شوف تشوف

الرأي

شخوص برلمانية ومسرحية

زرت أحمد الطيب العلج في مكتبه، كان منشرحا انتهى للتو من كتابة كلمات أغنية، توقع لها نجاحا كبيرا. قرأ بعض أبياتها بأسلوبه المعبر، ثم غير الالتقاط نحو موجة السياسة. قال: «أنا مع رفع حالة الاستثناء بشرط واحد». خلته يمزح، على عادته في الخلط بين الجد والهزل.. لكنه أصر على موقفه، ولم يتورع عن تقديم حججه على قاعدة: البينة على من ادعى.
أكان يمزح أم يختبر ذكاء غيره؟ في أي حال تضيق لديه المسافة بين الفكاهة والرصانة. فقد كان صاحب «القاضي في الحلقة» يقتطع من الأمثال الشعبية خشبا ينجره ليصبح كرسيا أو طاولة أو عصا يهش بها الفقيه على تلامذته في الكتاتيب. ووجدت أن العلاقة بين رجل المسرح الذي كانه وحالة الاستثناء التي تعيشها البلاد، لا ناظم بينهما من أول وهلة.. لندعه «يدندن»، ففي إشراقاته ما يجيز الجمع بين الأضداد.
ماذا في حوزته من اشتراطات؟ قد يجادل ويجاهد في أمور فنية تعتبر من صلب اختصاصاته، أكانت مسرحية أو ملحمة أو أغنية، بعد أن أصبح يتقن العزف على العود، وينافس الملحنين في اختيار الإيقاعات.. لكنه نادرا ما كان يفصح عن أوراقه في السياسة. وقال لي بهذا الصدد: «إن كشف الأوراق من مهام الخصوم الذين يجيدون الحساب في لعبة الورق».
يقول الرجل إنه يحبذ لعبة «الضامة» حين يجر شخوصه إلى الوادي. وتتفتق فكرة جذابة عن التضحية برقم لالتهام مربع كامل. يسأل: هل تعرف لماذا كان المحاربون القدامى يميلون إلى هذه اللعبة؟ ويجيب بأنهم يستعيدون سنوات مجد الحروب التي كانت تلتحم فيها الأجساد. وتذكرت حكاية كان يرويها بنفسه عن نفسه، مفادها أنه كان في طريقه إلى محل نجارة في فاس، فاعترضه مناصرون لحزب «الشورى والاستقلال» في الطالعة الكبرى.
خشي أن يلحقه أذى من شظايا الصراعات الحزبية، فادعى أنه منخرط في حزب بلحسن الوزاني. وكي يستدل على ذلك أخرج من جيبه بطاقة الانتساب، فإذا بها تحمل علامة حزب الاستقلال. فأشبعه المعترضون ضربا إلى أن تمكن من الإفلات، وما إن التقط أنفاسه حتى واجه «كمينا» آخر نصبه منتمون إلى حزب الاستقلال لامتزاج آراء العابرين حول انتماءاتهم. ولم يفلح في إقناعهم لأن ورقة انخراطه سحبت منه عنوة، وخشي على نفسه من إخراج ورقة حزب «الشورى والاستقلال». ومنذ ذلك الوقت صار يدقق في أوراق جيوبه، كي لا يقع ضحية إخراج الورقة الخاطئة في الوقت الخطأ.
كان ذلك في زمن ولى. وعلق العلج بأنه لو كانت جيوب كسوته تتسع لوضع ورقة انخراط في كل جيب، لما تردد في أن يصبح مواطنا منخرطا في كافة الأحزاب. ورأى أن بعض الشخصيات، من غير الزعامات التقليدية، تنطبق عليها مواصفات مسرحية. كأن يصبح مترشح للانتخابات مثل بطل «تاجر البندقية»، أو يتقمص ملامح «طارتيف» عند موليير في البخل على الناس بما ينفعهم في دنياهم.
قال أيضا إن شرطه الوحيد كي يتظاهر مع المطالبين برفع حالة الاستثناء، ألا يتم نقل مقر البرلمان إلى مسرح محمد الخامس. كان يشير بذلك إلى إحدى الجلسات النيابية لأول برلمان، يوم طالب نواب بإيجاد مقر ملائم للمؤسسة التشريعية. ولم يفوت أحدهم الفرصة، فاقترح نقل البرلمان إلى بناية مسرح محمد الخامس، من جهة لأنها فسيحة وتتسع لأعداد البرلمانيين على اختلاف انتماءاتهم وأعداد فرقهم، ومن جهة ثانية لأنها لم تكن تفتح في وجه الجمهور إلا في مناسبات قليلة، ما جعل حق الشفعة يرسو عليها. وإنها لمفارقة أن يفكر البعض في استبدال صرح ثقافي بآخر سياسي، مع أن أرض الله واسعة، يوم كانت الرباط تحف بها البساتين وأراضي الجموع. ولم تكن لا أحياء «الرياض» أو «الفتح» أو «دوار الكرة» نشأت بعد.
الراجح أن الاقتراح الذي سجل ضمن جدول أعمال إحدى الجلسات وعبر محاضرها، أملته تجربة البث التلفزيوني الذي كان يتخذ من المسرح مقره الرئيسي. وساعد في ذلك أن خشبته كانت تستوعب الممثلين والموسيقيين، إلى جانب مكاتب تحرير الأخبار.. لأن البرامج والفواصل كانت تبث مباشرة. وتنتقل الكاميرات من زاوية إلى أخرى.. قبل اكتشاف محاسن التسجيل المسبق، الذي يضمن التخلص «مما لا تحمد عقباه».
فرجة التلفزيون والمسرح ليست مثل البرلمان، فالسهرات الغنائية تروح عن النفس، بينما الخطب البرلمانية تعكر المزاج، إن كانت خارج المعول عليه في العمل النيابي. ولا ينطبق على الفرجتين، سوى أن الممثلين في المسرح يتقمصون أدوارا خيالية، تتوزع بين طبائع الأخيار والأشرار، المترفين والفقراء، بينما ممثلو الشعب ينوبون عن السكان في ترجمة إراداتهم، فهذا هو المفروض في الولاية التشريعية، وإن حولها البعض إلى الإنابة عن نفسه ومصالحه قبل كل شيء.
تجاهل أصحاب القرار فكرة نقل وقائع الجلسات البرلمانية إلى مسرح محمد الخامس. ثم حان وقت لم يتردد الملك الراحل الحسن الثاني في وصف بعض المشاحنات النيابية بأنها أشبه بسيرك وألعاب بهلوانية. لا أحد يعرف ماذا كان يفكر فيه عند إطلاق ذلك الوصف، وهل راج في ذهنه اقتراح سابق بنقل البرلمان إلى المسرح؟
ترى لو أن أحمد الطيب العلج استنبط شخوصه من الواقع السياسي، هل كان سيجد أفضل من نماذج كائنات اعتلت منصة البرلمان؟ نقول هذا ونعوذ بالله من شر الإحالات.. ففي أشرطة سينمائية يحضر إشعار ابتدائي محوره أن تشابه بعض الأشخاص مع الوقائع مجرد خيال وصدف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى