«شوافات» وأغنياء سعوا إلى التحكم في القضاء والتعيينات
يلتقي السحر والشعوذة بالمال، في نقطة السياسيين الفاسدين والموظفين السامين الذين يبحثون عن المال، وبالتالي فإن هؤلاء جميعا يحومون في حلقة، غير مفرغة، لأنها تفرز المصالح والكثير من الامتيازات. يسمع الناس «إشاعات» كثيرة بخصوص النافذين الذين تكفي مكالمات هاتفية بسيطة منهم لقلب الأمور وإلغاء القرارات، لكنهم لا يعلمون كواليس اشتغال هؤلاء الناس وطرق مزاولتهم لمهامهم التي لا تجري إلا وسط أدخنة «المجامر» وطيات التمائم.
في هذا الملف، تنقيب تاريخي عن أصول السحر والشعوذة في الإدارات العمومية والأماكن التي يفترض أنها تجسد هيبة السلطة، لكن السحرة والمشعوذين و«الشوافة» وصلوا إليها ليسهلوا للذين جاؤوا بهم، الوصول إلى مصالحهم عبر أقصر الطرق.
كيف يمكن لـ«شوافة» أن تتغلغل في منازل رجال المخزن وتبيعهم خدمات مقابل بقائهم في مناصبهم، ظنا منها ومنهم، أن الأدخنة والتمائم قد تصنع مستقبلا سياسيا، يقوم على قضاء المصالح الشخصية ولا شيء آخر.
يروي عدد من الأجانب بكثير من الاندهاش كيف رأوا بعض النافذين المغاربة يترددون على العرّافين لضمان مستقبلهم المهني في محيط القصور والوزارات، ولعل أقوى هذه الشهادات ما جاء في نص رسالة رسمية صادرة عن القنصلية بطنجة، يروي فيها أحد الموظفين كيف أن أحد اجتماعاته بمستشاري القصر، ألغيت في آخر لحظة بسبب تميمة اكتشف الخدم وجودها في أحد الممرات، لتعلن حالة الطوارئ ويباشر البحث عن اليد التي دستها في أكثر الأماكن رمزية ومهابة في المغرب.
رسالة رسمية مصنفة تروي وقائع السحر وأدخنة البخور داخل أروقة القصر
لماذا يقول كل شخص يدعي الخوارق وبركات الأولياء، أن هناك وزراء ومسؤولين من بين ضيوفه؟ أيعقل أن يكون هؤلاء جميعا يرمون «باطلهم» على وزراء الدولة وسياسييها ومستشاريها، وهم الذين يفترض أن يكونوا عقلاء.. شاعت أخبار كثيرة عن علاقات أصحاب الكرامات وقارئي الفناجين ببعض السياسيين، برلمانيين ووزراء أيضا. كان الأمر صادما للرأي العام في البداية، وسرعان ما أصبح أمر تصريحات هؤلاء الناس مؤلوفا، لتبدأ بعده التأويلات بخصوص هوية هؤلاء الضيوف الدائمين على منازل السحرة والمشعوذين وأصحاب «البركات».
في إحدى المراسلات الصادرة عن القنصلية البريطانية في طنجة، والمؤرخة في سنة 1897، والتي تحمل الترتيب الآتي: 118CSD توجد إشارات تاريخية قديمة، تفيد بوجود علاقات متينة ببعض مدعي الخوارق، ورجال نافذين في الدولة المغربية ذلك الوقت. الرسالة كانت مصنفة في خانة «السري»، وجاء فيها أن موظفا داخل القنصلية كان على موعد مع حاجب القصر الملكي في فاس، وبناء على الموعد، فقد كان حاضرا في الوقت المحدد لكنه وجد القصر في حالة تأهب لأن السلطان شخصيا، وجد تميمة ملقاة في مكان لا يبعد كثيرا عن غرفة راحته، لتعلن حالة طوارئ كبيرة داخل القصر، ويُجمع الخدم لتحديد هوية الشخص الذي ألقى التميمة والغرض منها. لكن مفاجأة هذا الموظف كانت كبيرة عندما شرح له أحد أصدقائه المخزنيين أن أحد مستشاري السلطان ومقربيه، شرع في اتخاذ تدابير مهمة وأرسل في طلب فقيه ليفك طلاسيم تلك التميمة. يقول هذا الموظف إنه وبعد ساعة واحدة فقط، كان المكان مغطى تماما بدخان كثيف من البخور، وبقي لساعة أخرى ينتظر المناداة عليه من طرف الحاجب لكي يلتقي السلطان كما كان متفقا عليه، لكن شيئا من ذلك لم يكن، إذ كانت مفاجأته كبيرة عندما تم إشعاره أن العاملين في القصر يفزعون كثيرا من أعمال السحر والشعوذة ويسارعون إلى إبطالها فورا، ولذلك يتعين عليه أن يعود في وقت لاحق، عندما يكون السلطان ومستشاروه متفرغين للقائه والحديث معه». لكن أكثر الأمور إثارة في هذه الرسالة الدبلوماسية التي يشرح فيها الموظف المجهول أسباب عدم انعقاد لقائه بمستشاري القصر، هي ما كتبه في ذيل الرسالة. يقول ما مفاده: «تجدر الإشارة إلى أنني بحثت في هذا الموضوع، وما إن كان ذريعة فقط لعدم عقد اللقاء، ووجدت أن المغاربة فعلا يخافون من هذه الممارسات، بل وتأكد لي أن هناك أشخاصا مقربين من القصر، لديهم علاقات وطيدة مع بعض السحرة والمنجمين، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي وجدت فيها تمائم سحرية في ممرات القصر وغرفه. علمت أيضا، وهذا أمر مهم للغاية، أن مثل هذه الأمور تكون صادرة عن «الحريم» وصديقات نساء المسؤولين، حيث يلجؤون إلى مثل هذه الأمور لقضاء مصالحهن الشخصية، كتوظيف أبنائهن أو معارفهن في حرس القصر أو غيرها من المناصب المهمة في الدولة».
إلى أي حد يبدو كلام هذا الرجل صادقا؟ على الأقل، أبان التاريخ وما سيأتي في اللاحق من هذا الملف، أنه لا دخان أبدا بدون نار، وأن هناك فعلا أناسا يلجؤون إلى خدمات السحرة والمشعوذين، ظنا منهم أن التمائم لوحدها كفيلة باستمرارهم في مناصبهم، أو تدبر أمر مناصب جديدة لأبنائهم ومعارفهم، حتى أن البعض ذهبوا أبعد من ذلك، واعتقدوا أن السحر بإمكانه حصد الأصوات الانتخابية أيضا. وإذا عدنا إلى رسالة القنصلية الإنجليزية، نجد أن صاحبها ختمها بتساؤل ذكي، ربما كان القصد منه أكبر من أن يكون مزحة، وأن صاحبه بدأ هو الآخر يصدق الخرافات التي اشمئز منها في البداية. إذا ختم رسالته بالقول: «ولا أدري إن كانت تلك الطقوس من أجل منعي من عقد اجتماع مع السلطان ومستشاريه، إلا أنه من الواضح أنها آتت أكلها على كل حال».
«الشوافات» النافذات.. والخالدون في مناصبهم
رغم أن الكثيرين يعتبرون وصف «الشوافة» سبة كبيرة، إلا أن بعض السياسيين ترددوا على «شوافات» وعرافات كثيرات لتسهيل ولوجهم إلى مراكز المسؤولية. سواء في العهد القديم أو الذي بعده. لأن بعض الأجانب ممن أنشؤوا صداقات مع مغاربة، أكدوا في كتاباتهم التي بقيت بعدهم، وأغلبها مطبوع في أوربا ولا تزال نسخه النادرة في المتاحف وأقسام الأرشيف، أكدوا أن بعض النافذين المغاربة كانت لهم علاقات مشبوهة ببعض رجال الدين، كما أسمتهم هذه الروايات، والمقصود بهؤلاء هم السحرة والمشعوذون، ومصادر أخرى ذكرت أن هناك علاقات غريبة بين بعض التجار الكبار و«عرّافات» كنّ يستفدن من امتيازات كبيرة وعلاقات مع كبار رجال المخزن.
يروي أحد أصدقاء القايد ماكلين، الذي وجه له الأخير دعوة لزيارة المغرب في يونيو سنة 1896، أن هناك بعض الموظفين المخزنيين الذين لا يثقون في أي شيء يحيط بهم، وأنهم يعمدون دائما لتنظيف أماكن جلوسهم في مناصبهم، ويغيرون كل مرة حراسهم ولا يثقون أبدا في المحيطين بهم، والأغرب أنهم لم يكونوا يأكلون أي طعام يقدم إليهم. وقدم القايد ماكلين تفسيرا لصديقه بالقول إن هؤلاء الموظفين المخزنيين يخافون من الدسائس ومحاولات إلقاء السحر عليهم من حسادهم، حتى يتم إعفاؤهم من مناصبهم أو مصادرة أملاكهم أو تسميمهم في أسوأ الحالات، لذلك كانوا يحتاطون كثيرا في التعامل مع محيط القصر وعالم موظفي المخزن.
لا شك أن القايد ماكلين هنا يتحدث عن تجربة، فهو الذي قضى عقودا طويلة في الاشتغال بدار المخزن منذ أيام أعوان المولى الحسن الأول، واشتغل مع الذين بعدهم ومن جاء بعدهم أيضا، ولم يغادر أسوار الحياة في القصر الملكي إلا عندما أحال نفسه على التقاعد والتحق بطنجة لينعم بالهدوء بعيدا عن السلطة إلى أن مات فيها مع بداية القرن السابق. حكى هذا الرجل لبعض أصدقائه، بعض مشاهداته وما عاشه مع رجال المخزن والوزراء في عهده وأخبرهم أن هناك وزراء كانوا يستعينون بخدمات «عرّافات» ومشعوذين، وكانوا يمنحونهم تمائم يعلقونها معهم أينما حلوا وارتحلوا ولم يكن بمقدورهم مغادرة بيوتهم بدون وضعها إيمانا منهم أن لها فضلا كبيرا في إبقائهم في كراسي المسؤولية، حتى أن بعضهم كانوا يحذرون القايد ماكلين من عدم ارتدائه لواحدة، وأخبروه أنه بوضعيته تلك، سيكون هدفا سهلا لا محالة لأول عملية سحر يتعرض لها، حتى يبعده حساده عن القصر، خصوصا أنه كان يشغل منصبا مهما في الجيش المغربي، ويحضر جميع اللقاءات الرسمية في القصر الملكي لسنوات طويلة.
بعض الذين كانوا يحظون بثقة الدولة، ويبقون في مناصب المسؤولية لمدة طويلة، كانوا محط اتهامات، في الكواليس طبعا، بكونهم يلجؤون إلى خدمات السحرة والمشعوذين حتى يبقوا في مناصبهم طوال تلك المدة، بل وراجت أخبار أشار إليها ماكلين نفسه، وبعده صاحب «المحلات السلطانية» الذي عاصره أيضا والتقى به في المغرب، في نفس الفترة التي كان فيها ماكلين حديث عهد بالدولة.. هذه الأخبار تقول إن هناك «شوافة» كانت تربط صداقات وطيدة مع بعض سكان القصر في فاس، وكانت تأتي فور طلبها ولا تشتغل إلا مع العاملين والعاملات داخل أروقة القصر الملكي، ولم يكن أحد من الحراس يقوى على إيقافها ببوابة القصر. ونسجت حولها حكايات كثيرة من بينها أنها تعمل على بث البخور في كافة أرجاء القصر حتى لا يقع انقلاب على المولى عبد الحفيظ الذي جاء مكان أخيه عبد العزيز. فيما تقول روايات أخرى إنها كانت مقربة من بعض النساء داخل القصر، وكانت تأتي إليهن للبحث عن تمائم مدسوسة في الأروقة وإبطالها، حتى تفشل مخططات الراغبين في إيذاء العاملين في القصر.
هكذا أسست الزوايا للأساطير واستغل بعضها جوع الناس لتنويمهم
وصمة عار لم تفلح بعض الزوايا وأتباعها إلى اليوم، في محوها من الذاكرة الجماعية للمغاربة. إذ كانت بعض المساجد والفقهاء التابعين لزوايا معينة، لا يجدون حرجا في رفع الدعاء لصالح فرنسا بالنصر والتمكين، ولم يكونوا أيضا يجدون حرجا في استقبال المستعمرين والجنود في منازلهم، رغم أن إخوانا لهم كانوا يرفعون السلاح في وجه فرنسا في الجبال.
بعض الخرافات والممارسات التي لا يقبلها العقل، وجدت مستقرا لها خلف أسوار الزوايا. وذكرت بعض المصادر التاريخية أن بعض النافذين وقتها، خصوصا خلال سنوات العشرينات من القرن الناضي، كانوا يلجؤون إلى خدمات الزوايا لكي يساعدهم زعماؤها في الوصول إلى دوائر القرار. كان هذا الكلام قبل أن يوجد في المغرب إجراء اسمه «الانتخابات»، لذلك كانوا يلجؤون إلى شراء الولاءات والوساطات، وحشد الأتباع الذين كانت بعض الزوايا متخصصة في جمعهم.
وعلى سبيل المثال فقط، فإن بعض كتب التاريخ روت أن زاوية محمد أوسعدن السوسي كانت تضم أزيد من تسعمائة طالب يتعلمون داخل أسوارها، وكانت الزاوية تتكلف بطعامهم وكسوتهم باستمرار. وكان الشيخ أحمد الشاوي يملك أراض زراعية كثيرة بالإضافة إلى الأموال، ويقدم للفقراء الطعام كل يوم في خمس زوايا تابعة له. أما عبد الله الكوش، الذي كان يترأس زاوية أخرى، فقد عمد إلى تشييد مطبخ ضخم بداخلها لتلبية حاجات الناس من الطعام، وقيل إن المطبخ كان يضم قدورا للطبخ بإمكانها احتواء ثور ضخم وطبخه، وكانت تلك المطابخ تقدم الكسكس للمارة بالمجان.
وتقول إحدى الروايات إن نجل عبد الله بن حساين، ذبح في أحد الأيام 900 شاة و200 من البقر و20 من الإبل دفعة واحدة، وهيأ الطعام في أحواض أكل منها أزيد من 12 ألفا من المساكين.
أما بالزاوية الدلائية فقد قيل إن محمد بن أبي بكر، قام بتشييد «قواديس» طويلة لجلب السمن، وكانت تلك القواديس تصب في قدور ضخمة.
وتقول نفس الروايات إن تلك الزوايا كانت تمول إعداد الطعام من موارد عيش السكان ومزارعهم، وكانت أغلب الزوايا تتولى تدبير أملاك الناس وتتحكم في طعامهم وشرابهم، وتستعمله لشراء الولاءات واستقطاب القرى الجائعة، التي كانت مهمشة من طرف المخزن.
بظهور «الحضرة» و«المجاذيب» دخلت الزوايا في طقوس خاصة بها، قال أصحابها إنها تترجم قمة التصوف، لكن آخرين رأوا فيها «همجية رعناء وسلوكات منافية للدين».
كان أتباع الزاوية العيساوية التي أسسها محمد بن عيسى السفياني عام 1526، ينظمون الحضرة وتقوم على «الرقص العنيف وتحطيم الزجاج وضرب الرؤوس بالسيوف والمشي على الزجاج والأشواك».
وفي كتب أخرى قيل إن الذين كانوا يحيون الطقوس في الزوايا كانوا «يفترسون لحم الأغنام والماعز قبل موتها بعد أن يبقروا بطونها ويمزقوا أحشاءها.. فتلوث أبدانهم وثيابهم بالدماء».
«كانوا يمزجون الذِكر بالشطح والرقص وضرب الصدور ونتف الشعور والتشبه بالحيوانات وأكل الميت والتلطيخ بالدم المسفوح المحرّم».
قيل إن تلك السلوكات ظهرت لما كان فيه أصحاب الزوايا من القوة والقدرة على التأثير في العقول التي كانت مغيبة بفعل الحاجة والجوع واشتداد الجفاف، حيث كان الناس يقبلون بفعل أي شيء ماداموا يضمنون الأكل في آخر النهار، قبل الجوع ربما لأيام أخرى مقبلة.
كل هذه الممارسات، بدءا من إطعام الجياع، وما أكثرهم وقتها خصوصا في سنوات الجفاف، مرورا بحثهم على البقاء داخل الزوايا في أوقات الفتن، وصولا إلى توجيههم للخروج ضد الدولة أو الالتزام بأداء الضرائب لرجال المخزن.. الخريطة السياسية ورد فعل الشارع تجاه القرارات الرسمية شعبية كانت أو غير شعبية، كل هذا رهين بإرادة الزاوية والشيخ، فهي الوحيدة التي كانت قادرة وقتها على إخراج الناس إلى الشارع وبدء ثورة، أو إسكاتهم إلى الأبد. لذلك كانت الزاوية في تلك الفترات المظلمة من تاريخ المغرب، مزارا لكل من يطلب المجد في السياسة، كما كانت أيضا مثار سخط عندما تكون إرادتها بعكس إرادة القصر.
التمائم والمناصب السامية.. الوجه الآخر لخرافات بعض أغنياء السلطة
خلال ثمانينات القرن الماضي، كانت هناك قصة مؤثرة هزت أرجاء مدينة فاس، ويروي أحد الذين عاشوا أطوارها في قلب وزارة التشريفات والأوسمة التي كان يديرها الجنرال مولاي حفيظ العلوي، المقرب جدا من الملك الحسن الثاني، أن الملك انتفض في وجه المقربين منه وأمر بالتدخل الفوري لإيقاف سيدة فاسية نافذة عند حدها وتوجيه رسالة شفهية مباشرة إليها من الملك الراحل شخصيا، مفادها أن تبقى بعيدة عن القضاء وألا تتدخل للتأثير في أحكامه والضغط من أجل قضاء مصالحها على حساب مصالح الناس. «مدام. م» كانت معروفة جدا في الرباط وفي فاس أيضا، وكانت تردد دائما على مسامع الناس أنها صديقة لإحدى «الشريفات» التي يعمل زوجها داخل القصر الملكي في منصب مهم، ولكي يصدق الناس قولها فإنها عملت على قضاء مصالح الكثيرين وبدون مقابل، إلى أن شاع اسمها في كل الأرجاء، وصدق الجميع أنها تملك نفوذا كبيرا، ويدا توصل إلى قضاء المصالح. وهكذا بدأت في التأثير على بعض القضاة والموظفين في الإدارات العمومية حيث تكفي مكالمة واحدة منها لتوظيف أحد أو عزله من الوظيفة العمومية. وهكذا ازدادت سمعتها قوة، إلى درجة أن الفيلا التي كانت تقطن بها في الرباط كلما جاءت في زيارة إلى المدينة، كانت عبارة عن محج للراغبين في قضاء المصالح ومتأبطي الملفات، كلهم يطلبون من «المدام» أن تتدخل لصالحهم لنفض الغبار عن ملف ما، أو توظيف الأبناء والأقارب.
وهكذا ازداد نفوذ هذه المرأة القوية على مدى سنوات، إلى أن انتصفت الثمانينات، وحدث أن تزوجت ابنتها بأحد المهندسين المغاربة الذين تلقوا تكوينهم العلمي في فرنسا. بعد 7 سنوات من الزواج، بدا خلالها أن الزوجين لم يتفاهما جيدا على طريقة مناسبة للعيش، لجأ الطرفان إلى القضاء لتنفيذ إجراءات الطلاق لكنهما اختلفا حول ثمرة ذلك الزواج والتي كانت تتمثل في ابن بعمر 4 سنوات. ولأن الحماة لم تكن عادية فقد حرمت الزوج من رؤية ابنه حتى بعد أن استصدر قرارا من المحكمة يقضي بضرورة تمكينه من رؤية ابنه وقضاء بعض الوقت معه أسبوعيا. لكن «النسيبة» النافذة، كانت تغلق كل الأبواب في وجه طليق ابنتها وتجري مكالمات هاتفية، تكون كافية لجعل ملفه معرقلا في المحكمة.
حدث أن الزوج لجأ إلى خدمات أحد أصدقائه، ووصل الخبر إلى مسامع أحد مستشاري الملك عن طريق أصدقائه، ليهمس في أذن الملك الراحل أن سيدة ما تتحكم في كل شيء في فاس، وأن علاقتها بزوجة أحد مقربيه جعلتها تغتني بسرعة وفي زمن قياسي، وروى له كيف أنها تؤثر في بعض القضاة، وأن شكايات كثيرة في حقها، تم تجميدها في المحاكم، فأعطى الملك الراحل أمرا مباشرا بضرورة وقفها عند حدها، خصوصا أن أحد مقربيه همس له بأنها تأتي بفرقة من «الشوافات» إلى الفيلا في الرباط إلى درجة أن أحد السفراء الأجانب المقيمين قربها، انزعج من الدخان الكثيف المنبعث من الفيلا بجواره، واشتكى أكثر من مرة لبعض الموظفين لكنهم لم يكونوا قادرين على إخباره بأن مالكة الفيلا نافذة جدا، وهكذا وضعت نهاية لقصتها، وتم إبعادها تماما عن محيط القصر، ولم يعد بمقدورها أن تمارس النفوذ الذي جعل بيتها في فاس وفي الرباط، محجا للراغبين في «فك» المعضلات وشراء المناصب والنفوذ.
منتخبون ووزراء لجؤوا إلى خدمات «السّحارة» والمشعوذين
المعروف أن وزارة الداخلية كانت خلال سنوات الستينات مزيجا من الأجانب والمغاربة، وكانت تعيش فترات محمومة في الفترة الانتقالية التي بدأ فيها الأجانب بمغادرة المناصب وتركها للمغاربة. في هذه الفترة بالذات، كانت هناك ممارسات تجري داخل الأروقة في قلب وزارة الداخلية لكي تضمن بعض الجهات نفوذا كبيرا على حساب أخرى. وتروي بعض المصادر كيف أن الملك الحسن الثاني علم بنية أحد المحسوبين على العائلات الكبيرة في الرباط الوصول إلى منصب داخل وزارة الداخلية مهما كلفه الأمر، وفي سبيل ذلك لجأ إلى خدمات مشعوذة معروفة في فاس، واشترى لها هدية فخمة، عبارة عن فيلا في قلب الرباط، مقابل تمكينه من ولوج وزارة الداخلية. ولما علم الملك وقتها بالأمر، سارع إلى استدعاء المعني بالأمر، ووبخه أمام الجنرال مولاي حفيظ العلوي والجنرال المذبوح، وأخبره ألا يعود إلى تلك الممارسات، خصوصا أن أحد الموظفين الفرنسيين، وكان من رؤساء الأقسام داخل الوزارة، وجد بعض التمائم والأجسام الغريبة أسفل كرسيه ولم يتقبل أن يتم اختراق مكتبه الخاص لتوضع به أجسام غريبة تفوح منها روائح كريهة، وهو الأمر الذي سبب إحراجا كبيرا للعاملين في الوزارة، ليشتكوا الأمر إلى الحسن الثاني، ويشرع في بحث معمق أفضى بسهولة إلى معرفة الشخص الذي كان وراء إجبار عامل نظافة بسيط على دس تلك التمائم أسفل كرسي المسؤول الفرنسي، الذي غادر المغرب بعد أشهر قليلة من تلك الواقعة، بعد أن تقرر تفويت مناصب أخرى لموظفين مغاربة تلقوا تكوينا في فرنسا وآخر في المغرب بإشراف موظفين فرنسيين.
كان الحسن الثاني يعلم أن هناك آخرين، وما أكثرهم، كانوا يفكرون بنفس الطريقة للوصول إلى المناصب بعد حصول المغرب على الاستقلال. وقد أوقف بعضهم، فيما وصل آخرون إلى مناصب أخرى في قلب الوزارات، ووصلت أصداء ممارساتهم إلى أذن الملك الراحل. ولعل أكثر الناس دراية بدسائس القصور وما يقع فيها، هو المستشار الراحل عبد الهادي بوطالب، فحتى عندما يقول إن المجالس أمانات، ويناور لإبقاء بعض الأسرار حبيسة صدره، إلا أنه في مذكراته أشار في أكثر من مناسبة إلى أن هناك إيمانا كبيرا بالخرافة لدى بعض الطامحين إلى السلطة، وأوضح أن بإمكانهم القيام بأي شيء للبقاء في مناصبهم أو للوصول إلى أخرى سامية. «أي شيء» هنا تندرج فيها أعمال السحر والشعوذة، خصوصا وأن الراحل عبد الهادي بوطالب، دخل القصور الملكية منذ سنوات شبابه الأولى، ويعلم جيدا أن بعض الداخلين إليها كانت لديهم نيات مبيتة.
أما الوزراء، فقد علم الملك الحسن الثاني بهذا الأمر، عندما تحدث لبعض جلسائه عن علمه الكبير بما يقوم به بعض الوزراء من صفقات مشبوهة، وأخرى غير قانونية. ولم يكن هذا الأمر غريبا على الملك الراحل، لأنه كان يتوصل يوميا بتقارير عن أنشطة وزرائه ومن يلتقيهم ومن يلتقون، ولم يكن الفاسدون منهم يعلمون أن كل تحركاتهم مراقبة خصوصا أن بعضهم تورط في ما بعد في قضايا أخلاقية ورشاو كبيرة لتفويت مشاريع ومصالح لبعض معارفهم. ومما عُرف أيضا عن الملك الراحل، خصوصا ما حكاه عنه جليسه الأمين، محمد بنبين، الذي عرف بأنه واحد من أكثر الناس ملازمة للملك الراحل في جلساته الخاصة، حيث كان يتناقش معه في الشعر والأدب العربي والكتب القديمة والأساطير أيضا على مدى 33 سنة بالضبط لم يفارقه خلالها إلا نادرا، حتى أنه رافقه في سفرياته إلى الخارج وليس في المغرب فقط.. مما عُرف عن الملك الراحل، حسب محمد بنبين، أنه كان يعلم أن بعض المحيطين به يلجؤون إلى خدمات السحرة والمشعوذين لقضاء مصالحهم الخاصة، لكن الملك الراحل كان يترك الباب أمامهم مفتوحا على كل التأويلات، خصوصا إذا علم بنية أحد مقربيه والمصلحة التي يريد قضاءها بدقة، فيعمل على حرمانه منها، لكي يبعث إليه رسالة غير مباشرة، حتى يفهم أن التمائم لا تنفع ولا تضر. خصوصا أن الملك الراحل كانت له معرفة بالأمور الدينية ويعلم أن هناك ممارسات خارج إطار الدين تدخل في إطار الشعوذة والسحر والتمائم..
أما المنتخبون، فهناك واقعة طريقة يرويها بعض من عايشوا إدريس البصري أيام كان وزيرا خالدا في الداخلية. تعود الواقعة إلى سنة 1977، وكان النقاش وقتها محموما حول الانتخابات، وكان إدريس البصري، كعادته، يجمع بعض الزعماء السياسيين في جلسة خاصة بمنزله، وأراد أن يمرر رسالة إلى واحد منهم، تتعلق بممارسات أحد زملائه في الحزب لكي يضمن فوزه في الانتخابات، فكان أن وجه له ادريس البصري الخطاب قائلا: «يجب أن تعلم أن صديقك لن ينجح إلا إذا أردنا ذلك. قل له إن «الشوافات» كلهن لن ينفعنه إذا لم يسمح له إدريس البصري بالفوز بالأصوات». وكانت الإشارة ذكية، ومعناها أن إدريس البصري يدعو هذا القيادي إلى المجيء إليه والحديث معه بشأن فوزه في الانتخابات، بدل أن يضيع وقته في التجوال بين المشعوذين و«الشوافات».