شوف تشوف

الرأي

شباب إلى الأبد (فلسفة علم التبريد)

بقلم: خالص جلبي

عندما عرض المتطوع الطيار الشاب ماك كورماك نفسه للتجربة السرية، في المختبرات العسكرية الأمريكية، قسم التبريد والمعالجة المديدة تحت العزل المطبق عام 1939 للميلاد، عشية نشوب الحرب العالمية الثانية، على أن يدوم الاختبار لمدة سنة واحدة فقط، كان دافعه الكبير لهذا نسيان الفتاة التي أحبها، عقب تعرضها لحادث مروري، غرقت بعده في غيبوبة مطبقة لفترة أشهر طويلة؛ فقال للمشرف على المشروع: «إذا رجعت حبيبتي إلى الحياة فأيقظني، وإلا فلا يهمني كم سأبقى تحت الاختبار». الشيء الذي لم يخطر في بال الطيار الشاب، أنه سينام في التابوت المبرد حتى العام 1992 ميلادي، في غيبوبة رهيبة لفترة تزيد على نصف قرن!
مات أثناء التجربة العالِم الذي أشرف على التجربة، وكبرت ابنته فأصبحت أكبر سنا من الطيار، الذي سُيبعث إلى الحياة شابا، كما كان في عام 1939 م؛ فالتبريد حافظ على خلاياه الشابة كما كانت ولكن إلى حين.
وعندما استيقظ الشاب المنسي، في قاعة مهملة من مستودعات الجيش الأمريكي، من تابوت اختبار التبريد المديد، بعد أن عبثت فيه يد بعض الأطفال بمحض الصدفة (فهكذا عرض الفيلم القصة زيادة في التشويق وشد انتباه الأطفال)، فانطلق غاز النشادر متبخرا، وانتفض جسد الشاب يرتعش من البرد القطبي الغاطس فيه، ليرى العالم قد تغير، فأصبح خلقا جديدا، ونشأة مستأنفة، وعالما مستحدثا. يكتشف الطيار (ماك كورماك) أنه خلال سباته العميق، انفجرت القنبلة الذرية في اليابان، ألقاها زملاؤه في سلاح الطيران، على رؤوس الناس في هيروشيما، ويرى مصعوقا تطوير طيارة الهليكوبتر العمودية، ويؤخذ مدهوشا بقفزة علم الإلكترونيات وشاشة التلفزيون، التي تذكر بعالم الجن والأساطير، تنقل الأحداث بالصوت والصورة بسرعة الضوء، مخترقة العالم من أقصاه إلى أقصاه، في عالم جديد سحري زاه لم تعهده عيناه من قبل. ولكن الفيلم يحمل مفاجأة مزدوجة؛ الأولى منها: أن هذه النومة لم تختصر له الزمن، ففي خلال فترة قصيرة، بعد بعثه من مرقده، تهوي خلاياه من جديد وباتجاه متسارع رهيب، لتعوض كل السنوات، ولكن بسرعة أيام وساعات، فهو الذي ولد عام 1907 ونهض في عام 1992 للميلاد، بعد ثلاث وخمسين سنة، من المفروض أن تتسارع خلاياه بسرعة لتلحق بالشيخوخة، حتى يصبح وفي فترة قصيرة لا تتجاوز العام الواحد شيخا عجوزا في الخامسة والثمانين، يجر أقدامه المتعبة من طول الأيام وكر السنين، فالتبريد لم يجدد الخلايا، ولم يحافظ عليها في وضع الشباب إلا لشهور معدودة. كل ما فعل التبريد أنه أوقف التسارع، فلما استيقظ الرجل من نومة أهل الكهف، هُرعت الخلايا التي رجعت إلى ذاكرتها المخدرة، لتعوض الوقت الطويل الذي مر، والتخلف الذي عاشت فيه، فإذا به في فترة قصيرة قد تيبست مفاصله، وتراجعت حيويته، وابيض شعره، واشتعل رأسه شيبا، وتجعد جلده، وتغضنت قسمات وجهه، وبدأ ظهره في التقوس، حتى خلاياه أظهرت وضعا حير الأطباء، فشكله كان شبابا، ولكن صيغة الدم كانت تشير إلى مرض البروغريا (PROGERIA)، ففي هذا المرض تصاب الخلايا بمرض العجلة والندامة، فالطفل ذو السنوات العشر، يستهلك خلاياه لتحوله إلى شيخ في الثمانين. وأنا شخصيا رأيت في حياتي الطبية حالة
واحدة لا أنساها قط، وفاتني وندمت أني لم أصورها قبل موت صاحبها بأيام، لأضمها إلى أرشيفي الطبي.
والمفاجأة الثانية كانت: معرفته أن حبيبته التي تركها في السبات العميق استيقظت فعاشت، وتزوجت فأنجبت، ومات زوجها، وهي ما زالت على قيد الحياة؛ فانطلق يبحث عنها لا يلوي على شيء، وعندما رآها عجوزا في الثمانين، تركت السنون آثارا لا تمحى من تجاعيد الأيام على قسمات وجهها، صعقت لرؤيته لأنه اختفى من حياتها منذ نصف قرن. وقف يتأملها واليد ترتجف والعين تبكي، وكانت العبارة الأولى التي نطقها، وطالما كان مترددا في قولها لها؛ بصوت تخنقه العبرات: «بعد أن ولى الشباب، وفرقتنا الأيام، وخطفك مني المرض والحادث… هل توافقين على أن نتزوج الآن؟».
إن هذا الفيلم يقص علينا تطورا مثيرا في تطويع (ظاهرة البرد) للعلم، فنحن اليوم نستخدم التبريد في التخدير والجراحة والحفاظ على الحياة في التجميد، بل والطعام في الثلاجة وهو شيء لم يكن يتصوره أجدادنا، ونقل لنا التاريخ أريحية صلاح الدين الأيوبي وهو يسقي ريتشارد قلب الأسد قدح الماء المبرد. وانطلاق العلم لهذا كان من تحدي عمليات جراحة القلب المفتوح التي تريد جوا هادئا وحقلا جامدا، لإمكان وضع ريشة الجراح عليه، في إصلاح العيوب والخلل، ولكن إيقاف حركة القلب معناه موت الإنسان. إلا أن الذكاء الإنساني حل هذا اللغز، بتطوير الجراحة عن طريق التبريد.
مع مطلع هذا القرن وقف الأطباء أمام تحد يبحثون عن حل له. كيف يستطيعون التداخل في جراحة القلب بإيقاف حركته؟ السبب في هذا اللغز هو تأثير البرد على القلب، فمع انخفاض درجة الحرارة يصاب القلب بالرجفان فالتوقف فالموت، كما أن الدم يتخثر في العروق مسببا كارثة كاملة لكل جهاز دوران الدم، وتخريبا شاملا لكل الأعضاء النبيلة، وكان على العلم أن يحل كلا اللغزين. وكما اكتشف (برايل) الأعمى عندما خسر بصره من إبرة الخياطة الكتابة للعميان من نفس الإبرة المدمرة لتطوير القراءة باللمس. كذلك فعل الأطباء مع ظاهرة البرد، فاكتشفوا قوانينها وطوعوها لخدمة الإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى