شرق المتوسط بحيرة الغاز والتوتر
فاطمة ياسين
يشهد سوق الطاقة حالة من عدم التعيين منذ زمن بعيد، وغالبا ما يلجأ كبار المنتجين إلى استخدام سلعة النفط لتحقيق أهداف سياسية عن طريق رفع الإنتاج أو خفضه، للتأثير في الأسعار، وبالتالي في اقتصاد الدول المعتمدة على استيراد النفط أو بيعه. وتضاف حاليا إلى خلط السياسة بالاقتصاد تأثيرات دخول فيروس كورونا، الذي أحدث تدهورا في الأمن الصحي. وبينما يبدي المختصون عجزا في تحديد أي أفق لانتشار هذا الفيروس، يلجؤون إلى رفع التحذير من مستقبل قاتم وجولات جديدة للمرض تهدد بالعودة إلى حالة الإغلاق شبه العامة، والتي هبطت بأسعار الطاقة إلى قاع لم يسبق لها الوصول إليه.. في هذا الظرف المقلق عالميا، تكشف دول شرق المتوسط عن حجم اكتشافاتها الضخمة من الغاز، لتعيد تموضعا في تحالفات القوى العالمية والسياسات الإقليمية، مستعدة لاقتحام السوق، والبدء باقتسام هذا «الكنز»، ولكن تبدو عملية القسمة بحاجة إلى كثير من التمهيد السياسي، وهذا ما نتابع تفاصيله حاليا على الساحة المتوسطية، وقد وصلت تحركات دول من المنطقة، وأخرى مهتمة بملف الطاقة إلى أوجها.
أمام غاز شرق المتوسط عقبات كثيرة، قبل أن يصبح مادة مسالة قابلة للحرق في المطابخ الأوربية، وقبل أن ينتقل عبر أنابيب تسير في قعر البحر، ثم يذهب إلى المصانع في مصر أو إسرائيل، ليصار إلى تسييله وتحويله إلى مادة قابلة للنقل. تتعلق أولى تلك العقبات بالحالة السعرية الراهنة، فأسواق الطاقة الآن لا تشهد استقرارا، ولا تكاد مؤشراتها تثبت لتهبط من جديد، وليس من أفق مرئي للاستقرار في ظل وضع دولي قلق، ومعاناة صحية شاملة على مستوى الكوكب. والعقبة الأخرى فنية وهندسية تتعلق بعمليات الاستخراج والنقل، فالاستثمار في حقول بحرية يشترط توظيفات فنية عالية، ما سيرفع من التكلفة، ويحتاج الأمر عملا ميدانيا في أعماق البحر بعيدا عن الشاطئ. وهذا من شأنه أيضا أن يضاعف التكاليف، ويضع احتمال عدم الجدوى الاقتصادية.. العقبة الثالثة بيئية، وهذه لا يمكن تجنبها، خصوصا مع وجود اتفاقية الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري التي أبرمتها الأمم المتحدة في باريس، واستخراج الغاز الذي يشكل الميتان عنصرَه الرئيسي يُحدث تهديدا كبيرا لهذه المعاهدة، وقد لا تسلم عمليات الاستخراج أيضا من انتقادات أنصار البيئة البحرية وسلامة مياه المحيطات. وعمليات كيميائية من هذا النوع تقوم وسط البحر ستعرض بالتأكيد المياه لمزيد من التلوث، وجميع الدول الواقعة على المتوسط والمشاركة في الغاز المتوسطي هي من الموقعة على معاهدة باريس البيئية، عدا تركيا، وتوقيعها يدعوها إلى التفكير مرتين، قبل التحرك نحو الاستثمار الفعلي لحقول الكربوهيدرات الضخمة.
على الرغم من هذه المحاذير، باشرت إسرائيل ومصر فعلا في عمليات إنتاج الغاز منذ بدايات العقد الثاني من القرن الحالي، ففي أكتوبر 2012 أعلنت إسرائيل عن بناء منصة لاستخراج النفط من بئر تمار في حوض شرقي المتوسط، وبدأت عمليات الإنتاج بعد أشهر. وفي عام 2017، بدأت مصر إنتاجها من حقل غاز ظهر، وتتطلع دول أخرى إلى البدء في ذلك أيضا، ليتحول إقليم البحر المتوسط إلى منتدى غازي، تتحالف فيه بشكل رئيسي مصر وإسرائيل واليونان، ويبدو أن أهداف الحلف تتجاوز الوضع الاقتصادي، المتعلق بغاز المتوسط، بانضمام الإمارات التي سرعت بعملية التطبيع لتتشارك في حلف واحد مع إسرائيل.. وكان الانتشار العسكري قد بدأ بالظهور في البحر المتوسط وحول حقول الغاز المنتظرة قبل تكوين المنتدى، وهو ما يُنتج بؤرة مأزومة تتوتر فيها العلاقات الدولية، وتصبح وجهة للازدحام العسكري الذي قد يتحول إلى بعض أشكال المواجهات.. عند هذه النقطة، يمكن أن نضيف إلى كل عقبات استخراج الغاز المتوسطي التسويقية والإنتاجية والبيئية، الوجود العسكري الكثيف الذي تفوق إعاقته الإنتاج كل ما تم ذكره.