شوف تشوف

الرأي

شجرة الأرز أزهرت…

سعيد الباز
ظلّ لبنان بلدا عربيا استثنائيا، ليس في موقعه الجغرافي فحسب، أو جواره الإقليمي الأكثر خطورة من أيّ بلد عربي آخر، بل في تركيبته الدينية والعرقية أحيانا أخرى. في المقابل، هناك لبنان آخر أكثر استثناء، لبنان الفن والثقافة والفكر. هذا البلد الصغير في مساحته وفي عدد سكانه وبثرواته المحدودة، استطاع أن يمتلك تأثيرا واسعا في المنطقة العربية، متجاوزا في الكثير من الأحيان دولا أكبر منه بفضل حيوية شعبه وقدرته على تجاوز التحديات التي اعترضت طريقه عبر تاريخه منذ استقلاله المبكر مقارنة بالكثير من البلدان العربية..، لأنّ الصورة التي ظلت مسيطرة على أذهان الناس، والعرب على الخصوص، حول لبنان، أنّه بلد منقسم على نفسه يتميز نظامه السياسي بالضعف والهشاشة وقابل للانفجار في أيّة لحظة.
هذه الصورة العالقة في الذاكرة التاريخية للماضي القريب تعود إلى فترة الحرب الأهلية، حيث انهارت فجأة الدولة اللبنانية ودخلت البلاد أتون حرب طويلة اقتتل فيها الفرقاء اللبنانيون باسم طوائفهم وتحت شعارات متعددة وطنية وقومية أو يسارية أو حتى شوفينية انعزالية، إضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين ممثلين بمنظماتهم السياسية والعسكرية. استمر الاقتتال وغياب الدولة ومحدودية تأثيرها على الأحداث الدموية وعملية النزوح الهائلة للمدنيين عن قراهم وبلداتهم، إلى دخول أطراف خارجية بشكل علني، كالاجتياح الإسرائيلي من جهة والجيش السوري من جهة ثانية.
انتهت الحرب الأهلية بدمار شامل للبلاد على المستويين السياسي والاقتصادي، وخلفت وراءها الآلاف من المفقودين والجرحى، وما زالت آثارها حتى اليوم بارزة للعيان، بفضل اتفاق الطائف سنة 1989 الذي أقرت به كل الأطراف المتصارعة من أجل بناء الدولة اللبنانية من جديد على أسس أخرى، من أهمها تقوية النظام والتقليل من النفوذ الطائفي المهيمن على الدولة والمجتمع.
الآن يظهر على الساحة اللبنانية، بعد ثلاثين سنة من اتفاق الطائف، وبشكل مفاجئ، حراك شعبي غير مسبوق لا يعلن فقط عن فشل المنظومة السياسية وحدها، بل فشل الاتفاق برمته، ويدعو من جديد إلى ضرورة القيام بإصلاحات سياسية مستعجلة من أجل إنقاذ لبنان من أزمته البنيوية. فاتفاق الطائف، الذي أتى من أجل إيقاف الحرب الأهلية ووضع نصب أعينه القضاء على النظام الطائفي في المدى البعيد، وإقرار مساواة بين الكتلتين الكبيرتين المسيحية والمسلمة، وجد نفسه تقريبا، ومع مرور الزمن، وقد تحول إلى آلية لتكريس نفوذ النظام الطائفي الذي لم يتغلغل فقط في مفاصل الدولة وحدها، بل صار حالة ريعية على شكل لوبيات اقتصادية نافذة، نمت بشكل سرطاني ما أدى إلى خنق الاقتصاد اللبناني وانهيار بنياته الأساسية. من أهم تجلياته الكبرى فشل معالجة المشكلة المزمنة لقضية النفايات، ثم حل معضلة الكهرباء وغيرها من الخدمات الاجتماعية الأساسية، وأخيرا الهبوط الحاد لليرة اللبنانية وتفشي التهريب الذي يهدد موارد الدولة بالسكتة القلبية.
الحراك الشعبي اللبناني اليوم بشكله المختلف يثير انتباه أغلب المتتبعين، وخاصة العرب منهم الذين ذهلوا كثيرا بالهيئة الاحتفالية للمتظاهرين اللبنانيين، مركزين على مشاهد الصبايا اللواتي يرقصن والشباب الذين جعلوا من التظاهر طقسا للتعبير عن الفرح والابتهاج، واكتشف الجميع وجها آخر للشخصية اللبنانية غير تلك الصورة الموروثة عن الحرب الأهلية بقسوتها وبشاعتها. هو بالضبط ذلك الوجه الآخر للصورة الحضارية الجميلة للشعب اللبناني. لبنان فيروز والرحابنة، لبنان وديع الصافي ومارسيل خليفة، لبنان حركة «شعر» وقافلة طويلة من الكتاب والمفكرين الذين ساهموا في تشكيل الذهنية العربية المتنورة والحداثية… دون أن ننسى ريادة لبنان على مستوى النشر والطباعة والإعلام.
فهل يمكن اليوم أن نقول، بعد أن توحد جلّ اللبنانيين ومن كل الطوائف في وجه الطائفية، إنّ شجرة الأرز أخيرا أزهرت؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى