندوق النقد الدولي، فها هو يهرول إليه ويقبل شروطه المذلة، ويعتبر أنصارُه ذلك مكسبا، وظلوا يهللون له. يجري هذا كله وبعض المواد الغذائية مفقودة، علاوة على غلاء فاحش في الأسعار، وتردي الخدمات العمومية.
كان أهالي الضحايا ينتظرون أن ترافقهم السلطة السياسية في آلامهم تلك، غير أن شيئا منه لم يحدث، وظلت السلطات تلوذ بالصمت، حتى انتفضت المدينة واحتجت أكثر من أسبوع آنذاك. فقط التقى الرئيس وزيرة العدل، ومن جديد استدعى ضرورة المقاربة الأمنية التي يتوهم أنها كفيلة بوضع حد للظاهرة، وما تلقي به من مآس تكاد تكون يومية.
كعادته، يقول الرئيس إن ظاهرة الهجرة «بفعل فاعل»، وإن «حيتان البر لا تقل قسوة عن حيتان البحر»، وهو يعني أن هؤلاء الشباب هم ضحايا تجار البشر. ولا شك في أن الهجرة، في جزء منها، سوق تجاري مربح يدر أموالا طائلة على هؤلاء، غير أن المشهد أكثر تعقيدا. ذلك أن عديدين من هؤلاء لا يدفعون هذه الأموال إلى منظمين، بل يعمدون إلى شراء محركات مراكب بحرية متهالكة، وهذا ما يفسر ارتفاع عدد الضحايا. هم «مهاجرون هواة»، يعدون مغامرتهم بمفردهم، وهم مستعدون للرحيل، حتى ولو كانت نسب النجاة في هذه الرحلة ضئيلة.
جربت تونس كل الوصفات التي أوصت بها المنظمات الدولية: ومضات تحسيسية، مشاريع صغرى، مرافقة اجتماعية ونفسية للشباب المقبل على الهجرة غير النظامية، ولكن لا شيء تحقق على أرض الواقع.
قد تكون البلاد ضحية قربها الجغرافي من إيطاليا، لكنها ضحية سوء حوكمة مزمنة في مواردها البشرية، وتحديدا الشباب. كنا نعتقد أن الثورة ستعيد الاعتبار إلى هذا الرأسمال البشري، ولكن يبدو أن شيئا ما حال دون ذلك. استمرت الصراعات السياسية وألعاب التموقع القاتلة، ونسيت النخب الرابحة أو الخاسرة في الانتخابات المتعقلة أن الشباب ليس له من بدائل عديدة، إما الهجرة إلى إيطاليا، أو الهجرة إلى عوالم خاصة، مغرقة في الانثناء الهووي المدمر أحيانا. تؤكد الإحصائيات التي نشرتها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، أن نسبة الشباب الذي أقبل على الانتخابات أخيرا كانت ضعيفة. يتوازى عزوف الشباب عن الشأن العام، وهجرته إلى المقاهي والإدمان، تماما مع هجرة الشباب إلى الشواطئ الأوروبية. لم يعد الموت فكرة تلجم تلك الرغبات العنيفة في الهروب، لذلك ظلت المقاربة التي اعتمدتها المنظمات الدولية في التوعية بلا أثر أو جدوى.
ما ظل غائبا في كل هذه المقاربات هو الدبلوماسية التونسية، التي لم تستطع خلال السنوات الماضية أن تخطو خطوة واحدة باتجاه عقد اتفاقيات هجرة نظامية مع السلطات الأوروبية. والحال أن من يصل من هؤلاء الشباب، يستوعبه سوق الشغل الموازي في هذه البلدان: لا شك في أن هناك حاجة ملحة إلى اليد العاملة الماهرة أو غير المختصة، لكن تونس لم تستطع أن تفرض شروطا ما تتيح لها تنفيس الضغط الهجري عليها.
نافذة:
لم يعد الموت فكرة تلجم تلك الرغبات العنيفة في الهروب لذلك ظلت المقاربة التي اعتمدتها المنظمات الدولية في التوعية بلا أثر أو جدوى