شظايا للذكرى
غادة الصنهاجي
لا ينبغي سؤال العائد من المعركة عن الخسائر التي تكبّدها، خصوصا إذا رجع منكسرا وخائبا وأهدى الانتصار إلى غيره كرها، وكان هذا خطأه حين شنّ عليها حربا جديدة..
كانت معتادة على إخفاء مكامن العطب في روحها، وتفضّل سد ثقب النزف أحيانا بالصمت، وأحيانا أخرى بالعزف على جراحها ونفخ هدنة طويلة في ناي حزين..
إذن، كيف سوّلت له نفسه إهداءها شظية تذكرها بيوم الانفجار.. ذلك اليوم الذي خذلت فيه من أقرب الناس إليها؟ وبدل أن يرحموها ألقوا عليها قنابل الكلام وأحرقوها، وذلك الرجل لا يدري أنها انشطرت مرارا وتفتتت وذابت مع الحمم وتحولت إلى كومة من الرماد الساخن، رجل يحلم بأن يوقد النار في الدمار، فأي نار ستقبل على نفسها تسول اللهيب؟ وأي عشق هذا الذي سيبنى على أنقاض بركان إحساس خامد وقلب منهار؟..
لكنه رجل لا يضع أوزاره كما الحرب، رجل يأبى مغادرة رقعة المعركة، يسكن في الخنادق ويجيد استعمال السلاح ومراوغة الخصم، له باع وخبرة في الاستراتيجيات ووضع الخطط.. وكانت تراه يصول ويجول كأنه الناجي الدائم والفارس الذي لا يهزم.. وكلما تمعنت في رؤيته ينتصر أكثر ويملؤه الغرور بشكل أكبر، وحين تدير وجهها إلى الخراب وتقف متوارية لتتفادى بشاعة المنظر.. يراودها الإحساس بأنها مجرد أسيرة سيأمرها في أية لحظة بأن تطيعه في ما يأمر، وسيسحبها من أغلالها ليبيعها في سوق النخاسة أو يقايضها برصاصة واحدة يطلقها في الهواء منتشيا، ويزداد مقتها للذين استولوا يوما على حريتها وسرقوا السلام من حياتها وأرغموها على عيش ويلات الصراع من أجل البقاء على قيد العقل. كان من السهل جدا وقوع الأسوار الأمامية؛ ففي مثل تلك اللحظات من الانعتاق المفاجئ، تهرول الحقائق نحو ماض مجهول، لا تلتفت، لا تصدر صوتا، يسقط الصدق دموعا غزيرة تتحول إلى نهر جارف.. لكن الجلاد لا يهاب غضب النساء، ولا غضب الماء.. يخترقهما معا.. يغرس حوافره في الذاكرة.. تنشطر وتتفتت مجددا، وتتحول هذه المرة إلى حصى صغيرة راكدة في قعر النهر، رجل يقود جيوش الماء قادر على تطويع جميع الأنهار لتصب في بحره.. فأيّ بحر هذا سيأخذ معه حصاها في رحلة جزره؟ وكيف لرجل أن يغتال الحب في قلب الحياة؟