صحفية وكفى.. وإن توارت إلى الظل
قال نادل المقهى، وأنا أهم بالارتماء بين أحضان كرسي: عجبا كيف تختارون الانزواء إلى نفس الأمكنة؟ ولما بدا له أني لم أبلغ ما كان يريد إيصاله، ابتسم موضحا: أن فاطمة كانت هناك.
من غير أن ألح في السؤال استرسل بعفوية: لقد تناولت طعام الغداء رفقة الصحفي الشهير نجيب السالمي. أدركت للتو أنه يتحدث عن الوجه النسوي البارز إعلاميا، فاطمة بلعربي التي اقترن اسمها بأمجاد وصولات، وبمعارك وتحديات، لطالما أخفتها وراء صرامة تفضحها تقاسيم طفولة لم ينل منها تلاحق الزمن.
لم يكتب شيء كثير عن رائدات الصحافة، من النساء اللواتي حفرن أسماءهن في الذاكرة. وعاتبني صديق أني استظهرت من أسمائهن، زكية داوود وبهية العمراني ونادية برادلي وفريدة موحا وغيرهن.. لكني ما نسيت فاطمة بلعربي، إلا لكونها مثل جارة الطابق العلوي التي لا تحدث ضجيجا. ولا يكاد الجيران يعرفون متى تدخل ومتى تخرج، إلا حين يلامسون بصماتها في صباحات أيام «لوبنيون» الجميلة، في صورة مقال جريء أو مقابلة مثيرة أو ملاحظات ذكية.
مع أنها تتحدر من عائلة العالم المناضل مولاي بلعربي العلوي، من أسرة أسهمت في صنع مراحل تاريخية هامة. فقد كانت لا تتحدث إلا بصوتها الخالص، ولا تعبر إلا عما تراه من صميم التزامات مهنية إزاء القارئ والمؤسسة التي تعمل بها. وأكاد أجزم أنها لم تغير عنوانها منذ اليوم الذي سكنت «لوبنيون» أعماق قلبها، على عكس كثيرين تنقلوا بين حقول الأزهار والأعشاب البرية.
كان الراحل المعطي بوعبيد في فترة توليه الوزارة الأولى، لا يرى المجالس الصحفية مكتملة من دون حضورها. وكان يقول عنها إنها الصحفية التي لا تكتب إلا عندما تقتنع بجدوى قضية ما. وإذ تعبر عن رأي مخالف، فإنها تشفعه بوسائل إثبات منطقية وموضوعية تفرض الاحترام. لكنها تسأل أكثر إلى درجة محاصرة المعني بالسؤال، ولا تتجاوز حدود اللياقة واللباقة.
لا تعرف معنى للتعب، وكم من مرة لمحتها تمضي مسرعة الخطى لا تلتفت لما يدور حولها، لأنها تكون منشغلة بفكرة أو خاطرة أو موعد إعلامي، ولا تنسى أن تلقي التحية من بعيد. حتى إذا أنهت عملها أعادت التحية مرفقة بابتسامة، إذ يكون لها بعض الوقت، وقد استقلت قطار الأحداث قبل إقلاعه. كذلك هي في مسارها الصحفي نابضة بالأفكار والحركة والحيوية والحياة.
ليس هينا أن يقطع المرء كل تلك المسافات الطويلة في تجربة «لوبنيون» التي عانت من شتى ضروب الرقابة والقمع واضطهاد الأفكار، وما لانت في خطها ولا استبدلت معاطفها بالفرو النفيس. فهي في البدء والمنتهى خلاصات تجارب محاربيها من الرجال والنساء الذين كانت فاطمة بلعربي واحدة من أبرزهم كفاءة وجرأة. وحافظت في كل الأوقات على بطاقة الهوية الصحفية التي لا يخدشها أو يزينها انتماء حزبي، مع أنه كان في وسعها أن تعتلي الواجهة الحزبية والسياسية.
إنه لأمر مثير أن يكون الصحفيون الذين عملوا في المنابر الحزبية، مديرين أو رؤساء تحرير، اختاروا طرقا أخرى، لم يكن الترشح للانتخابات أو الاستوزار أقلها، فيما ندرت وتضاءلت هذه الحالة لدى زملائهم العاملين في الصحافة المكتوبة بالفرنسية، حتى أن مدير «لوبنيون» الحالي، رئيس تحريرها السابق جمال الحجام، فضل أن يبقى صحفيا لا يتحمل أي مسؤولية نيابية. وفي «العلم» التي نشأت صنوتها «الرأي» إلى جانبها، غادر مسؤولوها إلى قبة البرلمان أو الوزارة، مثل عبد الكريم غلاب ومحمد العربي المساري وعبد الخالق حسن وعبد الله البقالي. لكن الوضع يبدو مختلفا في «لوبنيون» باستثناء تجارب رجل الاقتصاد والتخطيط عبد الحميد عواد، أو المدير السابق محمد الإدريسي القيطوني، والوزير الذي لم يعمر طويلا في الشبيبة والرياضة عبد الحفيظ القادري. لكن فاطمة بلعربي اختارت الصحافة دون غيرها، ولم تضع على رأسها أي قبعة لا تتلاءم واختيارها المهني الذي لم تحد عنه أبدا. وقد لا يعرف كثيرون أنها تعرضت لإغراءات واستمالات، وما غيرت من المسالك التي كانت تقطعها يوميا إلى مبنى الجريدة التي أحبتها.
في ندوات ومؤتمرات، دائما تراها تصغي وتسجل، وإذا حدث أن انفلتت عنها معلومة أو معطى ما، تعاود الاستفسار عن حقيقة الأمر.. وإن انشغلت بكتابات في قضايا إقليمية ودولية، من دون أن تفقد نكهة ربط الأحداث والتطورات بالواقع الوطني. وعلى وتيرة تسلسل المستجدات، كتبت فاطمة وأرخت لفترة دقيقة في حياة الصحافة المغربية، منذ كانت رائحة رصاص المطابع تتحول إلى نسائم لا تتلف رائحة العطور الأصلية. وما امتزج الرصاص والمداد وعطر النساء إلا في حالات نادرة أصبحت مضرب الأمثال.
يقول نادل المقهى إنها كانت هناك رفقة زميل مهنة المتاعب نجيب السالمي، الذي لا يمكن ذكر اسمه إلا وتقفز كل الانتصارات والإخفاقات التي عاشتها الرياضة في المغرب. فقد وجدته في آخر مكالمة هاتفية بيننا صافي الذهن، كما لو أنه يردد أنه قام بواجبه وزيادة. غير أن واجبا آخر ربما فرض نفسه على الصحفية اللامعة فاطمة بلعربي، أن تكتب للأجيال الجديدة جملة واحدة مفيدة: كيف تكون المرأة صحفية وتبقى كذلك، وإن توارت إلى الظل.