شوف تشوف

الرأي

شاهد قبر منسي

يونس جنوحي

هل يمتلك المسؤولون في المدن والقرى المغربية أي حس ثقافي بضرورة صيانة الأرشيف؟
لا نتحدث هنا عن الوثائق وأقسام الأرشيف في الإدارات العمومية، ولكن عن صيانة الذاكرة الجماعية والتوثيق لتاريخ البلاد عبر جمع كل ما يتعلق بتاريخها من معطيات.
مناسبة هذا الكلام، أن مؤسسة أمريكية عريقة أفرجت هذه الأيام، وبشكل استثنائي، عن آلاف الوثائق الأرشيفية لديها، بما في ذلك أرشيفها من الأفلام.
إذ حولت مؤسسة “هانتلي” أرشيفا مهما من الأشرطة المغناطيسية القديمة، وجعلتها رقمية مما يتيح لملايين الفضوليين حول العالم مشاهدتها.
ساعات طويلة من الأرشيف، سيكون صادما عندما تبحث عن المقاطع التي صورت بالمغرب، أن أغلبها إن لم نقل كلها، قد صورت في مدينة طنجة وحدها ما بين سنوات 1930 و1970.
وهذه الأشرطة الصامتة، توثق بالأبيض والأسود، وبعضها فقط بالألوان، للحياة العامة في طنجة الدولية.
يتساءل كثيرون لماذا يتم التركيز على طنجة دون غيرها من المدن. والجواب بسيط جدا لأن هذه المدينة لعبت دورا كبيرا في التاريخ، وخلال السنوات الأخيرة أراد لها البعض أن تتقاعد من دورها التاريخي وترمي كل ما تحمله من تاريخ لتبدو مثل أي مكان آخر. والحال أن طنجة من الأماكن القليلة جدا في العالم التي كُتب عنها بكل اللغات تقريبا.
أشهر الكتاب العالميين في القرنين الأخيرين مروا من طنجة، وأرقى الفنانين في أمريكا وأوروبا زاروا طنجة واشتغلوا بها، وجل الأعمال عنها، بما فيها أعمال أبنائها الأصليين، ترجمت إلى الإنجليزية ليطلع عليها الملايين عبر العالم.
من المقاطع المثيرة التي وفرتها هذه المنصة الرقمية، مقطع يتعلق بزيارة إلى مقبرة يهودية قديمة، حيث كان الأطفال المحليون يتجولون بين القبور، بلباس مغربي بسيط، وينطون للحصول على حلويات يوزعها عليهم سياح سنة 1960.
ورغم أن الذين جمعوا هذا الأرشيف لم يصفوا بدقة المكان، إلا أن أهل طنجة والعالمين بخبايا أزقتها لن تختلط عليهم المقابر، ويكفي أن ينظروا إلى منظر المنازل البعيدة التي تبدو في الصور لكي يحددوا المكان حاليا بدقة.
زيارة واحدة إلى المقابر المنتشرة في هذه المدينة، للمسلمين وغيرهم، كافية للوقوف على الماضي البعيد الذي عاشته هذه المدينة، والذي لن يتكرر.
الآلاف من مختلف الجنسيات عاشوا هنا وماتوا بين أهل طنجة، وأوصوا أن تنقش كتابات غريبة فوق قبورهم.
ترى أن بعضهم حلموا بتغيير العالم من طنجة، وآخرون طلبوا أن يُدفنوا في مقبرة على الجبل، تطل على مضيق جبل طارق، وكأنهم يوفون بنذر قديم مع الحظ الذي قادهم إلى اجتياز هذا المضيق واكتشاف مدينة قلما وُجدت مدينة مثلها فوق الأرض.
سبب كل هذا الزخم الذي يجعل الأجانب يتعلقون بهذه المدينة هو موقعها الجغرافي، إذ أنه لا توجد مدينة أخرى في العالم تربط بين قارتين متباعدتين جدا من ناحية مؤشرات النمو والاقتصاد، بقدر ما تربط طنجة بين أوروبا وإفريقيا.
المقطع يوثق لصور شواهد قبور باللغة العبرية، ويبدو أنها قبور لسكان أصليين من الأقليات اليهودية التي استقرت في المدينة منذ قرون خلت. ثم ينتقل الشريط إلى تصوير شواهد قبور مواطنين إنجليز، أغلبهم وضعوا أقوال فلاسفة واقتباسات من الإنجيل، حتى أن بعضها تتغنى بالإنسان.
إذا سعى أحد ما إلى إجراء بحث لتوثيق شواهد قبور الأجانب داخل مقابر النصارى واليهود في طنجة، فلا شك أنه سوف يجد المفاجآت. إذ أن بعض الشخصيات المنسية منذ القرن الماضي، كانوا قد أوصوا بأن تنقش على قبورهم مقولات عميقة جدا، سواء من كتاباتهم، أو من كتابات فلاسفة وأدباء تأثروا بهم قيد حياتهم. وكلهم الآن جزء لا يتجزأ من التاريخ المنسي لهذه البقعة من الأرض.
كان هذا في زمن كان الناس خلاله يقدسون الأدب ويجعلونه مرافقا إلى المقبرة. قبل أن يأتي هذا الزمن الهجين، حيث يكتفي المشرفون على المقابر بوضع رقم بخط رديء فوق القبر في انتظار أن تقتني العائلات شواهد قبور من الرخام، كما لو أن الأمر يتعلق بعينة تنتظر التحليل في المختبر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى