شوف تشوف

فسحة الصيف

شخصية الرسول (صلى الله عليه وسلم)

بقلم خالص جلبي

مازالت شخصية الرسول «ص» موضع دراسة من كثيرين، ولعل قطب في كتابه «في المعالم» حام حول المعنى في فصل جيل قرآني فريد. فالشيخ من المتصوفة قد يؤثر في العشرات أو كما في المسيح مع 13 حواري انتهى بخيانة أحدهم ومحاولة تصفيته جسديا. وهي قضية حرره القرآن أن لاصلب حدث بل شبهة صلب أما محمد «ص» فقد أنهى عمله في ربه قرن فأتمه وأحكم بنيانه ليتابع أصحابه الرحلة فالرجل «ص» عند الصحابة (رسول الله) كان بينهم مصباحا في الظلمات ولكل أمة شخصيات ملهمة، ووجود أمثال هذه الشخصيات يعد فلتة أو طفرة في التغير الاجتماعي. لكن مع هذا فهناك الكثير من الملهمات وأحدها هو التعرف على الشخصيات الفذة، ولكن دعنا نكتشف عالم الملهمات بالتدريج.

الملهمات في الحياة
أقول الملهمات في الحياة، أو ما يستحق أن يعيش له الإنسان، أو أشياء تدخله إلى عالم المعنى قد تكون حسب وجهات النظر متباينة وهي عندي مبدئيا ستة بواعث:
(1) أولها العودة إلى الطفولة: فهي رحلة إلى الجنة. هي عالم البراءة والاستغراق في اللعب مع بقية الأطفال ولو تباينت الأديان. أذكر هذا جيدا من طفولتي وحولي صبيان أرمن وسريان ويهود وأكراد وكاثوليك وآشوريين. كنا نلعب سوية بدون معرفة الفوارق التي يختلف عليها الناس ويتقاتلون. وربما ستكون الجنة هكذا ينزع من صدور الناس الغل وهم على سرر متقابلين. حاليا بدأت في تصوير حلقات في قناة خاصة بي بعنوان رحلتي في عالم الطب والفكر لمن يريد أن يتابعها وتصلح هذه الفكرة الرباعية كأحد تلك الحلقات أي بعنوان الملهمات الأربعة أو الخمسة أو الستة كما جاء في مطلع البحث. ونقرأ في الأنجيل والمسيح يقول للحواريين: أنكم لن تدخلوا الجنة حتى ترجعوا أطفالا، يقصد بها البراءة.
(2) ثانيها هي الموسيقى: التي تدخل تحت الجلد، ويرتفع بها الإنسان وينسى ما حوله. كما روي عن الضابط الفرنسي، الذي خشع مع سيمفونية بيتهوفن التاسعة، وانتصب في القاعة وقال جاء الإمبراطور. كان نابليون له ذلك الحضور البهي. أو تولستوي الذي كان يبكي مع الموسيقى، أو فيلم توبة السجن حين يعمد أحد السجناء إلى إطلاق موسيقى جميلة من خلال مكبر الصوت الذي يحتشد على نفيره المسجونون المعذبين. هذه المرة أصغى الجميع بخشوع لهذا التوازن الكوني الجميل الذي يحمل سر الوجود الموسيقى.
(3) ثالثها اكتشاف العلاقات الخفية: وهي من أعظم ما يصل إليه بشر، كما حصل مع ( أوجست كيكول) وهو محتار في فهم التكوين العضوي للكائنات، وكيف تتحول كلها في النهاية إلى فحم حتى رأى في المنام،كيف قامت حية في وجهه وهو في حيرة من فهم التراكيب العضوية ليصل الثعبان في النهاية إلى التقام ذنبه وتشكيل حلقة، فكانت الحلقة الكربونية أم الكيمياء العضوية. وهذه الظاهرة متواترة في حقول شتى: حساب التفاضل والتكامل عند لايبنتس. المنهج الرباعي للتحليل عند ديكارت، الغزالي ومبدأ الشك للوصول إلى اليقين. باسكال مع الخواطر. إقبال وقراءة القرآن. فيثاغورس ومبدأ وجدتها. وهذا الفيض موجود عند كل واحد منا في طابق مافوق الوعي؛ حيث أن الوعي عندنا ثلاث طبقات ماتحت الوعي والوعي ومافوقه.
(4) أما الرابعة فهي الغرق في كتاب أو رواية فيخرج منها بغير النفس التي دخل بها، وهو الشيء الذي حدثني به هشام علي حافظ مؤسس دار النشر في جدة حين قرأ مقالتي حول صراع ولدي آدم فمنحني جائزة أفضل مقالة في الصحافة العربية. قال لي حين التقيت به في بيروت مقالتك دخلت بها بنفس وخرجت منها بغير مادخلت بها. وكما وصف (إيمانويل كانط) فيلسوف التنوير الألماني، أن كتاب (ديفيد هيوم) وهو فيلسوف الشك البريطاني أيقظه من نوم. أو ما حصل معي في قراءة رواية (آخر الراحلين) عن فناء شعب قفقاسي، أو كتاب «مسألة الآخر» كيف أفنيت شعوب الأمريكيتين، لأستاذ بلغاري الأصل ويدرس في السوربون هو (تزفيتان تودوروف). وقبل هذا القرآن الكريم الذي يصف الإنسان أن يكون ميتا فتدب فيه الحياة ويشع بالنور في ظلمات الغافلين.
(5) وخامسها هو الحب الذي يمنح الحياة سعادة ما بعدها سعادة، حين يكتشف نصفه الآخر فيغرق النصفان ليمنحا حياة لجيل جديد. وهو ما كان معي، ولمسته عند مالك بن نبي في آخر كتبه المعنون بـ»العفن». وأذكر جيدا مدرسة أنتونيو داماسيو وهو رئيس قسم أمراض الصرع في كاليفورنيا حين قام بدراسة العواطف ليحددها كما كانت في الألوان إلى سبعة؛ فإذا كانت ألوان قوس قزح تتراوح من الأزرق إلى الأحمر، كذلك كانت العواطف بين الحب والكراهية والفضول والخوف والحزن. ويبقى الحب أعظم تلك العواطف التي تجعل الإنسان أحيانا يقدم حياته لمن يحب. وهي قصص معروفة ومكررة.
(6) أما سادس الأشياء، فهو الذي سيدخلنا إلى مشروعنا الذي نعمل عليه في فهم سيرة رجل ليس كالرجال، فالكل من طينة آدم، ولكن يخرج من الطين بشرا ليس كالبشر، وهو ما حير النصارى حين رفعوا عيسى إلى مقام الألوهية، ولم يفعل محمد في تعليماته المكررة، إلاالعكس في نفي الألوهية عن نفسه، وأنه بشر ممن خلق. مع ذلك فهناك فرق شتى تورطت في هذه الخرافة فرفعت مثل علي كرم الله وجهه إلى مقام الألوهية وهي فرقة موجودة في بلاد الشام ويمكن مراجعة كتاب الفرق بين الفرق للقرافي وابن حزم والشهرستاني لمعرفة المزيد عن طبيعة هذه الانحرافات.

مدخل لفهم شخصية نبي الرحمة
إذن نحن أمام ستة أشياء تهب المعنى في الحياة أن تكون رائعة ومطلوبة ومحبوبة. بين الطفولة والموسيقى والكتب والاكتشافات والحب الأسمى والاجتماع بشخصيات مميزة ملهمة قيادية كارزمائية فيها من الصفات مثل تألق الكواكب، فطوبى لمن عاشر ورأى مثل هذه الشخصيات في حياته. كل هذا الكلام من أجل الدخول لفهم شخصية نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم. وأفضل ما يمكن وصف هذا الرجل (ص)، ما قالته عائشة رضي الله عنها عنه حين سألها بعض الناس أن تصفه، فقالت كان خلقه القرآن. وإذا كان هذا مفتاح فهم شخصية هذا الرجل، فعلينا إذن مراجعة قصصه في القرآن.
يمكن أن نراه في سورة «المزمل» مثلا، كيف رجع مرعوبا، ولكنه ذهب بشرا وعاد نبيا مرسلا. كما يمكن أن نراه في النهاية في معركة الخندق، والناس زلزلوا زلزالا شديدا وهو يبشرهم بفتوحات أبعد من الجزيرة العربية، وأحدهم لا يتجرأ أن يخرج ليقضي حاجته، أو في الغار وهو هارب من مكة مطلوب رأسه، والأعداء يطوقون المكان، ولو نظر أحدهم موضع قدميه، لكشف الهاربان محمد (ص) وأبو بكر رضي الله عنه، وهو يقول له اهدأ يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما. أو في آخر الرحلة في سورة «التوبة»، وكيف عامل من تخلف عن الغزوة. في قصة كعب بن مالك في مقاطعة اجتماعية دامت 50 يوما، وهي قصة يجب روايتها على نحو مستقل في سياق عرض السيرة حين يأتي مكانها.

إنك لعلى خلق عظيم أعظم
ما قدمه القرآن أنه يمنحه الشهادة أنه على خلق عظيم، وهو مع هذا الجبروت والرفعة يزداد تواضعا، لأن روحه مليئة شبعانة. أذكر من هتلر حين دخل باريس فاتحا، كيف وضع كفيه على خصريه و(فرشخ) بين رجليه، وكيف فعل رسول الرحمة (ص)، وهو يدخل مكة فاتحا وقد انحنى على الجمل حتى لامس عثنونه ظهر الناقة (العثنون الشعر أسفل الشفة السفلى).
ويمكن من خلال تتبع سيرة هذا الرجل (ص) أن نرى تتابع التحولات بعد صدمة الوحي. نراه في معركة بدر في التحول الثاني، بعد محاولة قتله بمكة وهو الانعطاف الأول، ثم التحول الثالث حين كان في معركة الخندق، حين انتبه إلى انكسار الميزان العسكري في الجزيرة العربية، فيقول بعدها الآن نغزوهم ولا يغزونا. ثم الانطلاقة الأخيرة في معركة تبوك، وهو يزحف بثلاثين ألف مقاتل لمواجهة بيزنطة في الشرق الأوسط، وهو بذلك أرسى حدود المواجهة القادمة مع بيزنطة، حيث رسا مجتمع جديد في الجزيرة العربية. ليتابع حوارييه من بعده انسياح الإسلام في الأرض حتى اليوم. وهي رؤية استراتيجية من لدن حكيم عليم، حين يخبر عن هزيمة تلحق بالفرس على يد الروم، وأنها ستحصل في بضع سنين وقد تحققت، وهي أيضا قصة لوحدها سوف نذكرها في وقتها، وكانت رهانا كبيرا؛ فكيف لو تبين عدم صحة الخبر، أو بالعكس هزمت بيزنطة؟
هذا الرجل بدأ وحيدا يتعبد، ولم يكن يطمح إلى شيء سوى الهدوء الروحي، فجاءت العاصفة في غار حراء؛ فلم يعرف النوم بعدها. كان يتعبد حتى تتفطر قدماه، ويجلس إلى الناس فيعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. وكان ذو شخصية كاريزمية محبوبة لمن حوله، وكان في خدمة الجميع. إذا استوقفته امرأة في السوق سمع لها حتى النهاية. وإذا دخل عليه قوم يسألونه في قضايا جنسية يجيبهم بدون تردد.

ثروة أخلاقية وعلمية
كان إذا أخطأ أحد لم يكن قاسيا عنيفا، بل رحيما معلما. لم يكن فظا لينفضوا من حوله، ولم يكن مهملا في صغيرة وكبيرة. إذا مشى كأنه ينحدر من صبب، وإذا قامت ضجة في الصباح وارتعب الناس رأوه راجعا، وهو راكب فرسا بدون سرج، يقول لهم لن تراعوا إنها مجرد قافلة تمر. ولم يكن يختلف عمن حوله كرجل دين بجبة وعمامة وقفطان وغطرة فيسأل الرجل أيكم محمد؟ (ص)
كان مع زوجاته في غاية اللطف، يترك عائشة في المسجد تتسلى برؤية الأحباش يرقصون، فتستند على ظهره حتى تمل. وإذا طالبنه بالتوسع في الحياة يعتذر، ويقول لكن أحد خيارين: الدنيا فتأخذن، أو العيش معي فتصبرن على الفقر. هكذا هي القيادات. وحين يلتقي بأهله بعد فتح مكة ويبدأ في توزيع الغنائم بسخاء، يقول بعض الأنصار لقد نسينا، فيجمعهم ويخطب فيهم موعظة سالت لها العبرات، حين قال ألا يرضيكم أن يذهب هؤلاء بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رحلك، ثم يدعو بالبركة لنسل الأنصار، وهي بركة باقية حتى اليوم وكل من عاش في المدينة يثني على أهلها. لأن معظم من سكن جاور هذا الرجل بركة حتى في رفاته.
يصلي يوما فيسرع فيسلم، ثم يركض إلى البيت ويرجع. يسأله البعض، لا يتردد في الإجابة أن ثمة مالا في البيت يجب التخلص منه. هذا ما وصل إليه تولستوي في آخر حياته. وحين مات رسول الرحمة (ص) لم يترك خلفه درهما ودينارا، بل ثروة أخلاقية وعلمية. هكذا هي القيادات. وحين كان في المعركة يكون أول المقاتلين، وإذا خطب لم يطل وعلا صوته واشتد انفعاله. يعامل من حوله بالسوية، وإذا كان في معركة وسوى الناس صفوفا، يقول سواد الصحابي لقد أوجعتني بالعصا التي في يدك، من أجل أن يقبل بطن المصطفى (ص) قبل أن يموت.
لا غرابة أن وضع الأمريكي مايكل هاردت في كتابه «المائة الأعظم في تاريخ الإنسانية»، أولهم محمد (ص). ويختصر الفيلسوف المصري عبد الرحمان بدوي القصة عن صناعة الإنسان الكامل، لا غرابة أن يتغنى الناس في مدحه حتى اليوم من عرب ومن عجم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى