شوف تشوف

الرأيالرئيسية

شعب المرقة 

 

 

تخيل، عزيزي القارئ، ردة فعل كريستوفر كولومبوس لو رست سفنه على شاطئ من شواطئ المغرب خلال فصل الصيف. ربما كان الرجل سيعتقد أنه أخطأ الطريق وبلغ مخيما للاجئي الحروب والمجاعات، أو وطئت قدماه أرض قبيلة بدائية يلتهم شعبها بنهم كرات ضخمة خضراء اللون.

لطالما كانت الشواطئ فضاء للراحة النفسية والتأمل في ملكوت الله. ملجأ للبوح بالأسرار والهموم، أو ملعبا مفتوحا لممارسة كل أنواع الرياضات، أو برج مراقبة ترصد فيه المرحومة الحمداوية حركة الأمواج. تغيرت وظيفة الشاطئ، فجأة، ليصبح عبارة عن مطبخ كبير تنتشر على جنباته مناظر طهي «الطواجن والكوكوط فوق البوطة الصغيرة» في مشهد «أوبنهايمري» مرعب، وتتناثر على رماله الذهبية مستحاثات من «قشور الدلاح» والبطيخ. أصبحت شواطئ المملكة مرتعا لجميع مظاهر التلوث البيئي والسمعي البصري. انتقلت ثقافة «البرارك» من الأحياء الهامشية إلى جنبات البحر.

تظن، وأنت تتجول على الشاطئ، أنك تتجول بين «مخيمات العار» أو داخل مركز لإغاثة ضحايا تفجير إرهابي مميت. مشاهد مؤسفة تعكس تدهورا خطيرا في الذوق العام لدى المغاربة. الفقر ليس مرادفا للقبح، بل على العكس تماما. لقد مارس المغاربة منذ القدم، وبمختلف طبقاتهم الاجتماعية، فن العيش الرفيع. بساطة و«تاويل» في المأكل والملبس، وتحضر ورقي في الفضاءات والمعاملات العامة. إن استهجان بعض المظاهر الهمجية والانزلاق المؤسف نحو العشوائية والقبح والانحطاط المجتمعي ليس جلدا مجانيا للذات أو تعاليا أو «فشخرة» طبقية، بل هو غيرة حارقة على شعب أصبح يبتعد تدريجيا عن تقاليده العريقة، ويجتث اجتثاتا من أصله الطيب.

انتشرت، أخيرا، صورة رائعة لأحد الشواطئ الإيطالية. يخيل إليك، وأنت تشاهد كراسيها الملونة و«باراصولاتها» المرصوصة بانتظام وتناسق، أنك تتأمل لوحة ملحمية لمايكل أنجلو. بالمقابل تجد فيديوهات لمواطنين مغاربة يشتكون منعهم من نصب «التشابولا» في بعض الشواطئ، ويحتجون على فرض النظام والالتزام بعدم تشويه المنظر العام. «عشنا وشفنا» كيف أصبح المغاربة يدافعون عن القبح باسم «ولاد الشعب». هذا المصطلح الذي أفرغ من معناه الأصيل ليصبح مرادفا للرداءة والبلطجة. أضحت ممارسة النقد البناء لتدهور البنية التحتية للأخلاق والقيم المغربية أمرا صعبا وحساسا جدا، في زمن الصوابية السياسية الرديء وتكميم الأفواه الصريحة «لي كتقول الحق بلا زواق»، حيث أصبح الحديث عن العديد من الظواهر الاجتماعية والأخلاقية الهجينة بمثابة المشي وسط حقل من الألغام.

يرحل مصطافو «الكوكوط» عن الشاطئ مساء تاركين وراءهم «زبالة» أبوكاليبسية من مخلفات «قشور الدلاح» وقنينات «مونادا» المدفونة على عمق كبير من سطح البحر وكأنها نفايات نووية مشعة. ماذا حدث؟ ومتى انتقل المغاربة من «التاويل والنقا» إلى قوم يعيثون فسادا في الأرض؟ تعكس السلوكات اللاأخلاقية للمصطافين التحولات البنيوية التي يشهدها المجتمع المغربي. إن «لابلاج» هو عبارة عن مقطع ميكروسكوبي يعكس تفاصيل الصورة السلوكية الكبيرة للمغاربة. لا يخفى عن العين المجردة تراكم طبقات من الشحوم واللحوم على «كروش» المصطافين، خاصة اليافعين منهم. لقد غزت السمنة «الجناب». كيف تحول المغربي من كائن صحي كثير الحركة والنشاط، يعيش على البروتينات الحيوانية والنباتية والدهون الصحية، من «بيض بلدي» و«بيصارة» وزيت زيتون «حرة» وكسرة خبز شعير  bioإلى كائن مترهل يقتات على رقائق الطاكوس والزيوت المهدرجة والصلصات المصنوعة من مواد مشوهة جينيا؟ كيف أصبح المغاربة يستسيغون المذاق الهجين للوجبات الجاهزة بعد قرون من التعود على روعة المطبخ المغربي وتنوعه، واعتماده على المنتوجات الطبيعية المحلية؟ كيف تحول المغربي من كائن ينتظر بتأن نضج «طاجين المعزي على الفاخر»، إلى كائن يصارع جوعه في صفوف الانتظار داخل محلات الفاست فوود؟ أو يفقد صبره أمام «دقيقة ميكرويفية» لتحضير بيتزا مجمدة أو «زلافة إندومي».

تفاديا لسعار مجانين الصوابية السياسية واتهاماتهم الجاهزة، نحن هنا لسنا بصدد ممارسة أي نوع من أنواع  body shaming ولكنها مجرد قراءة بسيطة في التحولات الفيزيونومية للمغاربة. إن ظاهرة استيراد ثقافة هجينة ودخيلة على نظامنا الغذائي الذي ينتمي لأكثر المطابخ الصحية في العالم، والمعروف بالنظام الغذائي المتوسطي، إشارة مهمة إلى التغييرات السلوكية لشرائح عديدة من المجتمع. تغيرات تستدعي وقفة تأمل سوسيولوجية تفسر لنا أسباب «برغرة وطوكسة» المائدة المغربية.

تطفو الفوارق الطبقية الواسعة كل موسم اصطياف على سطح الشواطئ في بلادنا، حيث ينقسم المغاربة إلى فريقين. فريق «الكوكوط» والخيمة، أو ما يطلق عليه اصطلاحا «البحر لي كيوصل ليه الطوبيس وطاكسي بيض»، وفريق «الموخيطو» المرتادين للشواطئ الخاصة التابعة للفنادق المصنفة والمنتجعات الراقية، دون أن نغفل فريق الفقر والشجاعة والتشبث بأهداب البرجوازية، الذين يقتحمون عوالم «المرفحين» متسلحين بقروض استهلاكية تلحق الهلاك بجيوبهم.

لقد أصبحت الشواطئ ساحات حرب اجتماعية وطبقية، وأحيانا حربا فعلية بين أصحاب السوابق في صراعهم حول اقتناص زبائن «الباراصولات» الصدئة والكراسي المعطوبة، أو صراعا أيديولوجيا ومزايدات أخلاقية بين صحابات البوركيني وصحابات البيكيني. يبدو أن زمن الاستجمام الجميل قد ولى إلى غير رجعة.

أثناء سباحتك الحرة هربا من شواطئ «الكوكوط والمرقة»، في اتجاه الفردوس المفقود للشواطئ الخاصة «الهاي كلاس»، تذكر أن مصاريف الدخول المدرسي تنتظرك على الضفة الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى