صحفيون عرب كبار على مائدة المستشار
فتش المستشار أحمد بن سودة في الملفات التي اعتلت رفوف مكتبه في الديوان الملكي، وتحديدا طلبات ناشري ورؤساء تحرير صحف ومجلات عربية، يبدون فيها الرغبة لإجراء مقابلات مع الملك الراحل الحسن الثاني.
كانت الملفات عديدة، تزيد إلحاحا بالنظر إلى تطورات حرب الصحراء وبروز المغرب كلاعب أساسي في صنع خرائط الشرق الأوسط ومحطات الصراع العربي- الإسرائيلي. اختار من بينها أكثر المؤسسات الإعلامية العربية انتشارا وتأثيرا. فقد مكنته تجربة العمل الدبلوماسي سفيرا للمملكة في بيروت من نسج علاقات مع الناشرين والكتاب. وكان إذا صدر خبر أو تعليق في صحيفة يترجل شخصيا ويزور رئيس التحرير في مكتبه لتوضيح الصورة.
قال لي أحد كبار الصحفيين العرب إنه فوجئ يوما بالسفير المغربي أحمد بن سودة يطرق باب مكتبه، ويقدم نفسه كصحفي مغربي يحتفظ ببطاقة انتسابه إلى مهنة الصحافة. وحين شرع يجادله في خبر حول قضية مغربية تطول خلافات المعارضة والنظام، أخرج مقالة كان كتبها في صحيفة «الرأي العام» من غير «يوميات المفتي» التي تتضمن تعليقاته الساخرة، وأوضح لرئيس التحرير ملابسات الحادث. اقتنع الأخير بتوضيحاته، بعدها قال له أحمد بن سودة: «الآن أحدثك كسفير»، وأدلى بمعطيات رسمية تفند ما جاء في الخبر.
كثيرة هي مبادراته في هذا الصدد، حتى أنه اختار مجموعة من الصحفيين العرب المقيمين في بيروت وعواصم مشرقية ليكونوا مستشارين للسفارة المغربية، وكانت تلك طريقته في استمالة الأقلام المناوئة، في فترة تحولت فيها الصحافة إلى دكاكين للتبشير بمواقف الأنظمة العربية المتصارعة.
هو الآن يراجع الطلبات الكثيرة، وإذ يعثر على اسم وطلب صديق، يطلب إلى كاتبته أن تحوله مباشرة إليها من أي مكان يوجد فيه. يخصه بتحية مودة وتقدير، ثم يوحي إليه بأن طلبه في الطريق إلى التحقيق، وأن عليه أن يحضر فورا إلى المغرب، حيث سيخصه الحسن الثاني بمقالة صحفية، متى سنحت أجندته بذلك.
يطمئن المستشار إلى أن واحدا من كبار الصحفيين سيكون حاضرا في الموعد الذي حدده، ثم يقلب في صفحات الطلبات. بنفس الطريقة والأسلوب، يقول المستشار إن الملك الحسن الثاني ما إن علم برغبة الناشر المعني في إجراء مقابلة، حتى أصدر أوامره لإنجاز المهمة. يسعد المستشار أكثر كلما أنهى مكالمة آلت إلى اتفاق على حضور ناشر أو رئيس تحرير أو كاتب مقالة متميز.
ثم يواصل تنقيبه في باقي الطلبات. وعند كل مكالمة يلقي باللوم على نفسه لأنه تأخر في إبلاغ الملك، أو يبرر التأخير في الرد على الطلب بانشغالات كثيرة، وينهي مكالمته بتقديم وعد جازم بأن صاحب الطلب سيقابل الحسن الثاني في أقرب فرصة ممكنة، يجدد لها نفس الموعد. ولا ينسى في غضون ذلك ترديد النصيحة الغالية، أي كتمان نبأ إجراء المقابلة إلى حين، لأن ثمة صحفا كثيرة تنتظر مثل هذه الفرصة، على أحر من الجمر.
يتراجع دور وزارة الأنباء حين سيتسلم الديوان الملكي ملف المقابلات الصحفية، ويقتصر دورها على الإجراءات الإدارية واللوجسيتية العادية. لكن بن سودة يشعر المصالح المعنية باتخاذ الترتيبات اللازمة، ويصر على أن توزيع الإعلاميين القادمين على فنادق بين الرباط والدار البيضاء، ثم يهيئ نفسه للمرحلة القادمة، وهو يعرف أنها ستحفل بمواقف حرجة، لكن دهاءه وخبرته سيمكنانه من تجاوز الأمر.
بدأ الإعلاميون في التوافد على المغرب، وفي ذهن كل واحد منهم أنه سيحظى بمقابلة خاصة لن تخلو من سبق إعلامي كبير. أكان على صعيد تطورات ملف الصحراء أو احتمال استضافة المغرب قمة عربية طارئة، أو البدء بتنفيذ مبادرات لرأب الصدع بين الأنظمة العربية المتصارعة، أو الإلمام بأحداث مغربية أو إقليمية صرفة، لكن المستشار أحمد بن سودة كان وحده يعرف ما في الإناء.
الجميع ينتظرون مكالمته وتحديد موعد المقابلة، التي لا أحد يعرف في أي القصور ستلتئم في الرباط أو مراكش أو إيفران. كان أعد نفسه لمواجهة الموقف، وفي مثل المفاوضات ذات الطابع الانفرادي، اهتم المستشار بزيارة الوفود في أماكن إقامتها. لم يتغير شيء من وعوده والتزاماته، فقد أسر لكل زميل بموعد محتمل. وحين اكتملت لديه الصورة، دعا كل الوفود إلى مأدبة عشاء في بيته.
كانت المفاجأة أن الإعلاميين العرب وجدوا أنفسهم في مواجهة بعضهم. ولم يعد سرا أن كل واحد منهم سيحظى بمقابلة الملك. لذلك اقترح بن سودة أن ينضم الجميع ضمن وفد إعلامي كبير. وقال إنه سيحاول إقناع الحسن الثاني بعقد مؤتمر صحفي مفتوح، يأخذ منه كل واحد غصنا من باقة الورود الإخبارية.
في حقيقة الأمر، كان اتفاق جرى على عقد مؤتمر صحفي للملك الحسن الثاني. وحين عهد إلى أحمد بن سودة بدعوة كبار الصحفيين العرب، انبثقت الفكرة في ذهنه، إذ لم يكن واردا إقناعهم جميعا بالحضور إلى مؤتمر صحفي واحد. وكانت تلك أحد إبداعاته في جمع المتناقضات. ومن أجل تكريس دور المستشار محاورا للصحافة العربية، حرص الحسن الثاني أثناء ذلك المؤتمر على الرد على أسئلة الصحفيين. كل واحد باسم وبعنوان المؤسسة التي يمثلها. ثم تحول الوعد إلى مقابلات خاصة في الآتي من الزمن، كان نصيب الأسد فيها رسا على «الحوادث» و«النهار» و«الأسبوع العربي» ثم «الوطن العربي» و«المستقبل».