صباح غير موفق
جهاد بريكي
هذا الصباح يحاول الطقس تغيير نبرته، يصطحب معه نسيما باردا فيفرض علي ارتداء لباس أكثر حشمة، لأتدفأ.
يفرح المتدينون بقدوم الشتاء، فالإناث مجبرات على ستر مفاتنهن، إنه فصل النصر. سائق الأجرة أربعيني بئيس، لا أصدر أحكاما غبية هنا لكنه الانطباع الذي استحوذ علي منذ لمحت عينيه، وتكوين انطباعات عن الناس أمر لا أتحكم به، فلا حرج علي. يحتوي فمه على بقايا أسنان سوداء، كأن حربا ضروسا دارت داخل هذا الفك العريض. أنظر نحوه وأشفق على زوجة تضطر لتقبيل هذا الخراب كل يوم. سيدة داكنة البشرة تجلس في المقعد الأمامي، وأنا خلفها أصم أذنيَّ بأفضل ما جادت به صناعة السماعات. الأصوات البشرية صباحا تصيبني بالضجر، أفضل الآلات الصاخبة والهادئة، الآلات ألطف من البشر. تترجل السيدة ويلتفت نحوي السائق، فأرى شفتين زرقاوين تتحركان، أفهم أنه يحاول استدراجي لحلبته، أتمتم بنعم ثقيلة عله يغير رأيه ويتركني لحالي. أخفض صوت الموسيقى قليلا لأستوعب المهزلة الكلامية التي يريد هذا الشخص تشويه صباحي الثقيل بها. كان يسب المرأة التي غادرتنا للتو، لا أعرف السبب ولم أسأل. «الله يحسن العوان» جملة أرددها دائما ليتوقف الشخص الذي أمامي عن الكلام، خاتمة لحديث لا أريد خوضه. السائق لا يفهم، فيستمر في سرد متاعبه ومشاكله، عقد زوجته، مسؤوليات كبيرة على عاتقه. والفقر المعجون بكثير من الأطفال. كيف يسمحون لأنفسهم بجلب أطفال للحياة، بينما هم أنفسهم يفتقدون لأبسط أساسيات العيش؟ ألا يستحق من يقوم بهذا الفعل عقابا حقيقيا؟ جدتي تقول دائما إنهم يأتون بأرزاقهم، يحملون شيكا على بياض عند خروجهم من أرحام أمهاتهم يصرفه الآباء في بنوك سويسرا والنرويج.
مازال السائق يسب المرأة التي لابد وأنها لا تتذكر وجهه، كان غاضبا جدا منها وكأنها سرقت حقه في حياة كريمة. انتابني فضول لمعرفة جريمتها، كل ما في الأمر أنها لم تكن تحمل فكة.
أراقبه يلتفت نحوي ويصرخ ورذاذ لعابه ينتشر حوله، وأشفق من جديد على زوجة مضطرة لمشاهدة هذا المنظر الغريب كل صباح. لابد أنها تحتاج متابعة نفسية عاجلة.
أوركسترا عازف ألماني تصدح داخل أذني وسائق عنصري يسب امرأة وينعتها بالزنجية لأنها لا تملك سوى أوراق مالية. وأنا أراقب الأضواء الحمراء والخضراء والبشر السائرين لحتفهم الصباحي، يرتدون المشانق ويساقون كقطعان نحو البنايات الإسمنتية والمكاتب الباردة. بي رغبة قاتلة للاختباء داخل سريري لا أرى شيئا سوى وسادتي ولحافي وخصل شعري المتقصفة المتساقطة حولي.
ينهي السائق حفلة اللعن التي أقامها على شرف السيدة السمراء، وينطلق في تبرير كل ما يحصل له، على أنه خير لا محالة. أخفض صوت الموسيقى مرة أخرى لأسمع – أو أسخر- مما يقول. كان يبحث عن الحكمة من وراء كل بؤسه، الحكمة الكامنة في إنجاب فيلق من الأطفال في عالم لا يحتاجهم، الحكمة من إدمانه على سجائر رخيصة، الحكمة من وراء الإشارة الحمراء التي تطول دقائق طويلة تشل الحركة والروح. الحكمة لتبرير العجز والفشل والغضب والعنصرية والفقد والخيبة. ربما هناك خير، بل لا بد أن هنالك مكسبا عظيما وراء كل هذا الخراب، لا يعقل أن لا تكون هناك حكمة جيدة في صالحنا وفي خدمتنا تتدثر بين طيات شقائنا، يجب علينا فقط اكتشافها. ننتقل من مقاومة المعاناة إلى محاولة التصالح معها، تبريرها ومعانقتها كما يفعل باطن الأرض بجثة هامدة.
صباح كريه، يجتاحني خلاله شعور العجز، كيف هزمتني الصدفة بضربة قاتلة، وبدل الركوب مع سائق صامت لا يبالي بمن ترجل ومن صعد. كان حظي هذا الشخص الباحث عن الحكمة.
أترجل أنا أيضا وأتجه بخطى سريعة نحو المستشفى، أفكر في الحكمة الوهمية وراء مصيري الذي تقرر داخل مستشفى يعج بالموت والمفارقات.