شوف تشوف

فسحة الصيف

شخصية نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم

شخصيات وعبقريات (1)

خالص جلبي

بين يدي كتاب (العظماء المائة في التاريخ) لمؤلفه (مايكل هاردت) الفلكي الأمريكي الذي سرقه كاتب مصري رخيص فرصع اسمه على غلافه! والرجل وضع أربعة مواصفات خاصة للأشخاص الذين انتقاهم، أن يكونوا أولا ممن عاش فلم يعبأ بالأحياء لأنه لا يحزر نهايتهم، وأن يكونوا ممن أثّروا في الجنس البشري سلبا أو إيجابا مثل هتلر وستالين أو موسى ومحمد (ص) أو آينشتاين ونيلز بور، وثالثا أن يكونوا شخصيات حقيقية فثمة أساطير حول أشخاص نحن غير متأكدين منهم مثل هوميروس وأخيليس، وأخيرا أن يكون أثرهم عاما في كل معشر البشر، وليسوا قادة محليين ولو أنجزوا الجيد والمثير. ومن الملفت للنظر من رجل أمريكي أن يبحث في مصنفات الكتب والناس ليختار شخصا ليس من الثقافة التي ينتمي إليها فيقول إن أعظم رجل في التاريخ على الإطلاق ويستحق أن يكون رقم واحد في الخانة هو محمد (ص). والسؤال لماذا وقع عليه الاختيار؟ والجواب عند عبد الرحمن البدوي في كتابه الإنسان الكامل؛ فيبدو أن هذا الرجل النبي الأمي مثل النجاح في كل حقل دخل إليه وهذا أقرب إلى المستحيل؛ فقد يبرع إنسان في الفيزياء ويكون أشبه بالمجنون في التعامل مع الناس كما في الفيزيائي كالفن الذي حقق الرقم القياسي في درجة الحرارة حين حدد الحرارة القصوى عند ناقص 273.15 أو نيلز بور صاحب النموذج الذري الذي خرف أو نيتشه صاحب مبدأ القوة الذي فقد كل علم أو كانط الذي لم يعرف أقرب الناس إليه. وقد يقول قائل هذا قدر بيولوجي ولكن تفقد النماذج البشرية يرينا ضربا من القصور هائلا بل وسقوطا أخلاقيا عند البعض. وفي هذه النقطة بالذات أتذكر طبيبا زارني يوما وبدأ يتبجح بالمادية العلمية وفلسفة التاريخ (شيوعي) وذكر رسول الرحمة (ص) فقال إن القرآن الذي كتبه كان مترافقا بالنشاط الجنسي عنده فحين يشتد يكثر من الآيات وحين يفتر جنسيا تنضب معلوماته، وقال إن هذا الأمر من الوضوح فلا يحتاج إلى برهان!
بالطبع كلام من هذا النوع في بيتي هو ضرب من الإهانة فتمالكت نفسي بشدة وقلت له: ولكن شيئا واحدا لن تستطيع إنكاره وهو أن هذا الرجل ما وضع يده في شيء إلا نجح وأبدع فماذا تقول فاضطرب. وتمنيت يومها أن أوتيت حجة إبراهيم فبهت الذي كفر.

فهم القرآن مزدوجا بنور السيرة
أذكر من برنامج (TD) العالمي يخرج عالم أو شخص مهم فيعرض تجربته في علم من العلوم، وهو برنامج يمكن متابعته باللغة الإنجليزية. وفي إحدى الحلقات تقدمت سيدة يهودية للتعريف بشخصية الرسول (ص)، وكيف دخل مسرح التاريخ. تقول السيدة اليهودية إن الوحي حينما نزل عليه، لم يرجع إلى الناس وهو يهتف: «انظروا لقد تحدثت إلي السماء، وأنا شخص مميز ومنزه، وأتكلم بلسان الآلهة فلا أخطئ»، كما هو الحال في آيات الله المعصومين في زماننا من الجاعلي والخاميني والطبطي. تقول لقد رجع الرجل إلى بيته خائفا يرتجف ويقول لزوجته: «زملوني». في هذا نزلت سورة «المزمل»، وفي هذا تبدأ ملحمة في التاريخ.
الرجل (النبي ص) ارتعب وارتج ولم يعرف ماذا جرى له؟ ثم يتقدم له كائن على شكل بشري فيضمه إلى درجة الاختناق، ويقول له: «حياة جديدة أمامك، وعليك أن تبدأ بقراءة سفر الكون». كان هذا الفيلم هو الذي رأيته في كندا للمرة الأولى وفتح لي زاوية جديدة لي في فهم السيرة، أن نراها على شكل إنساني مشبع بالمعاني والمشاعر.
أعرف الكثير ممن كتب في فقه السيرة، أو الاستعداد لمشروع (في ظلال السيرة) كما اعتزم على ذلك يوما (سيد قطب) قبل أن تلتهمه السياسة فينهي حياته على حبل المشنقة الناصرية ! أو تلك التي اعتمدتها جماعة (الدعوة والتبليغ) في الهند في قصص الصحابة، ولكن معظم الكتابات رأت السيرة على صورتين، المعجزات والغزوات.
أنا شخصيا درست السيرة في مسجد (كفر سوسة) و(جامع الحرش) بدمشق، بل درستها مرتين في (كفر سوسة) بعد أن أنهيناها للمرة الأولى، وأذكر جيدا حين انتهيت منها كيف فكرت في متابعة رحلة التاريخ، لنمر في مخاضات العالم الإسلامي، وكيف تبدلت الأحوال بالتدريج. وكيف تم الانحراف والانحطاط عن المنهاج الذي وضعه هذا الرجل الرسول (ص).
أهمية دراسة السيرة أنها كما ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها، حين سئلت عن أخلاق الرسول (ص)، أنها قالت: «كان خلقه القرآن». فإذا طبقنا هذا المنهج فعلينا إذن بالحركة، بين ما جاء في السيرة وما جاء في القرآن. وأمامنا طفرة في فهم السيرة من خلال الاهتداء إلى مراحل تنزيل القرآن، وهناك من فعل هذا حين عزل الأجزاء 18 من القرآن على أنه المكي وترجمه إلى اللغة الإنجليزية، خوفا من إشكالات التشريعات ونصوص القتال، وهو قريب من المشروع الذي قام به تولستوي في إخراج نسخة مختلفة للإنجيل، حين عزله عن الأمور الخارقة والغيبيات، ولذا كان من الأهمية بما كان فهم القرآن أيضا مزدوجا بنور السيرة.

عصر العقل الاستدلالي
هنا ملاحظة يجب الانتباه إليها جيدا، أن السيرة هي تاريخ بشري وأن رسول الرحمة (ص) هو من جانب يشبه من سبقه من الرسل، ولكنه يختلف عنهم أيضا أنه يفتتح عصر العقل الاستدلالي، كما يشير إلى ذلك محمد إقبال في كتابه (تجديد التفكير الديني).
من المهم إذن أن ندرك ثلاثا:
(1) كيف أكمل هذا الرجل (ص) عمله خلافا لمن سبقه؟ فعيسى عليه السلام خطفته الأحداث من مسرح التاريخ، وموسى بعد أن زحف بالجموع في سيناء خذله الناس، فقال: «ربي لا أملك إلا نفسي وأخي»، وإبراهيم بقي يتجول ويهاجر من بلد إلى بلد، قبل أن يستقر به المقام في شبه الجزيرة، ليبني أول بيت للناس.
(2) الأمر الثاني كيف استطاع زمنيا أن ينهي عمله بسرعة أسطورية، في ربع قرن، فيبني جيلا ويصنع أمة، وهذا يعني أن رحلة تغيير المجتمع وصناعة الأمة يمكن أن تتم وفق هذه الخطة الزمنية. وهو الأمر الذي وقف أمامه طويلا سيد قطب في كتابه (معالم في الطريق) بفصل مستقل عن جيل قرآني فريد.
(3) والأمر الثالث أن هذا الرجل صنع الأمة، وفق سنن بشرية أرضية يمكن تتبعها وتقليدها؛ فهو لم يتبع سبيل المعجزات، بل سنن الأرض وكيف تتدفق بشكل روتيني في الحياة. وأهمية هذه النقطة أنه يمكن تقليدها والوصول إلى النتائج نفسها، وبذلك تخرج عن كونها خارقة. وهذه نقطة تزلزل يقين البعض بالتفرد والتوجيه الإلهي.

السيرة بين الخوارق والجهد البشري
حين يقرأ الإنسان في الثقافة الإسلامية التقليدية يخرج بالانطباع الذي يقول إن السيرة كانت سلسلة من المعجزات والخوارق، وبذلك يتعطل الجهد البشري، وطالما كان خارقا فهي لا تحدث ولن تتكرر إلا لأشخاص محدودين في الزمن الممتد. وفي هجرة الرسول (ص) لا ينتبه الكثير إلى رموز حصلت، ويكتفون بأن (سراقة بن مالك) ـ مثلاـ حين أراد الوصول إلى الرسول (ص) بعد أن اقتفى أثره وعرف إلى أين يتجه، أن خسفت الأرض بأقدام فرسه، فأنقذه الرسول (ص) من الحفرة، ثم وعده بسواري كسرى (حلي حاكم الفرس مثل ساعة روليت من يد بوتين) ليحصل هذا على يد عمر رضي الله عنه بعد أن سقطت فارس، واستولى المسلمون على مخلفات الإمبراطورية، ومنها سواري كسرى اللتين كانتا من حصة هذا الرجل، الذي كان يتتبع أثر رجلين هاربين من مكة.
هذا الأمر الخارق يقابله أمر (غير خارق) في رحلة التوجه بمسافة 400 كلم باتجاه المدينة، حين توجه جنوبا ولم يتوجه شمالا، فمن الناحية الجغرافية مكة هي أسفل من المدينة إلى الجنوب، ومن يرحل في هذه الظروف الصعبة، التي تتطلب مسيرة أيام على ظهور الجمال وهو مطارد أن يسرع باتجاه الشمال. ما فعله هذا الرجل (ص) أنه توجه إلى الجنوب ومعها تطويل المسافة، فهو يجب أن ينحني بخطواته مجددا باتجاه مكة، قبل أن يغير خط سير الرحلة إلى الشمال، فهذه خطة ذكية لعدم اقتفاء أثره. مع هذا فهم أبناء الصحراء فلحقوه وكادوا أن يقبضوا عليه لولا أيضا طبيعة الكهف الذي دخلوا فيه حيث حمام يبيض وعنكبوت ينسج.

انتهى عهد النوم
هناك أيضا سؤال عن معنى الهجرة والارتحال من منطقة وقوم بعينهم إلى منطقة جديدة، وهي زاوية أيضا مهمة في فهم هذه الظاهرة. فأتباع عيسى مشوا على الطرق الرومانية المعبدة إلى روما، وكسبوا الأتباع في طول الرحلة من الأمصار التي سلكوها. وهذه الظاهرة قام المؤرخ البريطاني (جون أرنولد توينبي) بدراستها لتشكل ظاهرة في تاريخ الأنبياء والمصلحين الاجتماعيين.
(ماو تسي تونغ) سافر في رحلة عشرة آلاف كيلومتر ليؤسس في الشمال جمهوريته الصغيرة، قبل أن ينزل إلى الجنوب ليغير كامل الصين، وهنا لا يهم أو نحن لا نركز على السلبيات والإيجابيات، بقدر تركيزنا على الظاهرة. كذلك حصل مع بوذا التي مشت دعوته إلى اليابان، وكانت في الهند. ومنه ذكر القرآن أنه ليس بدعا من الرسل. وفي الحقيقة فإن ارتياع رسول الرحمة مما حدث معه له ما يبرره؛ فهو رجل بسيط عادي، بنى عائلة سعيدة وزوجة متفانية في حبه، وفجأة يرجع ليقول لخديجة: «لقد انتهى عهد النوم»، وعليه أن يقوم الليل إلا قليلا نصفه أو ينقص منه قليلا أو يزيد عليه ويرتل القرآن ترتيلا لأن قولا ثقيلا سينزل على قلبه. في صدمة غير متوقعة من الغيب المجهول. وعليه أن يتلقى كلمات ليتحدث بها إلى الناس في مفاهيم انقلابية، فماذا يتوقع؟ أحيانا أستغرق في الخيال، فأقول لو قام رجل من بيننا ليتحدث عن أمور في عالم الواقع ليقول إنها غير صحيحة.
أتذكر من الوردي، عالم الاجتماع العراقي، حين يقول: «لنتصور أنفسنا في الطائف وقد جاءنا رجل يتحدث بأمور صعبة التصديق وغير مقبولة، حسب العرف الاجتماعي، يا ترى أين سيكون موقعنا؟ هل كنا سننصر هذا الرجل المهووس، أم نكون مع فريق الضاربين؟ بالطبع نحن الآن نقول لا.. لا.. سنكون من ينصره، فهو رسول الله؟ في وقتها لم يكن في أعين الناس رسولا، بل ساحرا وشاعرا وكاهنا ومجنونا يتربصون به ريب المنون».
صديقي مصطفى الصناديقي حدثته عن قانون الدجاجة المجروحة، قال: «نعم تعرفها والدتي جيدا، التي تربي الدجاج. حين تشذ في قن الدجاج دجاجة فيخرج منها الدم بجرح فهي لا تسعفها، بل ترى غرابة وخطورة في شريكة القن فتقبل على المصابة، ليس إسعافا ورحمة، بل نقرا في مكان الجرح حتى الموت».
هذا القانون الغرائزي ينطبق أيضا في مجتمع البشر، حين يشذ أحد الأفراد، فيرونه خطيرا وغريبا وعجيبا، كما ذكر القرآن مرادفات كلمة عجيب وعجب وعجاب، والسبب هو اجتماعي بيولوجي بحت؛ ونحن الأطباء نعرف من عالم الأمراض العضوية أن المريض المصاب بالفشل الكلوي حين تزرع له كلية لإنقاذه، يرى فيها عضوا غريبا فلا يرحب به ويقاومه من خلال جهاز المناعة؛ فيقوم الأطباء بترويض جهاز المناعة وإضعافه إلى الحد الذي لا يقاوم الجسم الغريب، وهنا هي الكلية المزروعة، مع المحافظة على بضعة فرق هجومية لإنقاذ الجسم من إنتان ماحق. كذلك الحال في علم الاجتماع، حين يشذ فرد على القانون فيعتبرونه مجرما يجب التخلص منه، هكذا فعلوا بالأنبياء والمرسلين والمصلحين فقتلوا مارتن لوثر كينغ وغاندي، ونجا رسول الرحمة (ص) من مؤامرة خطيرة لقتله وأكثر من مرة، ويكرر القرآن «وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب؟».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى