شيك بدون «رشيد»
مساء يوم الجمعة سيعرف الرأي العام من سيكون رئيسا للبرلمان، أي الرجل الثالث في هرم الدولة بعد الملك ورئيس الحكومة.
بغض النظر عن عشرة ملايين في الشهر التي يتقاضاها رئيس مجلس النواب فإن المنصب في حد ذاته مريح للغاية ويمنح صاحبه فرصة قضاء أيام طويلة من السنة ملبيا دعوات برلمانات العالم.
ولذلك ربما يردد كريم غلاب في قرارات نفسه وهو يقتحم انتخابات اختيار رئيس مجلس النواب الجديد ذلك الموال الشعبي الذي كانت تردده النساء وهن يتهيأن لفض مجالسهن «ما سخينا يالالة ما سخينا بالجمعية».
وإذا عرفنا كل الامتيازات التي يمنحها منصب رئيس مجلس النواب لصاحبه فهمنا تسابق كريم غلاب عن حزب الاستقلال ورشيد الطالبي العلمي عن التجمع الوطني للأحرار لشغل هذا الكرسي الوثير.
ورغم أن كل واحد من الخصمين المتنافسين لديه ذرائعه السياسية المعلنة التي يبرر بها تشبثه بحظه في المنصب، إلا أن هناك وجها آخر لكلا الخصمين يجتهدان في تغطيته ما أمكن حرصا على طمر تاريخها الشخصي عميقا تحت الطبقات السياسية العميقة.
والذين لم يسمعوا كريم غلاب يرتجل الحديث خارج معجم «سكوت، سكوت السيد النائب» و«الكلمة ليست لك» التي حفظها عن ظهر قلب وظل يرددها خلال ترؤسه لجلسات مجلس النواب، كان لهم ذلك بمناسبة الندوة التي أعلن فيها غلاب رسميا عن نيته الترشح للمنصب. وهي الندوة التي يقال إن فاتورتها أرسلت إلى إدارة مجلس النواب، علما أن غلاب لم يعد رئيسا لهذا المجلس، وبالتالي فعليه أن يضرب يده إلى جيبه ويدفع على حسابه إذا كان يريد أن ينظم ندوة.
لكن يبدو أن غلاب، أسوة بعبد الواحد الراضي، لديه «عقارب» في جيبه ولذلك يخشى أن يدس أصابعه داخله. وعلى كل حال فكل من مر من رئاسة مجلس النواب تصيبه عدوى مرض يختصره المغاربة في «الفا»، أو «الفابور» بالنسبة إلى الذين يحبون الإطناب.
ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن كلما ذكر اسم غلاب هو من أين جاء هذا الرجل إلى الحياة السياسية. وهو سؤال مشروع بالنظر إلى أن كريم غلاب لم يكن يوما مناضلا في حزب الاستقلال، وإنما واحدا من المظليين الذين سقطوا على الحزب من فوق.
وكل من سمع كريم غلاب تتحدث عن المستشار الملكي الراحل مزيان بلفقيه يعرف أن اللقب الذي كان يناديه به هذا الأخير هو «الأستاذ». فغلاب يدين لمزيان بلفقيه بوضعه السياسي والمهني. فقد كان هو من التقطه بعد دخوله من فرنسا حاملا لدبلوم مدرسة الطرق والقناطر التي ظل يعتبر بلفقيه الأب الروحي لكل من تخرج منها.
وكان أول من قدم غلاب لمزيان بلفقيه هو الدويري الأب الذي يعتبر من أوائل خريجي مدرسة الطرق والقناطر الفرنسية.
وهكذا استطاع غلاب أن يضع قدمه داخل مديرية الطرق بوزارة النقل والتجهيز، غير أن الوزير بوعمر تغوان طرده شر طردة. ويبدو أن الأب الروحي لكريم غلاب لم يبتلع هذه الإهانة فتكفل بتعيين تلميذه النجيب مديرا للمكتب الوطني للسكك الحديدية، وما هي إلا أشهر قليلة حتى وجد بوعمر تغوان نفسه مضطرا لمغادرة الوزارة ودخل إليها كريم غلاب وزيرا للنقل والتجهيز في حكومة إدريس جطو.
وقد كان الراحل بلفقيه يريد أن يحرز على موطئ قدم داخل حزب الاستقلال بأي ثمن، حتى أنه طلب تزكية حزب علال لكي يترشح في تاوريرت مسقط رأسه، غير أن قيادة الحزب رفضت وحتى لا يبدو موقفهم عدائيا ضد الرجل رشحوا حسن عبد الخالق في تاوريرت وفاز بمقعد برلماني. وهكذا وبعدما كان عبد الخالق صحافيا في «العلم» دخل البرلمان وبعده انتقل سفيرا للمغرب في الأردن حيث ما يزال إلى اليوم. وهو ما حدث تقريبا مع عبد الله البقالي الذي تحول من صحافي بسيط في «العلم» إلى برلماني يجمع بين وظيفتين يحصل منهما في الشهر على عشرة ملايين، مع فارق بسيط هو أن حسن عبد الخالق لم يستغل يوما جريدة الحزب لكي يشتم الناس كل صباح كما يفعل البقالي، الذي لا يضيره في شيء أن يشتم الإنسان بأقذع النعوت بعد أن يكون قد اتصل به هاتفيا للتو يسأله المساعدة.
وشخصيا أستغرب كيف كتب البقالي يشتمني على صدر جريدة حزب الاستقلال، وهو الذي اتصل بي في الهاتف أسبوعا قبل ذلك يشكو إلي نعت «هيلالي» التوحيد والإصلاح له بكونه يصطنع «موت أحمار»، فما كان مني إلا أن نصحته بأن يتجه إلى القضاء إذا وجد في كلام الهيلالي ما يسيء إلى شخصه.
وإذا كانت لغلاب من «ميزة» فهي أنه لا يقدم على ترشيح نفسه إلى منصب إلا إذا تلقى الضوء الأخضر. وحتى عندما طلب منه قياديون في الحزب الترشح في الدار البيضاء للتنافس على عمادة المدينة رفض غلاب الاقتراح وقال لمحاوريه إنه مرتاح في منصبه رئيسا لمقاطعة سباتة.
غير أن غلاب بمجرد ما غادر الفندق الذي اجتمع فيه بمحاوريه اتصل بالجهة التي يستشير معها، وماهي إلا ساعات حتى اتصل الراحل الساهل، وكان وقتها وزيرا للداخلية، بعباس الفاسي وقال له إن غلاب سيترشح باسم حزب الاستقلال للتباري على منصب عمدة الدار البيضاء. وبعدها جاء غلاب لكي «يبشر» قيادة الحزب بقراره قبول الترشح باسم الحزب، فما كان من «القيادة» سوى أن اعتذرت عن قبول ترشيحه، وهذا هو السبب وراء خروج غلاب في الصحافة ونفيه في آخر لحظة ترشيح نفسه في تلك الانتخابات.
وإذا كان كريم غلاب قد ترك وراءه إرثا ثقيلا في وزارة النقل والتجهيز ما زال نواب العدالة والتنمية يلوحون بإمكانية «توزيع» هذا الإرث كلما دعت «الضرورة السياسية» إلى ذلك، فإن رشيد الطالبي العلمي لديه ماض ثقيل في المحاكم.
ومن كثرة الشيكات بدون رصيد التي وقعها أصبح البعض في تطوان يطلقون عليه لقب «الشيك بدون رشيد». ولو أن سوابق الرجل توقفت عند الشيك بدون رصيد لهان الأمر، لكن نقرة واحدة في موقع غوغل مرفقة باسم رشيد الطالبي العلمي تكشف لك أن الرجل كان لديه معمل سري لصنع الجلد في تطوان ظل لسنوات يشتغل خارج القانون ولا يصرح بأرباحه، إلى درجة أن القابض البلدي في تطوان قام رفقة خلية التتبع في المجلس البلدي بتنفيذ عملية حجز على آلات الخياطة بالمعمل بسبب عدم تسوية وضعيته الضريبية. وليس القابض وحده من حجز على معمل الطالبي العلمي، وإنما صندوق الضمان الاجتماعي أيضا بسبب عدم تسديد صاحبه مستحقات مائة مستخدم التي في ذمته للصندوق.
والأدهى من ذلك أن الطالبي العلمي لم يؤد ولو درهما واحدا لحزينة الدولة منذ افتتاح «المعمل» سنة 1992، مما حرم خزينة الدولة من حوالي مليار سنتيم.
وعلى كل حال فهذه «السوابق» حدثت قبل سنوات، ويبدو أن رشيد الطالبي العلمي قام بتسوية وضعيته تجاه صندوق الضرائب والبنوك التي وقع شيكاتها دون أن يكون لديه في أرصدتها سيولة. فقد ظل العلمي يستعد للجلوس فوق كرسي رئاسة مجلس النواب منذ سنوات، وتقبل عن طيب خاطر القفز عن اسمه في لائحة مزوار لدخول النسخة الثانية من الحكومة نصف الملتحية، ولذلك بدأ في تشطيب باب بيته مبكرا لأنه يعلم علم اليقين أنه لن يستطيع الظفر بمقعد رئيس البرلمان وهو يجر وراءه لقب «الشيك بدون رشيد».
وسواء فاز الطالبي العلمي بمنصب رئيس البرلمان أو فاز به كريم غلاب فإن المعركة الحقيقية ليست هي هذه، بل المعركة الحقيقية هي تحويل البرلمان إلى مؤسسة تشريعية تقوم بدورها السياسي والدستوري كما يحدث في كل الدول الديمقراطية.
المغرب اليوم يواجه «انقلابات» متوالية داخل برلمانات أوربية وأمريكية لاتينية لا تصب في مصلحة قضيتنا الوطنية الأولى، قضية الصحراء. وما حدث في البرلمان الإيطالي الذي طالب الحكومة الإيطالية بالاعتراف ببوليساريو، يجب أن يجعل البرلمانيين المغاربة وهم ينتخبون رئيسهم الجديد يفهمون أنهم يتحملون مسؤولية جسيمة هي مسؤولية الدفاع عن وحدة الوطن وممارسة التشريع.
وطبعا عندما نقول التشريع فإننا لا نتحدث عن «تشريع» الفم في البرلمان مثلما قام به عبد الله البقالي داخل إحدى اللجان وهو يصرخ مطالبا البرلمانيين بتوقيع بيان تضامني معه ضد الوزير محمد الوفا انتقاما لزوجته التي هجرها النوم بسبب ما هدد الوفا بكشفه حولها.
وهكذا فمنصب رئيس البرلمان مهمة صعبة وعلى درجة كبيرة من الأهمية السياسية، ومن سيتحملها يجب أن يعرف أنها ليست شيكا بدون رشيد، عفوا بدون رصيد.